لا سلام في العالم بدون سلام ديني

المفكر اللاهوتي الألماني هانز كونغ يدعو للحوار المعمق بين الأديان الكبرى للبشرية

TT

تعودت في السنوات الاخيرة ألا اقرأ فقط فلاسفة الغرب وانما علماء الدين واللاهوت فيه ايضا. فالدين لم ينته في اوروبا على عكس ما نتوهم، ولكنه لم يعد يملأ الساحة العامة او يتدخل في كل شاردة وواردة كما كان يحصل سابقا: أي قبل انتصار الحداثة والتنوير الفلسفي. ويرى البعض ان هذا الوضع كان لصالح الدين والدنيا في آن معا. فكل طرف أصبح يهتم بمشاكله الخاصة، بمعنى ان رجال السياسة اصبحوا يهتمون بايجاد حل لمشاكل المجتمع الدنيوية، ورجال الدين اصبحوا يهتمون بتعميق الدراسات الروحية والدينية ولا يلوثون الدين بالتحزُّبات السياسية، والاهواء، والمصالح الآنية العابرة الخ... ولهذا السبب تطورت الدراسات الدينية في اوروبا كثيرا، بل وظهرت طبقة من علماء اللاهوت لا تقل اهمية عن طبقة الفلاسفة من حيث سعة الاطلاع وعمق النظر. وأحيانا عندما تقرأهم تتوهم انك تقرأ لفلاسفة لا لرجال دين! من بين هؤلاء عالم اللاهوت الالماني: هانز كونغ (Hans Kung) وقد ترجمت كتبه الى الفرنسية، وكان من أواخرها كتاب بعنوان: من أجل لاهوت للقرن الواحد والعشرين. والرجل منخرط في القضايا العامة ويهمه مستقبل العالم ككل وليس فقط المانيا او اوروبا. ولهذا السبب فإنه يحاول ان يبلور نظرية لاهوتية جديدة تليق بتقدم العلم والفكر في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الواحد والعشرين، فهو على عكس التقليديين او المتزمتين من رجال الدين يعتقد ان لكل عصر فهمه للدين، وانه لا يمكن ان نفرض على ابناء القرن الواحد والعشرين التصورات الدينية للعصور الوسطى.

وهذا يعني ان علم الدين (او اللاهوت) يتطور مثله في ذلك مثل أي علم آخر كالفيزياء، او علم الاجتماع، او علم النفس الخ... فتفسيرنا الحالي للنصوص الدينية الكبرى، او للكتب المقدسة، لم يعد هو تفسير القدماء الذين عاشوا في عصور كانت المعرفة البشرية فيها لا تزال بدائية او وليدة. وقس على ذلك.

ولعل سبب الصدام المروع الحاصل حاليا في العالم الاسلامي يعود الى ما يمكن ان ندعوه بانفصام في الشخصية العربية الاسلامية. بمعنى ان العصر الذي نعيش فيه تطور وتغير ولكن فهمنا للدين لم يساير هذا التغير والتطور وانما بقي كما كان عليه الحال في العصور الوسطى. فنحن لا نزال نحمل في أعماقنا تصورات لا تاريخية ولا عقلانية عن الدين، وهذه التصورات اصبحت تدخل في تناقض واضح مع العقلية العلمية والفلسفية للعصر. ولهذا السبب يعلن الجناح المتطرف فينا حربه على الغرب، والحداثة الكونية ككل. واما في الغرب فإن النظرة للدين كانت تتطور كلما تطورت المعرفة العامة للمجتمع وبتأثير منها. ولهذا السبب فلم يعد هناك من تناقض حاد بين رجال الدين وبين المجتمع ككل. فرجال الدين أنفسهم، سواء أكانوا من المذهب الكاثوليكي او البروتستانتي، استوعبوا المعرفة العلمية وهضموها، بل واستفادوا منها في تجديد فهمهم للدين وبلورة لاهوت جديد لا يصطدم بشكل مباشر مع العلم، والفلسفة، والعصر.

