«فكر» الترابي خرج من السجن «متطهرا» من دنس السياسة

زعيم المؤتمر الشعبي السوداني يدعو إلى الحرية الكاملة للأفراد لكنه يناقض نفسه في أماكن أخرى

TT

«حين يتركون مناصبهم يصبح الحكام قديسين!» هذا وصف الشاعر سعدي الشيرازي لتحول الأشخاص الذين يجدون أنفسهم خارج «لعبة القوة».

حسن الترابي، الزعيم الإسلامي السوداني الذي حصل انفصال بينه وبين حلفائه في القيادة في الخرطوم، والذي أمضى العامين الأخيرين إما في السجن أو قيد الإقامة الجبرية، يشكل مثالا على كلام سعدي.

حين أدخل الترابي السجن من قبل حلفائه السابقين طالب عدد كبير من الأشخاص، ومن بينهم كاتب هذا الموضوع، بإطلاق سراحه. وكان المبدأ أنه لا يجب معاقبة أي شخص لسعيه وراء أهداف تختلف عن أهداف الحكام.

والآن، ومع ذلك، يبدو أن الترابي قد استغل فترة سجنه، ومن بعدها وضعه قيد الإقامة الجبرية، لكتابة تحفته الأدبية.

الترابي معترف به على نطاق واسع على أنه أكثر الزعماء الإسلاميين الراديكاليين نفوذا بين أبناء جيله.

وراشد الغنوشي، الزعيم الأصولي التونسي، يصف الترابي بـ«أستاذنا العظيم». ومما قاله الغنوشي: «يشرفني أن أكون أحد تلامذته».

ترسخ وضع الترابي في عامي 1991 و1993 حين ترأس مؤتمرين دوليين في الخرطوم حيث التقت شخصيات راديكالية من عدد كبير من الدول.

من بين أولئك الذين التفوا حول الترابي، بالإضافة إلى الغنوشي الذي سبقت الإشارة إليه، أشخاص من أمثال مهدي الكروبي، وهو فقيه إيراني، وعماد مغنية، وهو أحد قياديي حزب الله اللبناني، والأصولي الجزائري عبد الله جباليه، والمصري أيمن الظواهري، وهو طريد حاليا، وأسامة بن لادن السعودي المولد.

إلقاء نظرة على هذه «الشخصيات المسرحية» يوضح أن الترابي كان في فئة مختلفة، وهو كان «دائم التنقل» بين رغبته بالسلطة السياسية المباشرة وطموحاته الفكرية.

ومن خلال إصراره على استعمال لقب «دكتور» كان الترابي يرغب دائما بالظهور بمظهر المفكر لا المنفذ. المشكلة تكمن في أنه لم يكتب أي شيء يمكن استخدامه كأساس لنقد فلسفته السياسية. (لم يكن هناك سوى كتيب صغير مبهم عن وضع المرأة في الإسلام بالإضافة إلى مجموعة خطب ومحاضرات).

وكما سبق ذكره، سد الترابي تلك الثغرة من خلال تأليف كتاب ضخم عن موضوع صعب. وهو من خلال ذلك أضاف عملا مهما إلى الأدب الإسلامي الذي يضم أعمالا للمصري سيد قطب والباكستاني عبد العلا المودودي (تم تهريب الكتاب إلى خارج السودان صفحة صفحة خفية عن حرس الترابي العسكريين! وقد تم إخراج هذا الكتاب بشكل رائع من قبل «الساقي» في لندن).

يمكن قراءة كتاب الترابي بثلاث طرق مختلفة:

الطريقة الأول، وهي الأسهل، أي قراءته على أنه «اعتراف بالخطأ». من الواضح أن الزعيم الأصولي فكر كثيرا بشأن حياته السياسية المتفاوتة والمتغيرة. ومن دون أن يصرح بذلك بعدد كبير من الكلمات توصل الترابي إلى استنتاج وهو أن معظم الأعمال التي قام بها كسياسي كانت إما «دون ترو» أو «خاطئة بكل بساطة». هذا يكسب الترابي بعض الاحترام مع أن اعترافه بأخطائه غير مباشر وضمني.

