سؤال ابن رشد الأساسي: كيف نجعل الفلسفة مشروعة في العالم الإسلامي

باحثان فرنسيان يريان أن الغزالي لم يكن مضادا للفلسفة عن جهل بل عن علم متين واطلاع

TT

هذا الكتاب يمثل مدخلاً عاماً الى فلسفة ابن رشد والى التيار المنبثق عنها في اوروبا والمدعو بالفلسفة الرشدية Averroisme. وقد شارك في تأليفه اثنان من الباحثين هما موريس روبين هيون الاستاذ في جامعة ستراسبورغ، والثاني آلان دويبيرا الاستاذ في جامعتي جنيف وباريس، واحد كبار الاختصاصيين في الفلسفة العربية الاسلامية.

ومنذ البداية يطرح المؤلفان هذا السؤال: من كان ابن رشد؟ والجواب هو انه كان شخصية معقدة او متعددة الجوانب والامكانيات الفكرية. فقد كان فقيهاً وطبيباً وفيلسوفا، بل وقاضياً في اشبيلية اولاً ثم قرطبة ثانياً وقد كان له تلامذة في مختلف انحاء اوروبا طيلة العصور الوسطى حتى مطلع العصور الحديثة.

وهناك سؤال آخر يطرح نفسه: هل كان ابن رشد أقرب الى الفلاسفة ام الى الفقهاء ورجال الدين؟ وكيف استطاع التوفيق بين كلتا الفعاليتين؟ في الواقع انه كان يدعو الى استقلالية البحث الفلسفي، ولكنه في ذات الوقت كان قاضياً، وبالتالي رجل دين بالضرورة. وبما انه لعب هذين الدورين فإنه تعرض لتفسيرات شتى من قبل بحاثة الغرب أو المستشرقين بشكل عام. فكل واحد كان له تفسيره الخاص لشخصية ابن رشد وفكره بدءاً من ارنست رينان وكتابه الشهير الصادر عام 1852، وانتهاء بالكتاب الجماعي الصادر عام 1978 بعنوان: «ابن رشد المتعدد الجوانب والأبعاد»، مروراً بكتب س. مونك، ل.غوتييه، روجيه ارنالديز، هنري كوربان، عبد الرحمن بدوي.

ينبغي التركيز هنا بشكل خاص على كتاب «ل. غوتييه» الذي يحمل العنوان التالي: «نظرية ابن رشد عن العلاقات الكائنة بين الدين والفلسفة». فالواقع ان هذه هي المسألة الاساسية التي تطرحها اعمال ابن رشد والتي لا تزال تعنينا نحن المسلمين او العرب المعاصرين بشكل خاص.

يرى هذا المستشرق «غوتييه» ان ابن رشد كان عقلانياً محضاً. وهذا ما يتجلى لنا من خلال قراءة كتابه الشهير: «كتاب فصل المقال وتقرير فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال». فهو يقول بما معناه: اذا ما نشب صراع او تناقض بين المعنى الظاهري لبعض الآيات القرآنية، والفلسفة، فإن الغلبة تكون للفلسفة. فالواقع ان القرآن لا يمكن ان يناقض العقل، وانما المعنى الظاهري وحده هو الذي قد يناقضه فيما يخص بعض الآيات. ولذلك ينبغي تأويل هذه الآيات لاستكشاف معناها العميق (أو الباطني) الذي لا يمكن ان يتناقض مع الفلسفة. وهكذا يحصل التوافق من جديد بين الشريعة والحكمة بحسب مصطلح ابن رشد، اي بين الدين والفلسفة. وبالتالي فلا توجد في الواقع غلبة لطرف على الطرف الآخر.

ويرى هذا المستشرق ان ابن رشد كان يعتقد بأن الدين ضروري للعامة ومفيد لها لأنها لا تستطيع ان ترقى بعقولها الى مستوى الفلسفة. واما الخاصة أو النخبة فإنها «لا تشبع» الا من الفلسفة اذا جاز التعبير، دون ان يعني ذلك انها ضد الدين.