لماذا اقول كل هذا الكلام؟ لكي أموضع الامور ضمن نصابها او سياقها، ولكي اشكل مدخلا ملائما لعرض هذا الكتاب الضخم والهام (620 صفحة). وفكرة الكتاب هي ان البروفيسور هانز كونغ، استاذ علم اللاهوت المسيحي في جامعة توبنجين بألمانيا، كان قد جمع زملاءه المختصين ببقية الاديان الأخرى لمعرفة امكانية اقامة حوار صريح بين هذه الاديان الكبرى التي تسيطر على البشرية. وكان من بينهم المستشرق الكبير جوزيف فان ايس الذي يعتبره البعض اهم مستشرق في الغرب حاليا. وقد شارك في هذا الحوار كممثل عن الاسلام بالطبع. وشارك فيه ايضا البروفيسور هينريش فون ستيتينكرون المختص بالديانة الهندوسية، والبروفيسور هاينز بيشيرت المختص بالفلسفة (او الديانة؟) البوذية. وكلهم اساتذة في جامعة توبنجين. وقد استمع هانز كونغ لهم جميعا وهم يتحدثون عن هذه الاديان التي يعرفونها جيدا. ثم حاورهم واحدا واحدا من موقع الديانة المسيحية. وكان يعقب في كل مرة على مداخلاتهم، ويحاول ان يجد جسورا او نقاط تقاطع بين مختلف هذه الاديان وبين المسيحية. وهذا الحوار المعمَّق والصريح جدا هو الذي أدى الى اكتشاف نقاط مشتركة يمكن البناء عليها من أجل التوصل الى سلام حقيقي بين الاديان، وتجاوز مرحلة الصراعات والحزازات الطائفية والحروب.

نفهم من كلام هذا العالم الديني ان الطائفية او المذهبية انتهت في دول اوروبا الغربية المتقدمة واصبحت من مخلفات الماضي. وكل ذلك بفضل الحركة المسكونية التي أدت الى احداث التقارب بين المذاهب المسيحية وتقليص خلافاتها اللاهوتية المزمنة او الموروثة عن الماضي. وما كان ذلك بالأمر السهل لان الحزازات المذهبية او العصبيات الطائفية عنيدة وراسخة رسوخ الجبال! ولكن هناك عاملا آخر ساهم في تخفيفها او ازالتها هو: التقدم العلمي، والمادي، والتنوير الفلسفي الذي ما انفك يشعّ بأنواره على القارة الاوروبية منذ القرن السادس عشر.

وللأسف فلا توجد في العالم الاسلامي حركة مشابهة لكي تقيم التقارب بين المذهبين الاساسيين: السني والشيعي، او قل انها لا تزال في بداياتها. وهنا ايضا يتجلى التفاوت التاريخي بين المجتمعات الاوروبية والمجتمعات العربية او الاسلامية. فالتفاوت لا يخص علوم الذرة والفضاء والتكنولوجيا والفلسفة فقط. وانما يخص ايضا العلوم الدينية! وبالتالي فالتخلف يكون في كل المجالات او لا يكون، وكذلك التقدم. وعلى عكس ما نتوهم فنحن لسنا متقدمين دينياً ومتخلفين تكنولوجياً، وانما نحن متخلفون على كلا المستويين. ولذلك ينصحنا هانز كونغ بألا نقاوم تطبيق النقد التاريخي على نصوصنا المقدسة كما فعل المسيحيون في الغرب طيلة القرون الماضية وحتى أمد قريب. فهذا شيء لا مندوحة عنه ولا مفر منه. فالتاريخ يعلمنا ان الاصولية اليهودية التي حاولت قمع سبينوزا فشلت في نهاية المطاف. وقل الأمر ذاته عن الاصولية الكاثوليكية التي حاولت قمع ريشارسيمون الفرنسي الذي حاول تطبيق المنهج التاريخي على التوراة والانجيل. وكذلك الأمر فيما يخص الاصولية البروتستانتية التي حاولت قمع شخص اسمه «ريماروس»، وكان اول من تجرأ على دراسة الانجيل طبقا للعلوم اللغوية والتاريخية. وكذلك فعلت مع المفكر التنويري الشهير «ليسنغ» وقس على ذلك.. كل محاولات القمع والردع هذه باءت بالفشل. فحركة العلم شقت طريقها على الرغم من كل العراقيل والتهديدات، واضطرت الكنسية المسيحية الى الاعتراف بالمنهج التاريخي في نهاية المطاف. انظر بهذا الصدد مقررات المجمع الكنسي الشهير باسم: الفاتيكان الثاني (1962 ـ 1965). فهل استسلمت المسيحية في اوروبا لحركة العلم والعصر بعد طول مقاومة وعناد؟ بدون شك. وكان ذلك لصالحها، لانها لو لم تأخذ ذلك بعين الاعتبار ولو لم تراع التقدم والتطور لفقدت كل مصداقيتها ولانصرف جميع الاوروبيين عنها. فأنت لا تستطيع ان تحتقر النضج العقلي للبشر وان تفرض عليهم تصورات وعقائد بالية عفا عليها الزمن.. ورجال الدين لا يستطيعون استمالة عقول الشبيبة اذا ما ظلوا يخاطبونهم بلغة القرون الوسطى: لغة المعجزات والخرافات. نقول ذلك ونحن نتحدث عن المجتمعات الاوروبية بالطبع، لا عن المجتمعات الاسلامية. لماذا؟ لأن العقلية العلمية او الفلسفية لم تنتشر بعد في مجتمعاتنا كما حصل في فرنسا، او المانيا، او انكلترا، او هولندا، الخ... ولهذا السبب فإن العقلية الدينية العتيقة لا تزال تستهوي ملايين الشبيبة في بلادنا. وسوف يظل الأمر كذلك ما لم ينتشر الفكر الحديث بالشكل الكافي في شتى انحاء العالم العربي والاسلامي. سوف يظل الأمر كذلك ما لم تؤسَّس كليات لتعليم الدين بشكل عقلاني كما هو حاصل في اوروبا. وبالتالي فإلى جوار كليات الشريعة والمعاهد الدينية التقليدية ينبغي ان تنشأ كليات لتعليم مادة «تاريخ الاديان المقارن»، او مادة «علم الاجتماع الديني»، او مادة «الانثربولوجيا الدينية». وهكذا تقدَّم عن الدين صورة أخرى غير الصورة التقليدية المكرورة منذ مئات السنين. هكذا يمكن ان يتبلور فهم عقلاني عن التراث الاسلامي لاول مرة. وهذا الفهم اذا ما ذاع وانتشر فانه ستحصل ثورة تنويرية وسوف تشع على عالم الاسلام بأسره. وهذا هو رهان العقود المقبلة من السنين. فالزلزال الفكري لم يحصل بعد، ولكنه على الطريق ومن يعش ير.

