هنري لورانس: من مصر الى العراق عملية تحرير العرب تتواصل وكأنها لن تنتهي

المؤرخ والمستشرق الفرنسي يتحدث عن المدرستين الاستعماريتين الفرنسية والانجليزية ويرى أن هناك حالة «حب بغيض» بين أميركا والشعوب العربية

TT

هل الوجود الاميركي في العراق هو امتداد للمدرستين الاستعماريتين الفرنسية والانجليزية، ام هو تحول مفصلي في العلاقة بين الشرق والغرب؟ حول هذا الموضوع وغيره طرحنا اسئلتنا على المستشرق والمؤرخ الفرنسي هنري لورانس، فهو صاحب ابحاث عديدة حول الحملة الفرنسية على مصر وله من المؤلفات «الشرق العربي: العروبة والاسلام» و«المملكة المستحيلة» و«اللعبة الكبرى» واصدر مؤخراً كتاباً في جزءين حول القضية الفلسطينية. يشغل لورانس، حالياً منصب رئيس مركز أبحاث الشرق الاوسط في بيروت، ويبدأ سلسلة محاضرات في «كوليج دو فرانس» في باريس مع بدء الشتاء المقبل. وهنا نص المقابلة:

* كثر الكلام بعد الحادي عشر من سبتمبر حول صراع الحضارات، ثم تغيرت العناوين وسمعنا عن صراع الاديان ومن ثم الغرب والشرق ومؤخراً اميركا والعرب، فما هي حقيقة ما يحدث؟

ـ الوزير اللبناني السابق للثقافة، غسان سلامة، قال لا يمكن ان يكون هناك صراع بين الحضارات لان الحضارات ليست قضية سياسية. هذه نقطة اساسية. هناك موازين قوى ومصالح وتيارات ايديولوجية. المجتمع الغربي متعدد والمجتمع الاسلامي كذلك. ومن العبثية الكلام على كتلتين. ما نرصده الآن هو تحول في الدور الاميركي، وتغير في التحالفات، ولكن هل سينجح الاميركيون، هذا موضع شك كبير!

* لك كتاب حول نابليون بونابرت وحملته على مصر، ومن يعود اليه يلحظ ان ثمة تشابهاً مريباً بين الخطاب الفرنسي حينها والخطاب الاميركي الحالي لتبرير غزو العراق؟

ـ نعم التشابه مدهش، خاصة على مستوى المفردات المستخدمة. ففي يوليو 1798 وصل نابليون الى مصر واعلن عن رغبته في تحرير عرب مصر من السيطرة العثمانية. وخطاب التحرير هذا شهدناه في مراحل اخرى، فخلال الحرب العالمية الاولى قدّم الانجليز والفرنسيون انفسهم كمحررين للمنطقة. وهذا يظهر كيف ان الدول الديمقراطية تطرح نفسها عبر خطاب معين، لتبرير سلوك هو بحد ذاته غير ديمقراطي. هناك استمرارية على مستوى الخطاب، هو من الدرامية بحيث يصعب على الانسان ان يرى عملية التحرير تتواصل عبر الزمن وكأنها لن تنتهي، لا بد ان يكون العالم العربي قد تعب من كثرة التحرير.