المرحلة موضوع البحث من حياة الترابي تشمل تعاونه الوثيق مع عدد من الحكام العسكريين بدءا من الجنرال الباكستاني محمد ضياء الحق وانتهاء بجعفر النميري وعمر حسن أحمد البشير. وكمحام متمرس ساعد الترابي الحكام العسكريين الثلاثة هؤلاء في كتابة دساتير استبدادية تبين في ما بعد أنها غير قابلة للتطبيق. وتعاون الترابي مع البشير امتد إلى مدى أبعد وشمل شراكة وثيقة خلال بعض من أكثر السنوات سوادا في تاريخ السودان الحديث.

إعجاب الترابي بالحكام العسكريين يشكل أحد الأمثلة على ما يمكن وصفه بـ«عقدة سرقوسة». هذا يتعلق بهاجس بعض المفكرين بأن يصبحوا «من أصحاب السلطة غير الرسميين» بهدف ضمان حصة من النفوذ السياسي.

أبرز الأمثلة على ذلك الهاجس المدة القصيرة التي أمضاها أفلاطون كمستشار خاص لديونيسوس، الطاغية الذي حكم جزيرة سرقوسة. لفترة من الوقت شعر الفيلسوف بسعادة كبيرة، فهو كان يستنبط الأفكار وكان الطاغية ينفذها. على أي حال، في يوم من الأيام غضب ديونيسوس من أفلاطون وأمر ببيعه كعبد. كان أفلاطون محظوظا بأن جاء رجل أعمال من المدينة التي تعرف ببنغازي اليوم، وتعرف عليه فاشتراه ثم أطلق سراحه.

رغم تجربة أفلاطون فإن العديد من المفكرين ابتلي بـ«عقدة سرقوسة» خلال الألفي سنة الماضية. فالرغبة بممارسة النفوذ دون تحمل أي مسؤولية كانت أقوى من أن تقاوم.

ذلك الإعجاب شكل أساس الفكر السياسي ابتداء من القرن التاسع عشر. جمال الدين أسد ـ أبادي كان يحلم بـ«مستبد خيّر» يؤسس دولة إسلامية قوية لمقاومة هجوم الاستعمار الأوروبي. (هو لم يدرك أن المسلمين كانوا في حاجة إلى مجتمع مدني قوي لا إلى مستبد خيّر). يمكن القول أن قسما كبيرا من الفكر السياسي الإسلامي بقي «أفلاطونيا» حتى العقود الأولى من القرن الماضي.

في كتابه يبين الترابي أنه لم يكن يؤيد «التقليد الأفلاطوني»، بل هو عاد إلى تقليد «الأرسطوطاليين المسلمين» مثل الفارابي وابن خلدون (الذي جاء بعده بفترة طويلة) الذين أدركوا أن وجود حكومة جيدة يعتمد على وجود مؤسسات جيدة لا على حكام أفراد قد يكونون، أو قد لا يكونون، خيّرين.

المشكلة في عدم قبول الترابي بوجهة النظر الأفلاطونية هي أنه رفض غريزي لا تحليلي. ليس هناك أي بينة على أنه كان على معرفة بالأدب الإسلامي السياسي الغني. هو يأخذ مقتبسات من ابن تيمية والماوردي وابن خلدون ويتجاهل مفكرين كبارا آخرين كالغزالي ونظام الملك والحمداني من «الكلاسيكيين»، وكل المفكرين السياسيين المسلمين الحديثين. على هذا الأساس هو يتناول مواضيع تم حلها قبل وقت طويل من قبل العلماء السياسيين والفلاسفة المسلمين. على سبيل المثال هناك التمييز بين وضع «الرعية» و«المواطن». الترابي يبدو كرجل يحاول إعادة اختراع العجلة، وهو يصف الكثير من خاصّيات النظام الديمقراطي ولكنه غير مستعد لتسميتها بأسمائها الصحيحة.

الطريقة الثانية التي يمكن بها قراءة الترابي هي كانفصال عن كل من المودودي وقطب.

«مولانا» الباكستاني ركز عقيدته السياسية على إنشاء «حزب الطليعة الإسلامي» وهو يشبه كثيرا الحزب البولشفي اللينيني. الفكرة هي أن الجماهير ليست سوى جزء ثانوي من ماكينة ضخمة يجب أن تشغلها نخبة صغيرة من القياديين الملتزمين.

قطب ذهب إلى مدى أبعد بتخيله مجموعات صغيرة نصف سرية يمكنها «صنع التاريخ» عن طريق العنف إذا لزم الأمر.

