القراءة «تسلية» بريئة ممتعة كما اللعب مع الحبيب

عبده جبير*

TT

الرحلة؟، يا لها من كلمة غريبة نصف بها أجمل مسراتنا، متى بدأت؟ لا أستطيع أن ادعي أن ذاكرتي توصلني الى التقاط اللحظات البعيدة، واكون مطمئنا بالضبط، هناك من يقول، دوما، بأنه يذكر ما جرى له وهو في الرابعة، وأنا أحسده على ذلك، فأنا لا أذكر حتى الكثير مما جرى لي في الأمس القريب، ربما، لان ذاكرتي الميمونة متعبة، مثقلة بالآلام، بالاحباط، بالحيرة التي لم تجعل الذاكرة وحدها تترنح، بل روحي نفسها، تراوح أنفاسها، حتى أنني كثيرا ما أحس بالدهشة من أنني مازلت اتحرك، مازلت أمشي، ما زلت أنادي فيعود الصدى الخافت: لا أحد.

وماذا الآن لو اعترفت بأن بداية هذه الرحلة لم تكن سوى فصول من رحلة الهرب التي مارستها لأصل لخلاص الروح، خلاص النفس، من القسوة والعنف؟ من افتقاد الدفء، اليد الحانية؟ هل يأتي النقاد المتربصون لاجتثاث سيرتي وتفسير رواياتي باعتبارها هي الأخرى عملا هروبيا عبثيا طفوليا ويضعونه في خانة الإدانة الايديولوجية؟

منذ قرأت أول كلمة مجاملة لكتابي الأول «فارس على حصان من الخشب» حيث أورد الناقد (الاستاذ الجامعي الكبير الآن) ثمانية أخطاء معلوماتية (منها خطأ في عنوان الكتاب) تأكدت من أن القراءة لا بد أن ترتبط بمعرفة الكتابة والكاتب، حتى تطمئن النفس الى أن ما تحصله ليس نتيجة سهو، أو استهتار، وصدقوني، إنني لم أعد اصدق إلا القليل من الكتاب، حين تكرر الأمر مع ناقد آخر كبير وشهير، فسر روايتي الثانية «تحريك القلب» تفسيرا بناه على معلومات مغلوطة، لكنه، هذا التفسير، جعل زوجتي السابقة تطير فرحا، لان الناقد الكبير مدحني حتى قارنني بسيد من سادة الرواية، وهكذا تأكدت من أنه لا يجوز للمرء ان يستكين للقراءة الميكانيكية للكتب فقط، بل وايضا لقراءة البشر والناس، والمرأة منهم على وجه الخصوص.

وها أنذا سأعترف اعترافا آخر قد يضيف حجة اخرى للنقاد بأنني من العابثين، هو أنني كنت شغوفا شغفا شديدا بما يكتبه الكتاب عن «افضل طريقة للقراءة» كأن يقول أحدهم أن القراءة الحقة هي درس الموضوع وقتله بحثا، أو يقول آخر إن افضلها هي تلك التي تسير على نهج أو ثالث يقول انها اجابة عن الاسئلة، ثم انني استخلصت لنفسي طريقة اخرى عابثة هي ان القراءة «تسلية» بريئة ممتعة كما اللعب مع الحبيب. وليذهب النقاد وأصحاب الأقوال للجحيم.

لكن كيف تظهر الجدية البادية في أعمال من قبيل «سبيل الشخص» أو عطلة رضوان «إو» الوداع: تاج من العشب؟

اظن انها تظهر من بذل الجهد لإخفاء القصد، من معاناة الوصول الى حالة التفاني في الحب الى درجة الوجد والذوبان في الحبيب لتصل الى شيء، ولو قليل، مما وصل اليه الحلاج، وهو يرى الحبيب في جبته، وهكذا هي قراءتي، لذا فإنني، وهذا اعتراف مشين اخر، قليلا ما أجد هذه الايام كتابا يستحق ان يقرأ حتى نهايته، لذا فإنني «اقرأ» في عشرات الكتب مع بعضها، حتى يأخذني احدها مأخذ الوجد الى سدته فلا أرى سواه فوق الروابي الخضر.

ففي مرحلة الصبا كان هناك ألف ليلة وليلة التي بهرتني موضوعات حكاياتها في البداية، ثم عدت اليها في الكبر، فبهرتني طريقة الأداء أي اللعبة الفنية، فالراوي يدخل في قصة ليخرج الى آخرى ببساطة وقدرة عجيبتين ما دفعني لكتابة سلسلة من المقالات لقراءة هذه الطريقة في الأداء.

وفي المرحلة التالية كانت هناك روايات نجيب محفوظ وعلى رأسها «ثرثرة فوق النيل» والثلاثية التي كنت اقرأها بشغف حتى اكتشفت انني في حاجة لروائي اتعلم منه، فبدأت قراءة تشيكوف في مجلد قصصه القصيرة الرائعة، ثم كانت «الاخوة كارامازوف» التي قلبت كياني الفكري والوجداني، لكنني ادين اكثر بتعلم حرفة الكتابة من كتب اخرى، هناك «الصخب والعنف» للروائي الاكبر وليم فوكنر، و«يوليسيس» للمعلم الايرلندي العظيم جيمس جويس، والروائية والمعلمة العظيمة فرجينيا وولف خاصة روايتها «إلى الفنار» التي تعلمت منها كيف يمكن للروائي ان يتحكم في مشاعر أبطاله ويحولها الى صور حية حتى ولو كانت مجرد ملاحظات عابرة، ثم كان اكتشافي لروايات ترومن كابوتي حدثا هاما في حياتي ومن يومها لا تفارق رواياته «قيثارة العشب» وغرف اخرى واصوات اخرى «وبدم بارد» قيبتي حين اسافر لأعاود قراءتها.

هناك بالقطع كتب عديدة اخرى، لكنني أدين بمعرفتي المتواضعة لأسرار اللغة العربية لكتاب تراثي مجهول هو «المزهر في علوم اللغة للسيوطي» الذي خلصني من معاناة شديدة قاسيتها من دروس مشايخ الازهر الذين كانوا يلقنوننا اللغة، كما كل علم آخر، باعتبارها لوغارتمات منفصلة عن الحياة، في الوقت الذي تعلمت فيه من السيوطي أن اللغة هي الحياة نفسها، لذا فإنني أدعو كل من يريد الخلاص اللغوي إلى ان يعود لهذا الكتاب العظيم.

* كاتب مصري