ليتقاعد هؤلاء المثقفون

فاضل السلطاني

TT

لم نكتب في هذه الزاوية من قبل عن موقف قسم من المثقفين العرب تجاه زملائهم العراقيين، والشعب العراقي، ومن جلادهما، انطلاقا من انتمائنا العراقي اطلاقا، بالرغم من ان هذا الانتماء قد يضفي حرقة ومرارة اكثر، وهو امر لا يستطيع المرء مجانبته. لكن جوهر الحقيقة لا يمكن حصره في هذا الانتماء النفسي والعاطفي، فيهيمن بذلك الشكل على المعنى، ويطغى الظاهر على الباطن. ولم يكتب الكتاب العرب مثل عبد الرحمن الراشد ومحمد جابر الانصاري ومأمون فندي وعباس بيضون والياس خوري وأحمد أبو مطر وغيرهم ـ وهم قليلون على اية حال ـ ولم يرفعوا اصواتهم ويصرخوا محذرين، بشكل مبكر، مما يجري في العراق وما سيجري، انطلاقاً من التعاطف، لسبب ما، مع شعب العراق وكتابه ومثقفيه، او انطلاقاً من جلدتهم القومية، ومن يعتقد ذلك، يغلب، مرة اخرى، المبنى على المعنى، فيفلت من يديه عصب القضية كلها.

كتب هؤلاء وكتبنا انطلاقاً اولا من الحس الاخلاقي، بالمعنى الواسع للكلمة، عند عدد كبير منا، مهنياً وابداعاً وممارسة، هذا الحس الذي لا يمكن ان يسكت عن اضطهاد الانسان، مطلق الانسان، سواء اكان هذا الانسان في العراق أم في جزر الواق واق، لان هذا السكوت ينسف اخلاقية المهنة من اساسها، ويسحب من المثقف مبرر وظيفته اصلاً. وفي هذه الحالة عليه ان يتقاعد او يختار مهنة اخرى كما يقول غونتر غراس.

انه الحس الذي دفع اميل زولا، ان يطلق صرخته الشهيرة «اني اتهم» في القرن التاسع عشر احتجاجاً على محاكمة اليهودي دريفوس، وهي صرخة كانت يتيمة لكنها قلبت فرنسا وغيرتها، وزعزعت مفاهيمها الاخلاقية والثقافية وحتى القضائية، ولم يكن تأثيرها اقل مما كتب روسو وديدرو قبل اكثر من قرن من انطلاق تلك الصرخة التي ما تزال تدوي في آذاننا.

وهو الحس نفسه الذي دفع جان بول سارتر ان يطلق صرخة اخرى في ستينيات القرن الماضي فعلت فعلها في ثقافة بدأت تطغى عليها نوازع الانغلاق على الاخر، والدوران على الذات، ومساءلة اسئلة الوجود الغائم، على اهميتها، على حساب الانسان وشروط وجوده. لقد اطلق سارتر آنذاك مقولته الشهيرة بان المثقف مسؤول عن اية جريمة فوق الارض. والمعنى ليس حرفياً قطعاً، بل هو رفع لدور المثقف، وتحميله مسؤولية كبيرة في كشف القبيح والشاذ وكل ما يتناقض مع القيم الانسانية الطبيعية في الحرية والأمن والحب في اي مكان فوق الارض، وقاده هذا الايمان الى شن حربه الكبرى ضد بلده فرنسا بسب استعمارها للجزائر الى الحد الذي هدد فيه بالقتل.

لا نرى ان هناك مبالغة في الامر، فجوهر العملية الثقافية هو هذا في كل مكان وزمان. والكتاب الذين بقوا، والكتابات التي نقرأها منذ قرون، تدين ببقائها لجوهرها الانساني ليس إلا وهذا الجوهر لا ينفصل. لا يمكن ان تجليه في هذا المكان، وتهيل عليه التراب في مكان آخر، والا سيصيبنا الانفصام الكامل الذي لا يمكن ان يخلق اية ثقافة حقيقية. وسرعان ما يطل هذا الانفصام برأسه حين يضعف او ينسحب حسنا الاخلاقي لهذا السبب او ذاك، والاسباب دائماً كثيرة. الطرق على هذا الجانب هو القاسم المشترك عند كتاب يريدون ان يؤسسوا لثقافة حقيقية مهما كانوا قلة ومهما بدوا وكأنهم يغنون خارج السرب، لانهم حريصون حقاً على الثقافة العربية، وغيورون حقاً على تنمية العناصر الايجابية في هذه الثقافة، واولها مقومها الاساسي: الانسان. ومثل هؤلاء الكتاب يتألمون بالضرورة. وقد يفردون افراد البعير المعبّد، لانهم يحفرون عميقاً بعيداً عن الطمأنينة الخادعة واراحة النفس بالاجابات والتبريرات الجاهزة، واغماض العين والضمير عما يجري قريبا منهم في الاقل وليس في جزر الواق واق.