* لكن مفردة «تحرير» تطلق في كل مرة، ضمن ظروف خاصة ولاهداف متباينة؟

ـ حين استخدم نابليون خطاب «التحرير» كان يحمل مشروعاً سياسياً ومشروعاً شخصياً ايضاً، فالرجل شخصية هائلة. وكان هدفه بشكل اساسي نشر مبادئ الثورة الفرنسية في العالم، واظهار انها لا تعني الفرنسيين وحدهم وانما البشرية جمعاء. وهو ما لا يلغي وجود اهداف اخرى عسكرية وجيوسياسية واقتصادية. اما حين طرح الانجليز والفرنسيون انفسهم كمحررين في الحرب العالمية الاولى فلأنهم كانوا يدعمون العرب ضد اعدائهم العثمانيين. ودعم قوة عسكرية لثائرين ضد اعدائها، هو من الكلاسيكيات في الحروب، ولفبركة خطاب دولي يتناسب والظروف السائدة ويتلاءم مع ما كان ينادي به الرئيس الاميركي ويلسون حول حق الشعوب في تقرير مصيرها، عاد الحلفاء الى مفردة «التحرير». أما اليوم فالظروف مختلفة لان المطروح هو تحرير شعب من نظامه لا ممن يعتبرون غرباء عنه، وهو أمر سيء. وها نحن نجد انفسنا لمرة جديدة، امام دولة ديمقراطية تسعى لان تحول نفسها الى امبراطورية، وهو ما يتنافى مع مبادئها، لذلك يتم تشكيل خطاب يتناسب وصورة هذه الدولة. او ايديولوجيتها الخاصة. وهي صعوبة لم يواجهها الانجليز.

* وهل كان الانجليز حالة استثنائية؟

ـ الامر مختلف حين يتعلق بملكية تطلب التوسع. اضافة الى ان الانجليز قدموا انفسهم بصورة ابوية وطرحوا شعار «عبء الرجل الابيض» بمعنى ان الرجل المتحضر الابيض يحمل مسؤولية غير المتحضرين ويضحي من اجل تحضيرهم.

* اختلف الشعار والنتيجة واحدة، والقصد ان ثمة متحضرين يهبون لمساعدة متأخرين عنهم، ويعينون انفسهم اوصياء عليهم؟

ـ ليس تماماً لان الفرنسيين كانوا يتحدثون عن «مهمة حضارية»، اي ان فرنسا تحمل فكراً عالمياً وتنشره بين الناس.

* والانجليز هم حملة رسالة ايضاً.

ـ مع فارق جوهري هو انهم يضحّون من اجل الآخرين، ويحق لهم ان يعيشوا على مسافة منهم، بل ومنفصلين عنهم كما فعلوا مع المصريين او العراقيين او الهنود. فلم يسعوا لتعليم هؤلاء عاداتهم او سلوكهم، اما الفرنسيون فكانوا يختلطون بالمحتلين ويسعون لان يصلوا واياهم الى حالة واحدة.

* والفرنكوفونية اليوم هي امتداد لهذه الفكرة.

ـ لحسن الحظ ان المفهوم تغير اليوم، والامبراطورية الكولونيالية الفرنسية هي شيء من الماضي، لكن هدف الفرنسيين كان دائماً الوصول الى مرحلة يتنافى فيها الاختلاف بين الثقافتين والمجتمعين.

* النتائج جاءت متشابهة الى حد بعيد في الحالتين.

ـ الانجليز كانوا يقولون: «حين يرحل الفرنسيون يتركون ثقافتهم خلفهم». وارادة نشر الثقافة الفرنسية سمحت ببناء امة ثقافية فرنكوفونية تقوم على الاختلاف، لكنها متوحدة في قدرتها على التعبير بلغة واحدة، وبإمكان الكندي او المغربي او السنغالي ان يعبروا بالفرنسية ويقرأوا النص نفسه.

* دول الكومنولث تستخدم الانجليزية أيضاً!

ـ لم يكن ذلك هدفاً انجليزياً، ولم يسعوا من اجله. والمجتمعات التي تركوها لا تشعر بارتباط ثقافي بهم كما هي حال الدول التي احتلتها فرنسا. والانجليز انفسهم لا ينظرون ناحية الدول التي احتلوها سابقاً قدر شعورهم بالارتباط بالانجلوسكسونيين البيض في كندا واميركا واستراليا ونيوزيلندا.

* بالعودة الى المشروع الاميركي كما يتجلى اليوم، هل يضمر بذور النظرة الفرنسية للعالم من حيث عولمة المبادىء ام هو اقرب الى نظرة الانجليز للعالم؟

ـ تصعب قراءة المشروع الاميركي حالياً، فأميركا متعددة الثقافات، وفيها شعوب متباينة صهرت لتشكل هذه الدولة العظمى. ولكن بإمكاننا ملاحظة ان الاميركيين لا يختلطون بالناس الذين يدخلون اراضيهم ويبقون على مسافة منهم كما فعل الانجليز من قبلهم.