ان الصفحات التي كرسها «هانز كونغ» للاسلام في هذا الكتاب مهمة وتستحق ان تُقرأ من قبل كل عربي او مسلم حريص على فهم تراثه بشكل جديد وعلى ضوء علم الاديان المقارنة او علم اللاهوت المقارن. فالمؤلف ما ينفك يقارن بين مسار المسيحيين الاوروبيين، ومسار المسلمين المعاصرين على مدار الكتاب. وعن طريق هذه المقارنة تُضاء اشياء كثيرة ونفهم سبب صدامنا مع العصر، او عدم قدرتنا على التأقلم مع الحداثة العالمية. فعلم الدين عندنا توقف منذ ألف سنة تقريبا، هذا في حين ان علم الدين في اوروبا شهد ثلاث ثورات لاهوتية على الأقل: 1 ـ ثورة الاصلاح الديني في القرن السادس عشر على يد لوثر وايراسم. 2 ـ ثورة التنوير في القرن الثامن عشر على يد الفلاسفة الكبار من امثال فولتير، روسو، كانط، ديدرو، الخ... 3 ـ تطبيق المنهج التاريخي على التوراة والانجيل في القرن التاسع عشر وتشكيل لاهوت ليبرالي يليق بعصر الحداثة والعقل. في الواقع اني نسيت القرن السابع عشر وتطبيق المنهج التاريخي من قبل سبينوزا لاول مرة على نصوص اليهود والمسيحيين، وذلك من خلال كتابه الشهير الذي كان له وقع الزلزال في عصره: مقالة في اللاهوت السياسي. وهو الكتاب الذي دشَّن العلم الحديث للدين واغلق العصور الوسطى كليا.

كل هذه الاحداث التحريرية الهائلة التي شهدتها اوروبا الغربية لم يشهدها عالم الاسلام حتى الآن، ولا كذلك عالم المسيحية الشرقية. ولهذا السبب قلت اكثر من مرة بأن المسيحي العربي اقرب الى المسلم العربي منه الى المسيحي الاوروبي. فالمسيحي العربي لا يزال يعيش الدين او يفهمه بطريقة تقليدية قروسطية هذا في حين ان المسيحي الاوروبي هضم حتى الآن عدة ثورات لاهوتية وتبنى شعار كانط: «الدين ضمن حدود العقل فقط». بالطبع نستثني من ذلك فئة الاقلية المتزمتة التي لا تزال مصرة على تديُّن القرون الوسطى ولا تزال تعادي الحداثة والتنوير تماما مثل الاصوليين عندنا. وقد رفضوا المقررات اللاهوتية الجريئة التي اصدرها مجمع الفاتيكان الثاني عام 1965. وبعضهم انشق عن الكنيسة الكاثوليكية وكفَّرها. ولكنهم اقلية قليلة بالقياس الى التيار الواسع للمسيحيين الليبراليين او المستنيرين. ان التحليلات الدقيقة التي يقدمها «هانز كونغ» شديدة الاهمية. ويا ليت علماء المسلمين يطلعون عليها ويناقشونها ويتخذون منها موقفا.