في الواقع ان مشكلة ابن رشد في عصره كانت هي التالية: كيف يمكن ان نجعل الفلسفة مشروعة في المجتمع الاسلامي؟ كيف يمكن ان نستفيد من منطق ارسطو من دون ان يعني ذلك خروجاً على الدين؟ ومجرد طرحه للسؤال على هذا النحو يعني انه كان يخشى رد فعل الفقهاء الذين يعتبرون ارسطو دخيلاً على الساحة الاسلامية، بل سيشكل خطراً عليها. ولكي يرد عليهم او يقنعهم بأن الفلسفة لا تتعارض مع الدين، فإنه راح ينطلق من المحاجة التالية. ان غاية الفلسفة هي دراسة الكون من اجل معرفة خالقه او التوصل الى معرفته في نهاية المطاف. وبالتالي فهي معرفه نبيلة، بل انبل معرفة. ولا يمكن معرفة الصانع قبل المرور بمعرفة المصنوعات او الموجودات.

يضاف الى ذلك ان القرآن الكريم هو الذي يحثنا على هذه المعرفة العقلية او المنطقية. يقول ابن رشد بالحرف الواحد: «فأما ان الشرع دعا الى اعتبار الموجودات بالعقل، وتطلب معرفتها به، فذلك بين في غير ما آية من كتاب الله تبارك وتعالى، مثل قوله تعالى: «فاعتبروا يا أولي الابصار». وهذا نص على وجوب استعمال القياس العقلي، او العقلي والشرعي معاً، ومثل قوله تعالى: «أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء». وهذا نص بالحث على النظر في جميع الموجودات وقال: «ويتفكرون في خلق السماوات والارض» الى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى كثرة». (كتاب: فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، تحقيق محمد عمارة، مطبوعات دار المعارف، مصر، 1983، ص 22 ـ 23).

في الفصل الثالث من الكتاب الذي يتخذ العنوان التالي «الوحي والعقل والغزالي وابن رشد» نجد تكملة لهذا الموضوع الخطير الذي ما يزال يشغل العالم الاسلامي حتى اليوم. بل يشغله اليوم اكثر من اي وقت مضى بسبب هيمنة التيار الأعمى المتطرف على الساحة، هذا التيار الذي قضى على ابن رشد في الماضي ويريد ان يقضي عليه مرة اخرى في الحاضر. يقول مؤلف الكتاب بما معناه: لم يكن الغزالي مضاداً للفلسفة عن جهل، بل عن علم متين واطلاع. فهو قبل ان يصدر كتابه الشهير «تهافت الفلاسفة» كان قد نشر سابقاً كتابه «مقاصد الفلاسفة». وفيه يستعرض بكل موضوعية نظريات الفلاسفة وأقوالهم وبخاصة نظريات الفارابي وابن سينا والمدرسة الارسطوطاليسية بشكل عام. وبما ان المسيحيين اللاتينيين في اوروبا لم يترجموا مقدمة كتابه هذا التي يشرح فيها غرضه من تأليف المقاصد، فإنهم اعتقدوا انه فيلسوف وصنفوه في زمرة الفلاسفة مع ابن سينا، والفارابي، وابن رشد، الخ.. ولو انهم اطلعوا على كتابه الثاني «تهافت الفلاسفة» لغيروا رأيهم. بالطبع فإن مهاجمة الغزالي للفلاسفة كانت منصبة على ابن سينا لا على ابن رشد لسبب بسيط هو ان ابن رشد لم يكن قد ولد بعد! فالغزالي ألف كتابه حوالي عام 1095م، هذا في حين ان ابن رشد ولد عام 1126م. ولكن مع ذلك يمكن القول بأن هجومه الصاعق على الفلاسفة أدى الى القضاء على الفلسفة ذات الاستلهام الاغريقي في ارض الاسلام. وعندما جاء ابن رشد ورد عليه بشكل قوي في «تهافت التهافت» لم يستطع ان يوقف هذه الحركة الانحطاطية المتدهورة للعالم الاسلامي. وفشل بالتالي في انقاذ الفلسفة ـ اي الفكر العقلاني في نهاية المطاف ـ من براثن الفكر الغيبي اللاهوتي. ويقول بعض المفكرين المعاصرين بان الفكر العربي لا يزال يدفع ثمن هذه الهزيمة حتى هذه اللحظة. فبعد موت ابن رشد عام 1198 لم تقم للفلسفة قائمة في العالم الاسلامي حتى مجيء النهضة الحديثة في القرن التاسع عشر والاحتكاك بأوروبا.