* وهذا قد يتناقض مع رغبتهم المعلنة في عولمة القيم الاميركية؟

ـ الاميركيون يتشكلون من مجموعة ثقافات بحاجة الى ايديولوجيا قوية لتأطيرها، وجمعها تحت راية واحدة. وهو ما نراه يتجسد في تقاليد وطنية، والتفاف استعراضي حول العلم والجيش. انه بلد مهاجرين، والهجرات ما تزال متواصلة وتماسك هؤلاء او صهرهم يتطلب تعظيماً لفكرة الوطن او الارض التي تجمعهم، لكنهم من جانب آخر وبسبب هذا الوضع، تحديداً، يقعون في الانغلاق. وهذا يمنعهم من الانفتاح على ما هو خارج بلدهم.

* يؤخذ على الشعب الاميركي عدم معرفته بالشعوب الاخرى، لكن ثمة بحاثة ومراكز دراسات كبرى عندهم تعنى بثقافات الآخرين؟

ـ تقرير التنمية العربي الذي صدر العام الماضي يأخذ على العرب انهم يترجمون 500 كتاب فقط في السنة الواحدة، لكن وضع الاميركيين ليس بأفضل، فهم لم يترجموا اكثر من هذا، وهو رقم ضئيل بالنسبة لهم، لأن عدد الاميين بينهم اقل عما هو في المجتمعات العربية. ونحن كمستشرفين فرنسيين بدأنا بعمل احصاءات في هذا المجال، ووجدنا ان عدد طلاب اللغة العربية في فرنسا وحدها يفوق عدد امثالهم في اميركا وكندا معاً، علماً بأن عدد سكان فرنسا هو اربع مرات اقل من اميركا. انما لاسباب تاريخية تجمع فرنسا بالعالم العربي نجد هذا الاهتمام.

* مصالح اميركا في المنطقة العربية ظهرت بوضوح منذ الحرب العالمية الاولى، وحلفاء اميركا من العرب ليسوا قلة؟

ـ الوجود الاميركي في المنطقة مر بعدة مراحل. وبالامكان اعادته الى عام 1830 حين جاء المبشرون الاميركيون البروتستانت الى لبنان واسسوا "الكوليج سريان بروتستانت" التي ستصبح «الجامعة الاميركية» في ما بعد. هؤلاء تعلموا العربية واسسوا ما يشبه مملكة حقيقية وبقوا في لبنان وتوالدوا واندمجوا في المجتمع. في مرحلة ثانية ظهر الاميركيون كمحررين «سياسيا» حين ارادت ادارة روزفلت تخليص لبنان وسوريا من الاستعمار الفرنسي عام 1945، ولهذا السبب تمتع الاميركيون بشعبية واسعة وصولاً الى شمال افريقيا.

لكن علاقة العرب بأميركا تدهورت بسبب علاقتها مع اسرائيل. وهنا لا بد من الاشارة الى ان أميركا من اكثر الدول الغربية ممارسة للشعائر الدينية. فالاميركيون يرون بشكل عفوي الشرق الاوسط من خلال الانجيل، ذلك يمدهم بتعاطف طبيعي مع الاسرائيليين. ثم هناك البترول والاقتصاد وغيره، لذلك فهم بقوا يمارسون ضغوطهم وسياستهم في المنطقة حتى العام الماضي على اعتبار انهم موجودون دون ان يكونوا كذلك، اي عبر دعم بعض الانظمة عسكرياً واقتصادياً وسياسياً. لكنهم لم يريدوا، وهم على اي حال لا يستطيعون، ولا يملكون قدرة التوجه الى الشعوب او مخاطبتها، لان الثقافة الاميركية مطلوبة من الشعوب العربية ومرفوضة في وقت واحد.

