هل أوروبا حمامة سلام فعلا؟

كتب سياسية وفكرية عمرها قصير بقصر عمر الإدارة الأميركية

TT

اثارت المقالة التي نشرها روبرت كيغن في مجلة «فورن بولسي» (السياسة الخارجية) عدد حزيران ـ تموز عام 2002، بعنوان «الفردوس والضعف» الكثير من الجدل والنقاش. ثم عمل الكاتب على توسيعها فخرج بها علينا في حلة كتاب صغير بـ 104صفحات من القطع المتوسط، عنوانه «عن الفردوس والقوة: واوروبا في النظام الدولي الجديد»، وفي بريطانيا «الفردوس والقوة...» هذا العام عن دار نشر اتلانتك بوكس.

الانشغال الذي حازه واثاره الكتاب ومن قبله المقالة، متأت من «سخونة» وآنية موضوع الكتاب، اذ يتعرض لاسباب الانقسام الحاصل بين الولايات المتحدة واوروبا، الشريكين السابقين في المسعى السياسي والعسكري. الذي يلامس العلاقة بين اوروبا والولايات المتحدة الاميركية، وهو موضوع يلامس ويعكس الى حد كبير المزاج السائد على جهتي الاطلسي، خاصة تداعيات الموقف من الحرب على العراق. وما يضاعف هذا الانشغال كون الكاتب روبرت كيغن مقربا من ادارة جورج بوش، وبالتالي فهو يعكس تفكير اولئك الذين يديرون دفة الولايات المتحدة، في عهد 11 سبتمبر، وكيغن موظف سابق في وزارة الخارجية، مختص في قضايا «الامن القومي»، وهو الآن كاتب عمود في صحيفة «واشنطن بوست»، كما انه من المحافظين الجدد، ذوي النزعة الريغانية اليمينية. ولعل الاهتمام والجدل اللذين اثارهما كتابه لا يختلفان كثيرا عما اشاعه كتاب آخرون مقربون من صناع القرار في الولايات المتحدة مثل صامويل هنتنغتون وفرانسيس فوكوياما وغيرهما. فكعادة مثل هذه الكتب، بعناوين طموحة مثل «نهاية التاريخ» أو «صدام الحضارات»، فإن كتاب كيغن يحاول ايضا الاتيان بقضية كبيرة او اختلاق قضية كبرى أو التركيز على قضية خلافية. ومما لا جدال فيه انه نجح في ذلك، فكتابه على صغر حجمه استحوذ على اهتمام الصحافة والسياسيين ورفع اسم صاحبه عاليا، عاليا، ولو الى حين.

الموضوع مثير وطازج الى حد كبير الا وهو ازمة العلاقة بين اوروبا والولايات المتحدة، او التفارق الكبير الذي كشف عن نفسه في عدة مجالات، خاصة ما اسفر عنه الموقف من العراق من انقسام واضح في الرؤى والافعال على جانبي المحيط الاطلسي. ويحاول كيغن في هذا الكتاب الصغير ان يقنعنا بأن شيئا كبيرا يحدث، ان هوة عميقة تتسع، ان ثمة نزاعا بين عالمين هما الولايات المتحدة واوروبا. وهو نزاع غير شكلي يتمثل في اسلوب التعاطي مع سياسات معينة داخلية مثيرة للخلاف او مع السياسة الخارجية للولايات المتحدة، خاصة التعامل مع المنظمات الارهابية والارهابيين والدكتاتوريين واسلحة الدمار الشامل. ان النزاع اعمق من ذلك بكثير، فالتوتر الذي برز للعيان اثناء الأزمة العراقية، يكمن كما يرى الكاتب «في قوة اميركا وضعف اوروبا». فالشريكان السابقان بدوا كأنهما يعيشان في كوكبين مختلفين، او مثلما يقول «ان اميركا من المريخ واوروبا من الزهرة»، مستعيرا مع تحوير بسيط عنوان كتاب اشتهر كثيرا بعنوان «الرجال من المريخ والنساء من الزهرة».

فالغرب، مثلما يرى الكاتب، كمفهوم وكينونة سياسية وعسكرية، شاملا جانبي الاطلسي، امسك عن ان يكون المبدأ الموحد للسياسة الخارجية مثلما كان الحال سابقا. كان على الاميركيين والاوروبيين الاتفاق ليحافظوا على وحدة الغرب، اما الآن فهم احرار في الا يتفقوا، وان يجعلوا الغرب منقسما على نفسه. وحالة الانقسام او تفكك الغرب الحالي، كما يشرح كيغن، تعود الى سببين:

اولهما قوة اميركا مقابل ضعف اوروبا، فالقوي لا ينظر بذات المنظار الذي ينظر به الضعيف الى الامور. فهما (القوي والضعيف، اميركا واوروبا) يقيسان المخاطر والتهديدات على نحو مختلف، ويحددان قضايا الامن بتباين واسع، ويتسامحان مع اللاأمن بدرجات وردود فعل متفاوتة ايضا. امريكا لديها القوة العسكرية لكي تضرب كي تدفع بقرارها الى حيز الفعل، والحرب هي الطريق الى السلام، في حين ان اوروبا غير قادرة على فعل ذلك، تأباه، فالقانون هو السبيل للوصول الى السلام وجلب الأمن الى البؤر غير المستقرة. وهذا ما جعل شريكي السياسة لعقود طويلة بعد الحرب العالمية الثانية، متنافرين، او بتعبير آخر، يقفان على منصتين وليس على منصة واحدة. وباختصار، اميركا تجنح الى الحل العسكري لأنها قوية، وأوروبا تجنح الى الحل الدبلوماسي والسياسي لأنها ضعيفة، مثلما نفهم من المؤلف.

