جمهوريات الموز والرأسمالية المتوحشة

في مذكراته يكتشف ماركيز كولومبيا ويكشفها حتى أعماقها الغائرة في ذاكرة مواطنيها * ماركيز يحب دائماً حتى في زمن الكوليرا وهو بالتأكيد يحب كولومبيا * تختلط السيرة الذاتية بالرواية، بالمذكرات، والسرد التاريخي ـ الاجتماعي

TT

لا تستطيع ان تتخلّص بسهولة، وانت تقرأ سيرة حياة ماركيز، من الحبائل التي يحكيها حولك ليدفعك بسلاسة متعمدة الى التقريظ، فتتناسى شروط الكتابة النقدية ودورها في اضاءة النص بجوانبه السلبية، والايجابية كافة. ولا تستطيع ايضاً ان تفصل ما بين الحوادث المأسوية الرائعة المضطربة التي تشكّل السياق الروائي، وبين اللغة الغرائبية التي تشتبك في مدارات مغلقة ومفتوحة في آن، رغم محاولة الكاتب اخضاع النص لكلاسيكيات ظلّت غريبة عنه، وظلّ متواطئاً مع اسلوبه المعتاد. كما لا تستطيع ان تخضع هذا النص لتوصيف ادبي محدد او شبه محدد تدرجه في خانته، حيث تختلط السيرة الذاتية بالرواية «الفانتازي» بالمذكرات، بالرواية التاريخية الاجتماعية. هكذا وامام هذه الاشكاليات والمعايير المتداخلة، وغيرها، يجد القارىء نفسه في مهب النص، ولا يستطيع ان يلتقط انفاسه الا بعد ان يغلق الصفحة الاخيرة من الكتاب. تدور حوادث هذه السيرة على شخصية ثانوية رغم محوريتها، هي شخصية ماركيز بالذات المنتشر على صفحات الكتاب كافة. لنقرأ من خلاله الصراع بين كولومبيا اسيرة الحروب الاهلية والتقاليد البالية والنظام الفاسد وشركة الموز المهاجرة، ومن ورائها جمهوريات الموز اللاتينية وشعوب العالم الثالث من جهة، وبين الزمن الممطوط بغطرسته وعبثه وادمانه الترهل من جهة ثانية. طرفا الصراع هذان هما بطلا الرواية.

الزمن بطل الرواية الاول انه قاتل يحفر ندوبه في ملامح الناس المنتظرين عودة شركة الموز، ويتشظى متأثرا قبل ان يتجمع على محورين: محور الزمن العام، اي كولومبيا ومعها اميركا اللاتينية المرهونة لأمل عودة شركة الموز، هذا الامل الذي يشكل رافعة مميتة لشعب يمارس الانتظار بتثاقل وضجر. وكذلك هناك محور الزمن الخاص الذي به يستعيد ماركيز تكوينه البسيط الفقير الضائع الطامح ليصبح كاتباً رغم ارادة والده بتحقيق حلمه المنهار في ولده الذي يعدّه دون عدّة، ليصبح طبيباً.

يتحرك النص على هذا المحور ليكتشف ماركيز كولومبيا، ويكشفها حتى اعماقها الغائرة في ذاكرة مواطنيها، كل ذلك يدور في نص يدور دون تحقيب، ودون مراعاة لتسلسل زمني منضبط كما في السير الذاتية او المذكرات. تلتف كولومبيا مع النص على حالاتها، تتكشف تناقضاتها المناخية والثقافية والاجتماعية، تتدلى من آمالها المعلقة، تتأرجح في انتظارها الممض، وتسقط متهاوية في اسر الامل. ينحني النص فتنحني، يدور فتدور، يغور في اعماقها مداوراً حيناً ومباشراً حيناً آخر ومضيئاً دائماً. كولومبيا هي بطل الرواية الثاني، اخذتها جمهوريات الموز الى التعلق برأسمالية متوحشة غاوية ومخادعة مارست كل وسائل الافتضاح حتى افترست دهشة الناس وخيراتهم ورهنت مستقبلهم وانسحبت.

ويمر الزمن دون ضجيج، والناس ينتظرون.

الزمن وحدة قياس في النص لتراجع العالم الثالث، تخاله لا يمر، فلا احد يكاتب الكولونيل، والكولونيل ينتظر محاصراً بمائة عام من العزلة، وماركيز يأمل.

الامل يلازم العمل عند الكاتب، تجد النص يحفر بحثاً عن مستقبل لكولومبيا، لا يتحقق الا بفتح عيون شعبها، بتقديم التجربة الفذّة التي تحقق نجاحها بالاصرار. تجربة الكاتب بالذات.

ماركيز اصر ان يصبح كاتباً، رغم المعيقات، فلم يستطع الفقر والتشرد وقدرته المحدودة على استيعاب الدروس المنهجية المدرسية، والفشل ـ حتى الآن كما يعترف ـ من اتقان قواعد لغته، من اعاقته عن النجاح. الاصرار ليس عبثياً بل يسوّغ مرتكزاته ومقوماته من خلال عرض الوقائع التي تشكل ارهاصات للضوء المنبلج من زحمة العتمة المتراكمة.

نص يكتب كولومبيا، ام كولومبيا تكتب النص؟ اشكالية تبدو في صياغتها وقراءتها الاولى مدوية وغير نهائية. فتعاود ثرثرة القراءة فتكتشف حبائل ماكيز الابداعية، تعثر علىه يعيد صياغة كولومبيا من مستويات الواقع الافقية، العلاقات العابرة، تفاصيل اليوميات الدقيقة التي تخالها غير مؤثرة، الوقائع المهملة التي هي ادوات تبدو هشة للوهلة الاولى، لكن ماركيز يثقب بها ادبياً وابداعياً، السطح المخادع الصلب المسلح بالمخاوف والاوهام والآلام والارتدادات والطموحات، وينفذ الى عمق الواقع ليكشف عن علاقات متنوعة راسخة تقوم على انماط السلوك الفردي، ويكتشف حالة التشكل الهلامية التي تفور تحت السطح. ويلتقط حالة الصيرورة الفائرة المتفجرة التي لم تأخذ بعد حركتها المنتظمة وقوانينها الواضحة.

هذا الكتاب يكشف تاريخ كولومبيا الاجتماعي، انه هوية ممكنة لشعب تبرز ملامحه في ايداع ماركيز. يبدع ماركيز دائماً لانه يكتب عما يحب. هو يحب دائماً حتى في زمن الكوليرا، وهو بالتأكيد يحب كولومبيا.

* عشت لأروي

* المؤلف: غابرييل غارسيا ماركيز

* الناشر: البلد

* المترجم: صالح علماني