وفي اثناء هذه القرون الستة او السبعة (أي من أواخر القرن الثاني عشر ـ وحتى بدايات التاسع عشر) منع فكر ابن رشد في ارض الاسلام ومات تماماً. ولكنه في ذات الوقت انتقل الى الضفة الاخرى من المتوسط اي الى اوروبا وشهد ازدهاراً لم يسبق له مثيل من قبل. وحول هذه المسألة، اي كيفية انتقاله الى اوروبا وترجمته الى اللاتينية، يدور النصف الثاني من هذا الكتاب.

يقول مؤلف الكتاب في فصل بعنوان: «استقبال فكر ابن رشد لدى المسيحيين الاوروبيين أو اللاتينيين»، اي الذين يكتبون باللاتينية: لقد شهد هذا الفكر مرحلتين اساسيتين: الأولى في القرن الثالث عشر، والثانية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، في اثناء المرحلة الأولى انهمكوا بترجمة مؤلفاته من العربية الى اللاتينية وقد ساهم في الترجمة مفكرون يهود ايضاً. ولكنه تعرض لإدانة لاهوتية من قبل «فقهاء» المسيحية، وهي لا تختلف كثيراً عن ادانة الغزالي للفلسفة بشكل عام. وكان صاحب الادانة هو مطران باريس: ايتيان طامبييه، وحصلت على دفعتين: عام 1272 و 1277. واما في اثناء المرحلة الثانية، اي اثناء القرنين الخامس عشر والسادس عشر، فقد شغل ايطاليا والجامعات الايطالية. وتعرض فكره عندئذ لموجة ثانية من الترجمات. ولكنه هذه المرة ترجم من العبرية الى اللاتينية وليس من اللغة الاصلية، اي العربية. ولكنه ككل فكر يترجم من لغة الى لغة اخرى، او من بيئة إلى اخرى مختلفة تماماً، فإنه تعرض لسوء الفهم والتحريف في بعض الاحيان. بل انتشرت عنه شائعات رهيبة تقول بأنه ملحد، اباحي، مادي، مضاد لجميع الأديان!.. وهذا خطأ فاحش بالطبع. فالرجل كان مؤمنا وضليعاً في العلوم الدينية بالاضافة الى كونه فيلسوفاً. ثم اتهموه بالتستر على افكاره الحقيقية وانه من القائلين بمذهب «الحقيقة المزدوجة».

بمعنى انه يقول شيئاً ويعتقد شيئاً آخر. فهو يعلن الايمان ويبطن الكفر. بل يقول بوجود حقيقيتن في هذا العالم: الأولى فلسفية، والثانية دينية والأولى هي وحدها الصحيحة. ولكن الثانية ضرورية من اجل العامة وذوي الأفهام الضعيفة.

هذا هو «ابن رشد اللاتيني» او كما فهم في البيئة المسيحية اللاتيية فيي القرون الوسطى. ولكن ابن رشد الحقيقي ـ اي العربي المسلم ـ كان مختلفاً تماماً كما رأينا، فهو من القائلين بوجود توافق بين الشرع والحكمة، اي بين الدين والفلسفة. يقول حرفياً: «فإنا معشر المسلمين نعلم على القطع انه لا يؤدي النظر البرهاني (اي المنطقي والفلسفي) الى مخالفة ما ورد به الشرع (اي الدين والقرآن). فإن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد عليه» (المصدرالسابق، ص 31 ـ 32).

وبالطبع فإذا ما حصل تناقض بين النص الديني والبرهان العقلي او القياسي او المنطقي، فينبغي ان نؤول النص الديني حتى نتوصل الى باطنه او جوهره ويزول التناقض. ولكن هذا التأويل اعتبره البعض لعبة ذكية من ابن رشد للتحايل على النص..

وبالتالي فأين هي الحقيقة المزدوجة اذن؟ اين تكمن ازدواجية ابن رشد؟ انها عبارة عن اسطورة اخترعها المترجمون في اوروبا لانهم فهموا فكره خطأً. ولكن الاساطير ذات عمر طويل، واحياناً يلزم مرور وقت طويل قبل ان يتمكن أحدهم من تفكيكها واسقاطها. وهذا ما حصل مؤخراً بعد ان تجددت الدراسات عن ابن رشد في اوروبا، وبخاصة في فرنسا على يد فريق كامل من الباحثين الاكفياء. والان نستطيع ان نقول بأن ابن رشد اصبح مفهوماً على حقيقته في اوروبا، ولكن ليس في العصور الوسطى.