اما السبب الثاني فيتمثل في اختلاف التجارب التاريخية التي شهدها الشريكان خلال نصف القرن الماضي، فاميركا باعتبارها قائدة «العالم الحر» حمت اوروبا ووفرت لها ما سعت اليه من امن خلال الحرب الباردة، فالتلويح او التهديد بالحل العسكري، واستخدامه في بعض الاحيان، كانا سلاحين مهمين في توفير الامن واحتواء المعسكر الاشتراكي ومن ثم القضاء عليه. اما اوروبا من جهتها فمالت شيئا فشيئا نحو التعاون والتسامح والتوحد، باعتباره اسلوبا اساسيا للحفاظ على السلام الذي اعقب فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، اذ دفعت اوروبا فيها ثمنا غاليا. كانا شريكين، اذن، على رغم اختلاف توجههما، وظلا عقودا معا لانهما كانا يواجهان انظمة شمولية. لكنهما الآن ليسا كذلك، او بتعبير دقيق، ما عادا وحدة واحدة، قلبا وقالبا، اسمها الغرب. فأوروبا فضلت حل النزاع مع عراق صدام حسين سلميا، بالتفتيش وليس بالقوة، ويخلص الكاتب الى القول: «ان قوة اميركا واستعدادها لاستخدام هذه القوة، على نحو فردي اذا اقتضت الضرورة، يشكلان تهديدا لما تريده اوروبا بتوجهها الجديد».

وهذا الوصف الذي جاء به للنزاع الاوروبي الاميركي، اذا صح التعبير ربما لا يصمد كثيرا امام التدقيق. فأوروبا، مثلما نفهم من الكتاب، تبدو واحدة، وعلى شكل حمامة سلام لا تريد ان تلطخ جناحيها بوحل التاريخ. اوروبا ليست واحدة والحرب الاخيرة مع العراق اظهرت ليس خلافا اوروبيا ـ اميركيا، كما يريد كيغن ان يؤكد، بل خلافا ضمن اطار البيت الاوروبي نفسه، فبريطانيا وايطاليا واسبانيا والبرتغال ودول البلقان ذهبت حيث ذهب الاميركيون، وامتنعت المانيا وفرنسا. وحمامة السلام الاوروبية فاعلامها ليست كلها بيضاء كما قد يبدو من الوهلة الاولى، فهي ليست تماما منشغلة «بوسائل سلمية ودبلوماسية»، فبريطانيا دفعت بالحرب وساهمت فيها، اما فرنسا التي احتجت رغبة منها في السلام فما توانت عن استخدام عضلتها العسكرية في ساحل العاج. فمثلما تقول التجربة: السياسة مصالح وليست مبادئ دائما.

ان الهوة التي يتحدث عنها الكاتب بين الشريكين لم تبلغ بعد حد القطيعة، او حد «الصدام الحضاري» وان كان يصعب في الوقت نفسه، مثلما يحدد الكاتب، رؤية الهوة وهي تردم في المستقبل المنظور. والمهمة، كما يقترح، هي على الاوروبيين والأميركيين ان يعترفوا ويعدلوا نظرتهما الى بعضهما البعض، فاميركا القوية والمهيمنة سعر معقول كي يظل الاوروبيون يعيشون في الفردوس.

وعلى الرغم مما اثاره هذا الكتاب من اهتمام فإن من المهم القول او الاشارة الى حقيقة ان عمر هذه الكتب قصير، بعمر الادارة الاميركية او اكثر بقليل، حاله في ذلك حال كتب كثيرة تأتي اهميتها من كون كتابها قريبين من مركز القرار ليس غير، وليس من قوة فكر اصحابها. وعادة ما تشتهر هذه الكتب بسرعة ثم تعاف بذات السرعة، اللهم الا اذا اشتهرت عندنا نحن العرب، اذ نحملها ونحمل اصحابها اكثر مما يجب، فحتى هذه اللحظة ما زلنا نناقش صامويل هنتنغتون وفرانسيس فوكوياما (تجري الاشارة اليهما في الغرب سخرية)، وكأنهما مفكران كبيران نناقش من خلالهما حضارة الغرب.

* الفردوس والقوة أميركا وأوروبا في النظام الدولي الجديد

* أتلانتك بوكس 2003

* الكاتب: روبرت كيفن عام 2003