الترابي رفض الفكرتين ولكن بشكل ضمني، وهو بالتالي فتح الطريق لضم الأحزاب الإسلامية إلى نظام تعددي حقيقي. (في جزء رائع من الكتاب يظهر الترابي أن نظام تعدد الأحزاب كان موجودا حتى في أيام النبي في المدينة المنورة). والترابي يقبل التغييرات الحكومية عن طريق الانتخابات ويرفض مبدأ الأصوليين الجزائريين القائل: رجل واحد، صوت واحد، مرة واحدة فقط! موقف الترابي الجديد، كما هو وارد في كتابه، أقرب إلى موقف حزب العدالة والتطوير التركي الذي يتزعمه رجب طيب أردوغان منه إلى المواقف المتخذة إما من قبل الراحل آية الله روح الله الخميني في إيران أو من قبل بعض الحلفاء السابقين وأبرزهم أسامة بن لادن.

ومع أنه يغفر لمعاوية بن أبي سفيان، الذي قام بأول انقلاب في الإسلام، فإن الترابي متمسك بضرورة بقاء العسكر بعيدين عن السياسة، وأخيرا «نقطة مريحة»! الطريقة الثالثة التي يمكن بها قراءة كتاب الترابي هي كاعتراف متأخر من قبل الإسلاميين بوجود مساحة سياسية متميزة لها منطقها الضمني الخاص الذي لا يمكنه العمل إلا بشكل مستقل عن الدين مع أنه من غير الضروري أن يكون متناقضا معه.

هذا قد لا يبدو مهما جدا بالنسبة للنخبة المسلمة الغربية السمة أو الثقافة. ففي نهاية الأمر هناك قلة من الناس الذين يجدون صعوبة في قبول مجالات الكيمياء والفيزياء بشكل منفصل عن الدين، مع أنه من غير الضروري أن يكون هناك تناقض بينها. ولكن الموضوع مهم جدا في ما يتعلق بالسياسة. فأي اقتراح لجهة إخضاع السياسة لمنطق سياسي وغير ديني يرفضه الأصوليون معتبرين أنه «علمانية»، الذي يعني بالنسبة إليهم «الإلحاد».

الترابي خرق ذلك «المحظور» إنما بشكل ضمني وغير مباشر. ولتغطية اعترافه ملأ كتابه بمقتبسات عديدة من القرآن والسنة. ربما كان هذا ضروريا لحماية الترابي من تهم يوجهها إليه الأصوليون الأكثر حماسة، وهي أنه انتقل إلى «المعسكر العلماني» مع أنه لم يقم بذلك. ولكن الأسلوب المستخدم يجعل الحدود بين السياسة واللاهوت غير واضحة. في السياسة يفتح اقتباس من أي نص، بما في ذلك الكتاب المقدس، باب المناقشة، أما في اللاهوت فإن مثل هذا الاقتباس ينهي المناقشة.

بالإضافة إلى ذلك فإن الترابي يستخدم تقنية قديمة كان أول من استخدمها المصلح الإيراني ميرزا ملكم خان في القرن التاسع عشر. هذه التقنية تتمثل في تقديم مفاهيم ديمقراطية غربية في «حلة إسلامية». قراء الترابي الذين قد لا يكونون على معرفة بتلك التقنية قد يعتقدون أن الديمقراطية والشريعة إسمين لمسمى واحد.

كان من الممكن لكتاب الترابي أن يستفيد من عمل تحريري أكثر قوة، وكان من الضروري تخصيص مساحة أكبر لمواضيع أساسية كمصدر القوة السياسية وشكل «شرعنتها». بدلا من ذلك نرى أن مساحة كبيرة أكثر مما ينبغي قد خصصت لمواضيع لها علاقة بالحدس مثل الأشكال المختلفة لكيفية إجراء الانتخابات والمهام المحددة لهذا أو لذلك الجزء من بيروقراطية الدولة.