* هذا وضع كلاسيكي واجهه الانجليز والفرنسيون من قبل مع سكان المنطقة؟

ـ تماماً، هذا ما نسميه نظام «الحب البغيض» بحيث ان شعباً ما يسحر بثقافة لكنه يحذرها ويضمر بغضاً لها في الوقت عينه. لكن ثمة مشكلة اضافية يعانيها الاميركيون اليوم، وهي جهلهم الفعلي بالمنطقة، لانهم ابعدوا، منذ حوالي ثلاثين سنة، المتشرقون والبحاثة في الشأن العربي وحتى الدبلوماسيون عن مراكز القرار السياسي. فهؤلاء ينظر اليهم نظرة دونية، وكلمة «ارابيزان» او «مستشرق» لها معنى سلبي. والموجودون في السلطة اليوم لم يستفيدوا من معارف المستشرقين ودراساتهم. من هنا تأتي النظرة الاميركية التبسيطية والساذجة للعرب وقضاياهم ومشاكلهم.

* العالم العربي منقسم اليوم بين من يظن ان اميركا تستطيع ان تلعب دوراً ايجابياً ومن يظن ان دورها سيكون محض احتلال واستغلال، فأي الكفتين ترجح؟

ـ الصورة ضبابية للغاية، هناك مؤشرات اجتماعية ايجابية تجعلنا نقول ان العالم العربي لم يعد نفسه الذي كان منذ خمسين سنة، مما يعزز الامل بالديمقراطية، انما المجتمع لا يزال معادياً لليبرالية، اي لعبة تعايش الاختلافات. وعملياً الوجود الاميركي يعرقل امكانية استمرار الانظمة الاستبدادية انما الخوف هو ان يشكل سلوكه جبهة ضده بدل ان يشكل جبهة ضد وجود هؤلاء في السلطة.

اميركا تستخف بشكل درامي بقوة المشاعر الوطنية، ولا تأخذ بعين الاعتبار حقيقة ان الديمقراطية هي نظام وطني. والوطنية في العالم العربي قد تأخذ بعداً اسلامياً كما انها قد تأخذ بعداً عربياً. وما هو واضح ان التيار الذي قد يتشكل قد تكون غايته التخلص منهم بدل ان يكون هدفه تطوير ليبرالية داخلية. ولو راقبنا المفردات الاميركية المستخدمة هذه الايام لاستنتجنا انهم يحاولون ادارة العالم العربي كما فعلوا في اميركا اللاتينية بعصا كبيرة وبعض الجزر، وهذا كله لا يشبه الديمقراطية في شيء.

* لو حاولنا ان نرسم خطاً بيانياً للعلاقة التفاعلية السياسية بين الشرق والغرب، كيف يمكن لنا ان نتصورها؟

ـ الاوضاع تختلف من بلد لآخر فبين عامي 1920 ـ 1950 تأثرت الثقافة العربية بالغرب بشكل ايجابي، وطورت فكرآً ليبرالياً حقيقياً، واستوحى العرب من الانجليز والفرنسيين الكثير، خلال فترة ما بعد الاستقلال. وحين وصلت الانظمة الثورية الى السلطة باستبداديتها كانت مقتبسة عن الغرب. فالثورة فكرة غربية في الاصل، وكل ثورة في الغرب اوصلت الى الاستبداد. هكذا حصل مع الثورة الفرنسية والروسية، وهذا ما شهدناه في العالم العربي، وهي نتائج منطقية يعرفها كل دارس للتاريخ. و«الوطنية» و«القومية» هما ايضاً مفهومان غربيان. وفي كل مرة كان يتهم العرب بأنهم فعلوا هذا او ذاك، لم يكن يعترف لهم بأنهم اخذوا عن الغرب ما يحتاجونه وانهم جسدوه وأعادوا تركيبه بالطريقة التي تناسبهم. وما يزال ينظر اليهم وكأنهم يأتون بغريب لم يخبره الغربيون انفسهم.