بالطبع فإن دخول فكر ابن رشد الى السوربون في القرن الثالث عشر أثار زوبعة من الانتقادات وردود الفعل، كما اثار حماسة كبيرة لدى المتعطشين للفكر العقلاني والمنطقي. فأوساط الكنيسة والمحافظون عموماً هاجموه ليس فقط لأنه مسلم، اي عدو في الدين، وانما لأن فكره يشكل خطراً على الايمان والعقيدة المسيحية بحسب نظرهم. فجيل الروماني 1243 ـ 1216 كان من كبار رجال الدين في عصره. وقد هاجم ابن رشد بطريقة تذكرنا بمهاجمة الغزالي للفلاسفة عموما. ففي رأيه ان «ابن رشد جدد كل اخطاء ارسطو وكررها»، وبالتالي فينبغي تحاشيه. ثم يردف جيل الروماني قائلاً: «ولكن الأسوأ لدى ابن رشد هو انه يدعونا، نحن المتدينين، بالمتكلمين، اي بالثرثارين او الناس الخالين من العقل!..». الشيء المضحك هنا أو المثير للانتباه هو ان خطأً بسيطاً في الترجمة من العربية الى اللاتينية أدى الى خطأ فاحش في الفهم. فكلمة «متكلمون» في اللغة العربية والمفهوم الاسلامي لا تعني الثرثارين، وانما تعني علماء الكلام، اي اللاهوتيين في اللغة المسيحية. ولكن المترجم فهمها على اساس انها تعني الثرثارين! في الواقع ان الشيء الذي اخاف رجال الدين في اوروبا هو ان ابن رشد اصبح له تلامذة واشياع كثيرون في الجامعات. ولهذا السبب قرروا التحرك لايقاف هذا المد الفكري قبل فوات الاوان. وضمن هذا الاطار اصدر ايتيان طامبييه ادانتين لاهوتيتين لافكار ابن رشد بشكل خاص والفلاسفة بشكل عام. الاولى صدرت عام 1270 كما قلنا، والثانية عام 1277 بعد ان اضاف الى القائمة الأولى مواد جديدة او افكاراً جديدة يُمْنعَ تدريسها في السوربون. وعندما نطلع عليها نجد انها هي ذاتها التي كان الغزالي قد أدانها قبل حوالي ثلاثمائة سنة! وهذا دليل على مدى التوافق بين كبار رجال الدين حتى ولو كانوا ينتمون الى دينين مختلفين، بل ومتحاربين. فالاديان التوحيدية تبقى متشابهة على الرغم من اختلافاتها الظاهرية، وما يجمع بينها اكثر مما يفرق. نقول ذلك وبخاصة اذا ما قارناها بالافكار الفلسفية الارسطوطاليسية. فهنا يبدو الفرق واضحاً جلياً. وبالتالي فقد تعرض فكر ابن رشد للاضهاد في الجهة المسيحية ايضاً وليس فقط في الجهة الاسلامية. ولكن الفرق هو ان الحيوية الفكرية في اوروبا كانت من القوة بحيث ان الاصولية المسيحية عجزت عن القضاء على الفلسفة او تهميشها كما حصل في الجهة الاسلامية.

ولهذا السبب نلاحظ ان كلية الفلسفة في المانيا مثلاً تتجاور جنباً الى جنب مع كلية اللاهوت أو الشريعة المسيحية. وهذا الصراع الجدلي بين النظرة الفلسفية للعالم، والنظرة اللاهوتية او الدينية هو الذي اغنى الثقافة الاوروبية وجعلها تبدو متوازنة وكأنها تسير على قدمين لا قدم واحدة. اما عندنا فإن سبب انحطاطنا يعود الى بتر الفكر الفلسفي وتحريمه او تكفيره على مدار قرون طويلة. فالتدين بدون بصيرة أو فكر عقلاني أعمى، وقد يؤدي الى أبشع انواع التعصب والتطرف.

* عنوان الكتاب: ابن رشد والفلسفة الرشدية Averroes et l"avarroisme.

* المؤلف: الباحثان موريس روبين هيون + آلان دوليبيرا Maurice - Ruben Hayoun, Alain de Libera

* دار النشر: المطبوعات الجامعية الفرنسية ـ باريس Presses Universitaires de France. Paris في 6 / 5 / 2003