مما لا شك فيه أن الترابي مشوش بسبب العديد من التناقضات. فهو له الجرأة ليدعو إلى الحرية الكاملة للأفراد، بما في ذلك الحرية الدينية، في العالم الإسلامي. ولكن، وفي الوقت نفسه، يبدو أنه مقتنع بأن العلاقات بين الإسلام والغرب لا يمكن أن تكون إلا علاقة صراعات. إبرازه للديمقراطيات الغربية على أنها أنظمة منغمسة في الفساد واللاأخلاقية والظلم الاجتماعي غير صحيح ويحمل نتائج غير مرغوب فيها. وإنها لمفارقة أن المسلمين يتمتعون في المجتمعات الغربية، التي يهاجمها الترابي قائلا أنها «متحررة» و«هاجساها الجنس والمال»، بأكبر قدر من الحرية اليوم.

اعتقاد الترابي بأن الغرب يسعى بشكل ما إلى النيل منا أقرب إلى نظريات التآمر في «صالات الشاي» العربية منه إلى الفكر السياسي الجدي.

وفهم الترابي لعملية العولمة واقتراحاته حول كيفية أن يكون المسلمون على المستوى المطلوب إزاءها، يرتكز على تحليل غير كاف وعلى اعتبارات انفعالية وعاطفية.

والاعتقاد بأن جميع المسلمين يشكلون أمة واحدة وهم خطير سببه عدم وجود مفردات كافية في معظم اللغات الإسلامية. ما من شك في أن جميع المسلمين متساوون من حيث أنه لديهم كافة العناصر الأساسية لمعتقدهم، ولكن هذا لا يعني أنه عليهم أن ينضووا تحت علم واحد وحكم واحد. نموذج الخلافة الذي يتناوله الترابي بشكل مختصر لم يتحقق مطلقا لأنه غير قابل للتحقيق. على المسلمين أن يبحثوا عن حلول عملية لمشاكلهم، بما في ذلك المشكلة المهمة جدا والمتمثلة في كيفية أن يكونوا على المستوى المطلوب إزاء العولمة.

وإنه لمن السخرية أن ينظر الترابي إلى أوروبا «الفاسدة» حين مناقشته سبل ووسائل تهيئة المسلمين للعولمة. فهو يقترح إنشاء منطقة تجارة حرة إسلامية يمكنها أن تصبح، عاجلا أو آجلا، سوقا مشتركة. ويمكن لاحقا، حسبما يقترح الترابي، استكمال هذه الخطوة بإيجاد انسجام في ما يخص السياسات الاقتصادية والثقافية والدفاعية والخارجية للدول الإسلامية في مسعى للوقوف في وجه التحالفات الغربية القوية.

من غير المرجح أن يقتنع بعض منتقدي الترابي والعديد من منافسيه السياسيين، بأنه قد تجاوز إعجابه بممارسة السلطة الاستبدادية. البعض لا يمكنهم أن يسامحوه على الدور الذي لعبه في تحطيم حكومة منتخبة بشكل ديمقراطي في الخرطوم واستبدالها بدكتاتورية عسكرية. آخرون قد يتذكرون محاولاته شبه اليائسة لإقامة علاقة سرية مع واشنطن خلال الفترة التي كان فيها بيل كلينتون رئيسا لأميركا واستعداده لخيانة بعض من حلفائه الأصوليين مقابل الحصول على دعم أميركي.

وهناك أيضا الحقيقة التي هي بقاء الترابي الزعيم الفعال لحزب سياسي سوداني يستمر في متابعة استراتيجيات متناقضة غالبا ما تمليها اعتبارات انتهازية لا المبدأ.

على أي حال فإن كل ذلك يجب ألا يمنعنا من الإقرار بحقيقة أن الترابي، ومن خلال تأليفه كتابه، قد أسهم بشكل كبير في النقاش السياسي في الإسلام، وهو قدم عرضا متماسكا لوجهة النظر الأصولية الجديدة. وبقيامه بهذا العمل أظهر الترابي نقاط الضعف الأساسية في وجهة النظر تلك في الوقت الذي فتح فيه إطارا جديدا يمكن للمسلمين المعتدلين أن يواجهوا ضمنه الأصوليين في «ميدان معركة الأفكار». كل هذا قد لا يؤدي إلى تحقيق الشيء الكثير، إلا أن هناك شيئا وحيدا أكيدا هو التالي: ما لم ينجح المسلمون في جعل الحرب بينهم حرب أفكار بدلا من حرب أسلحة وعنف فإن مستقبلهم جميعا سيكون كئيبا.

* السياسة والحكم

* المؤلف: حسن الترابي

* الناشر : دار الساقي