كامب ديفيد وتوابعها.. لماذا تجاهل الإعلام الغربي الرواية الفلسطينية؟

بلال الحسن يكشف في «الخداع الإسرائيلي» عن حقيقة عرض الإسرائيليين الانسحاب من 91 %من أراضي الضفة الغربية

TT

يقدم الزميل بلال الحسن في كتابه الجديد (الخداع الاسرائيلي) رواية فلسطينية عن مفاوضات كامب ديفيد 2000/7/11 وتوابعها، شاملا بذلك ورقة الرئيس الاميركي بيل كلينتون، ومفاوضات طابا، وظروف اندلاع الانتفاضة الفلسطينية. ميزة الكتاب هي موضوعيته اذ تتحدث الحقائق والوقائع والمواقف الرسمية فارضة نفسها على واجهة المشهد، حتى ليكاد رأي الكاتب ان يختفي. واقتضت عملية الرصد هذه تنقيبا لم يغفل أي مصدر اسرائيلي أو فلسطيني، من أجل تكوين صورة واقعية، عن حقيقة المواقف التي تواجهت في كامب ديفيد.

ويقدم المؤلف رؤية موثقة عن موقف المفاوض الفلسطيني، الذي اعلن روايته عما جرى في مفاوضات كامب ديفيد، ردا على الرواية التي روجت لها اسرائيل، ولكن الاعلام العالمي تجاهل الرواية الفلسطينية ولم يتعامل معها، وبدا الأمر وكأن الاسرائيليين لديهم رواية يعلنونها، أما الفلسطينيون فقد التزموا الصمت. وقد شكل تبني الاعلام العالمي للرواية الاسرائيلية وتجاهله للرواية الفلسطينية عملية ضغط قاسية وواسعة النطاق، تدين الموقف الفلسطيني، وتحاول ان تدفع به نحو العودة للقبول بما تتضمنه الرواية الاسرائيلية من عروض للحل.

ويكشف الكتاب بالوقائع، خطأ النظرية القائلة بأن الاسرائيليين قدموا في كامب ديفيد اقتراحات في كل قضية معروضة، بينما رفض الفلسطينيون تقديم اقتراحات مضادة. ويبين الحسن في هذا السياق ان الفلسطينيين اعتبروا قرارات الشرعية الدولية في ما يخص الانسحاب والقدس واللاجئين والدولة والسيادة، هي اقتراحاتهم التي يردون بها على العروض الاسرائيلية. ولكن الاسرائيليين رفضوا اعتبار هذه القرارات موقفا فلسطينيا، وطالبوهم بردود جديدة (مساومة الحل الوسط)، ودعمهم في هذا الموقف الرئيس الاميركي بيل كلينتون دعما وصل الى حد المشادة والصياح احيانا، حتى ليمكن القول ان مفاوضات كامب ديفيد كانت محاولة منظمة ضد قرارات الشرعية الدولية.

ويثبت الكتاب بالوقائع، ان فشل مفاوضات كامب ديفيد انما كان بسبب الخلاف حول قضية القدس فقط بعد ان تم الوصول الى اتفاقات حول القضايا الاساسية الأخرى، ويبين ان الخلاف كان شاملا حول قضايا الحدود والانسحاب والسيادة والأمن واللاجئين والقدس. ولكن قضية القدس احتلت مكانا بارزا في الاعلام لانها كانت النقطة المطروحة للتفاوض عند بروز لحظة الفشل والإعلان عنها، اضافة الى ان الاقتراح الاسرائيلي بشأن القدس (سيادة اسرائيلية على المدينة والمسجد الاقصى) كان مفاجئا تماما للوفد الفلسطيني، ولم يسبق له ان عرض في اي مفاوضات سابقة، وكشف للمفاوض الفلسطيني ان اسرائيل لا تريد تسوية سياسية مقبولة انما تريد فرض حل اذعان لا يمكن القبول به.

ومن الأمور المهمة في سياق الكتاب نقد الرواية السائدة القائلة بأن الاسرائيليين عرضوا الانسحاب من 91% من ارض الضفة الغربية، وذلك من خلال الكشف عن خدعة اسرائيلية دائمة تعرض رقما عاليا نسبيا للانسحاب تحت بند (الأرض) ثم تعود لتقليص هذا الرقم والمطالبة بأراض أخرى عند بحث البنود التي تتعلق بالأمن أو بغور الاردن أو بالقواعد العسكرية أو بطرق الوصول الى القواعد العسكرية، بحيث تكون نسبة الانسحاب الفعلية المعروضة هي ما يقارب 60% فقط من الضفة الغربية.

