شهادات ألمانية عن الحرب العالمية الثانية

كتاب ألماني يكشف الوجه الآخر من حرب الحلفاء

TT

على خلفية هجمات 11 سبتمبر ضد الولايات المتحدة، وما ترتب عليها من حرب أمريكية شاملة على أفغانستان بدأتها بحرب جوية استخدمت فيها اعتى قنابل الدمار التقليدية، وفي جو الحرب الآنية لغزو العراق، ظهرت في المانيا موجة من الكتابات والتعليقات تراجع وتطالب بضرورة مراجعة الحرب الجوية البريطانية ـ الأمريكية المدمرة للمدن الالمانية اثناء الحرب العالمية الثانية، بحسبانه تاريخا مسكوتا عنه، ومطموراً تحت طبقات عقدة الذنب، التي تحولت الى سياسة المانية رسمية! وبالتالي فإن الكشف عنه قد يؤدي الى رفع الغطاء عن الشرعية الاخلاقية للحرب العالمية الثانية، واظهار وقائع وحقائق مخفية تكشف الوجه الآخر الشرير لحرب الحلفاء «العادلة»! كتاب «الحريق ـ ألمانيا تحت القصف الجوي 1940 ـ 1945»، لمؤلفه فريدريك يورغ وهو مؤرخ عسكري ألماني معروف، يبحث في تفاصل الغارات الجوية البريطانية/ الأمريكية على المدن الالمانية، تلك الغارات التي تواترت خمس سنوات، على نحو لا مثيل له في تاريخ الحروب الجوية، وباسم: الحرب العادلة للعالم الحر من اجل القضاء على الرايخ النازي وتحرير الشعب الالماني منه! طال القصف أكثر من ألف مدينة وقرية، وأسقط حوالي نصف مليون طن من القنابل المدمرة، فقتل أكثر من ستمائة ألف مدني من بين خمسة وعشرين مليوناً هم عدد سكان المانيا، وقتها، وتحولت مدنها وقراها الى أكوام من الدمار، وتمت اعادة بنية البلاد الى القرون الوسطى!. فقد دمرت مدن كبرى بكاملها مثل درسدن وهامبورغ ودوسلدورف ودورتموند وكاسل وعديد غيرها! ومنذ ذلك الوقت لم يتجرأ أي باحث أو مؤرخ على وصف ما حدث ونبش أرشيفه وعرض وقائعه لاستجلاء حقيقة تلك الفترة المأساوية المظلمة من التاريخ الالماني. كتاب «الحريق» الضخم (591 صفحة) يتصدى لهذه المهمة في جانب منها، يختص بالحرب الجوية، مفتتحاً المجال لظهور تيار من مؤرخين جدد، متحررين من عقدة الذنب التي تؤرق الضمير الألماني لأكثر من نصف قرن! يطرح فريدريك يورغ في كتاب «الحريق» حقيقة ان الغارات الجوية البريطانية الامريكية على المدن الالمانية كانت، في جوهرها، حربا ارهابية منظمة، ومخططاً لها بغية تدمير المدن الالمانية وخلق حالة من الرعب الجماعي بين السكان، تشيع فيهم روح الهزيمة والاستسلام! ويصف الكتاب نوعية قنابل التدمير المستخدمة وتطور انتاجها الفتاك خلال سنوات القصف الخمس وآثارها المدمرة على الأرض، من خلال تسليط الضوء على ضحاياها من البشر الذين جرى عن قصد طمر تاريخ محرقتهم الجماعية تحت الركام، بحيث لا نرى في صور أفلام الغرب عن الحرب على المانيا النازية سوى طائرات الحلفاء وهي تقوم بمهماتها البطولية في قصف الرايخ النازي، عدو البشرية ومحور الشر. ثم تنتهي تلك الافلام، عادة، بأرتال دبابات وعربات الجنود الامريكيين وهم يدخلون المدن محررين، تمطرهم النساء بالورود والقبلات..! ولا ذكر لمصائر ستمائة الف ضحية، الذين ثابروا طوال خمس سنوات من القصف الجوي على اللجوء الى المخابئ والبدرومات، وقتلوا بالتقسيط.. لا ذكر للحياة المُتلَفة، للدمار والجوع والضياع والرعب.. لا ذكر لأنين الجرحى وصراخ الأطفال المرعوبين.. كما لا ذكرى للتراث المعماري والفني الهائل، الذي لا يعوض بثمن، وقد دُمِر تماماً تحت أنقاض المدن الممسوحة! استقبل الكتاب من قبل النقاد بالإطراء، ليس بسبب الوقائع والحقائق المثيرة التي يقدمها فقط، وانما للغته الموضوعية وأسلوبه الشيق ومنهجيته البحثية المتخصصة بقلم مؤرخ محترف. والى ذلك هو كتاب حي، بمعنى انه يعرض شهادات كثيرة، مؤثرة، لشهود عيان عاشوا تلك المرحلة بآلامها الإنسانية المرعبة، بحيث تشكل، تلك الشهادات، مع الخلفية التاريخية/ السياسية لأحداث الحرب الجوية، مرجعا رئيسا لمزيد من الدراسات والبحوث، كما انه يمنح اجيال ما بعد الحرب، التي اقصيت، بطريقة او اخرى، تحت سياط تأنيب الضمير، عن الإطلاع على حقائق تاريخها القريب، ولذلك، فإن كتاب «الحريق» يساهم بجدارة في سد الفراغ الكبير الحادث في الذاكرة الوطنية الالمانية، حسبما كتب أحد المعلقين.

ومن النتائج المهمة التي تُستخلص من قراءة الكتاب هو ان الرغبة في الانتقام، من قصف المانيا للندن، كانت هدفا من الاهداف البارزة للغارات الجوية البريطانية/ الأمريكية على المدن والقرى الالمانية، هذا اولا وثانيا، ان الحملة الجوية كانت وحشية مفرطة في القوة بقصد ارهاب الشعب الالماني والتعجيل باسقاط نظام هتلر، ثالثا، ان الرغبة في التدمير الشامل للبنية التحتية (العسكرية/الصناعية/ المدنية) من الجو كان يهدف الى تسهيل غزو المانيا من البر، وان يجعلها لا تشكل خطورة مرة اخرى.

وفي نقد مسألة المسؤولية تطرح أسئلة تُركت معلقة للحكم عليها من طرف القارئ، من نوع: هل ينبغي ان يشعر الالمان بأنهم ضحية؟! وهل لدينا (الالمان) سبب قوي لنشكو كضحية؟! ام انه هو ذنبنا الكبير، وعقوبة قانونية بسبب حربنا على الآخرين، فألمانيا هي التي اخترعت حرب القصف الجوي للمدن؟! لكن تركيز الكتاب، وموضوعه، في الأساس، يدور حول معاناة الشعب الألماني، من المدنيين، تحت القصف الجوي المتواصل خلال خمس سنوات، وكذلك تبيان الأهداف الخفية لتلك الحرب التي تروج كنصر بطولي لدول حلفاء «الخير» على «محور الشر»! وما أشبه الليلة بالبارحة! فحريق البارحة باسم القضاء على نظام هتلر النازي، قد يحدث الليلة باسم القضاء على نظام صدام الفاشي. وكما لم تذرف الدموع على نهاية هتلر ونظامه إلا حثالة النازيين فلن تذرف الدموع على نهاية صدام إلا حثالة الفاشيين، لكن الحرب قذرة في كل الأحوال! واذا كانت حرب الخليج الثانية قد وجدت لها تبريرا اخلاقيا وشرعية دولية رغم جرائم الحرب التي ارتكبها الجيش الأمريكي تحديدا ضد الجنود العراقيين المستسلمين، فإن الحرب الأمريكية/ البريطانية على العراق، المخطط لها خارج الشرعية الدولية، تبدو، بالنظر الى رفض المجتمع الكوني لها، فاقدة تماما، أو قل تقريبا، للمبرر الاخلاقي وشرعية القانون الدولي، مهما قيل، عن حق، في طغيان صدام الدموي!

* الكتاب: الحريق ـ المانيا تحت القصف الجوي

* المؤلف: فريدريك يورغ

* الناشر: بروبليان