ويوضح الكتاب عند بحث اقتراحات الرئيس الاميركي بيل كلينتون، ان الرئيس الاميركي استخدم الخدعة نفسها، حين توّج ورقته بعرض للانسحاب من 95 % من الارض بينما فتح الباب امام رفع هذه النسبة في مجال القضايا الأخرى (تبادل اراض ـ استئجار اراض ـ قواعد أمنية ـ خطوط مواصلات... الخ). وقد شاع ان الفلسطينيين رفضوا ورقة كلينتون بينما قبلها الاسرائيليون. وحقيقة الأمر، حسبما يوضح الكاتب، ان الموقفين الفلسطيني والاسرائيلي تعاملا مع الورقة من منطلق واحد هو القبول بها من حيث المبدأ مع طلب توضيحات عليها. وهناك تصريحات رسمية للرئيس كلينتون تؤكد ذلك، ولكن الاعلام الاميركي والاسرائيلي اشاع ان الفلسطينيين رفضوا الورقة بينما قبلها الاسرائيليون. وقد بادر الرئيس الاميركي كما يقول المؤلف الى موقف غريب من نوعه حين رفض الرد على الاستفسارات الفلسطينية حول النقاط الغامضة في الورقة، واشترط عليهم اعلان قبولها أولا من دون أي سؤال أو استفسار.

وبين مفاوضات كامب ديفيد وورقة كلينتون، كانت الانتفاضة الفلسطينية. ويرى الحسن ان الانتفاضة اندلعت كرد فعل على العرض الاسرائيلي في كامب ديفيد، ذلك ان المواطن الفلسطيني تعامل بحذر وصبر مع اتفاق اوسلو، منتظرا ما سيسفر عنه، ورافضا تقديم حكم نهائي قاطع ضده الى ان تتضح كل الحقائق حوله، وفي عمق هذا الموقف أمل غامض بأن يسفر اتفاق أوسلو عن تسوية مقبولة، ولكن مفاوضات كامب ديفيد كشفت للمواطن الفلسطيني نوع السلام الذي تريده اسرائيل، واحدث ذلك صدمة نفسية عميقة لديه، أدت الى تفجر الانتفاضة الثانية بينما تميل الرواية الاسرائيلية الى تبسيط الأمر والقول بأن الرئيس ياسر عرفات قد تخلى عن منطق المفاوضات واختار العودة الى منطق «الارهاب» وبسبب هذه القراءة المغلوطة (والمقصودة) للوقائع، برزت النظرية الاسرائيلية القائلة بأن عرفات لم يعد شريكا في السلام، ولا بد من تغيير القيادة الفلسطينية واستبدالها بقيادة جديدة، وجوهر الأمر هو الانزعاج الاسرائيلي (والاميركي) الشديد من صمود عرفات امام الضغوط ورفضه تقديم التنازلات في نطاق الحل النهائي، والرغبة الشديدة في بروز قيادة فلسطينية ترضخ للضغوط وتقبل تقديم التنازلات، وما لبث الموقف الاميركي ان انحاز الى هذا الموقف الاسرائيلي متعللا بأحداث 9/11، معتبرا ان مقاومة الاحتلال هي نوع من الارهاب الذي لا بد من مواجهته، تماما كإرهاب «تنظيم القاعدة» في افغانستان، وأدى هذا الى تماهٍ بين الادارة الاميركية ووزارة ارييل شارون، وبرز وصف الادارة الاميركية لعنف الاحتلال الاسرائيلي بأنه دفاع عن النفس وعمل ايجابي ضد الارهاب، وهو تحول نوعي في السياسة الاميركية لم يعبر عن نفسه بهذا الشكل الواضح من قبل.

ويتناول الكاتب مفاوضات (طابا) التي جرت بعد ذلك من منظور مختلف عما هو شائع بشأنها، فبينما يعتبر الجميع، وبتصريحات رسمية، ان مفاوضات (طابا) حققت اختراقا، واحدثت تقاربا كاد يفضي الى حل مقبول من الطرفين، يقول مستندا الى المحاضر، ان مفاوضات (طابا) اختلفت في الاسلوب فقط، ولكنها لم تختلف بالمواقف والمطالب، وهي بالتالي لم تحقق أي انجاز جديد، خاصة في القضايا الاساسية المتعلقة بالانسحاب والقدس واللاجئين. لكن يبدو ان الطرف الاسرائيلي كان بحاجة لاشاعة مناخ بإمكانه النجاح في التسوية دعما لايهود باراك في معركة الانتخابات، وقد قدم له الجانب الفلسطيني هذه الخدمة بتصريحات متفائلة، لكن كل ذلك لم ينفع، وخسر باراك معركة الانتخابات لصالح ارييل شارون وحزب الليكود.

ولعل أبرز ما في الكتاب فصله الأخير الذي يعالج اهم مواقف التقييم لمفاوضات كامب ديفيد، وفيه يتناول الكاتب بالنقد موقفين اسرائيليين بارزين هما: موقف شلومو بن عامي وزير الخارجية والمفاوض الرئيسي مع الفلسطينيين، وموقف ايهود باراك رئيس الوزراء عبر مقابلة طويلة أجراها مع المؤرخ الاسرائيلي «بني موريس»، وفي الموقفين آراء وتحليلات تقترب من العنصرية، وتكشف عن استحالة ان يؤدي مثل ذلك الفكر الذي يتبنونه عن الفلسطينيين الى تسوية عادلة معهم، فهم يعتبرون الفلسطينيين ابناء «حضارة كاذبة» حسب باراك، وينتمون الى «حركة وطنية مريضة» حسب بن عامي. وربما يكون هذا هو الجوهر العميق الذي أدى الى فشل مفاوضات كامب ديفيد.

* الخداع الاسرائيلي

* المؤلف: بلال الحسن

* الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت