عندما اقتادت مخابرات النظام العراقي السابق المعماري والباحث المعروف رفعت الجادرجي إلى المعتقل، كانت لا تزال تدوي في رأس زوجته الكاتبة بلقيس شرارة أصداء التصفيق الحاد الذي قابل به طلبة جامعتي فيينا وانز بروك النمساويتين، محاضرتين له تحدث فيهما عن تطويره العمارة في العراق وهم مغمورون بالدهشة والمفاجأة، لانجازاته في تطوير العمارة العراقية باستعماله التكنولوجيا الحديثة، وصهرها بالتراث العراقي، وهم لم يكونوا يتوقعون مثل هذا التقدم الفني والمعماري في بلد مثل العراق! تم الاعتقال بعد أقل من 48 ساعة من عودتهما إلى بغداد قادمين من فيينا، في الوقت الذي ما زالت صحف الأخيرة تتحدث عن ذلك النجاح الذي حققه الجادرجي خلال زيارته الأخيرة لها، وهو معماري متميز ومشهود له على نطاق عالمي، ونجل للزعيم العراقي الوطني الراحل كامل الجادرجي. وهكذا مرت حياة الزوجين وحياة اسرتيهما والأقارب والأصدقاء بمحنة قاسية سحبت ظلالها المرعبة على فترة امتدت الى ما يقارب العشرين شهراً، عانى خلالها رفعت من ظروف شديدة القسوة في المعتقل، وعانى من هُمْ خارجه من كوابيس التصورات التي لا حدود لها عن معتقلات النظام ومجاهلها، وتخللها صدور حكم بالسجن المؤبد على الجادرجي مع مصادرة جميع أمواله..! هذه المحنة بكثير من أحداثها وتداعياتها ودلالاتها، كانت محور كتاب بعنوان «جدار بين ضفتين» صدر عن دار الساقي مؤخراً بـ 350 صفحة من القطع الوسط، عسى أن يكون وثيقة من الوثائق التي تصف معاناة الناس في العراق. لقد كان يفصل الزوجين ـ كما يقول الكاتب ـ جدار غير قابل للاختراق، جعل كلاً منهما في ظلمة بمعزل عن الآخر. لذا قررا ان يكتب كل منهما من موقعه من ذلك الجدار الذي فصلهما. فكتبت بلقيس شرارة ما كان يجري من أحداث ووقائع ومحن واحباطات في ظلمة الجهة الخارجية من الجدار، وكان رفعت الجادرجي بدوره يكتب ما كان يجري في ظلمة الجهة الداخلية منه، من غير أن يسعيا إلى ربط أحداثهما، اذ لم يكن هناك في واقع الاحداث ما يربطها. كان كل منهما يواجه الاحداث بمفرده، ولا يستعين بالآخر، لا لأنهما لم يريدا تلك الاستعانة، ولكن هذا ما حتمته ظروف الفرد في العراق، وهو يواجه سلطة مستبدة عاتية، لا تمنحه حق التشاور والاستعانة القانونية والإعلامية وتحرمه حتى من العاطفة الإنسانية. وبسبب واقعية هذا الفصل بين الحالتين من الوجود نسبة الى موقع كل منهما من الجدار، يصبح هذان النصفان مكملين احدهما للآخر.
في هذا السياق جاءت فصول الكتاب الأربعة، مترابطة عبر تناغم عميق ورؤى وطنية وانسانية وعاطفية ثرة، وبأسلوب جميل ومشوق، لم يتوقف عند أهم تفاصيل المحنة فحسب، بل تجاوز ذلك إلى التحليل والاستذكار والاستنتاج على مستويات ثقافية وسياسية واجتماعية وشخصية شتى.
وإذا كانت حكاية اعتقال شخص مثل رفعت الجادرجي ـ بدون مبرر حقيقي ـ ثم الحكم عليه بالسجن المؤبد، تشكل بذاتها علامة استفهام كبيرة تتضاءل أمامها الأجوبة، فسيكون من المناسب ان نتابع هذه الحكاية وتفصيلاتها، وما اشتملت عليه كتابات الزوجين من رؤى تتجاوز مرارات الواقع واحجية المستقبل الى استشرافات واقعية نابضة بالحياة والحب والأمل.
لقد كشف الكتاب عن كثير من الممارسات الرهيبة التي كان يقوم بها جهاز المخابرات والأجهزة الأمنية الأخرى، التي تحكمت بجميع مرافق الدولة والمجتمع في العراق. لم تكن تعرف زوجة المؤلف والأسرة والأصدقاء لماذا اعتقل الجادرجي، وماذا سيكون مصيره قبل وبعد الحكم عليه بالسجن المؤبد. كان هنالك نسيج مختلف من الشائعات ربما كانت تشرف على حياكته اجهزة المخابرات لإرعاب الناس واذلالهم والإمعان في ايذائهم، وبينما كانت الأسرة تفتش عن المقر الذي اعتقل فيه رفعت دون ان تهتدي اليه، كانت هنالك شائعات تقول ان حكماً بالإعدام سيصدر بحقه.
وجد نفسه أول الأمر في زنزانة بطول مترين وعرض متر و170 سنتيمتراً، وهي شديدة العتمة ولا يسمح للمعتقلين فيها بالتعرض لأشعة الشمس إلا مرة واحدة كل عشرة أيام. وكان المعتقل يجرد من اسمه ويتحول الى مجرد رقم، في محاولة يائسة لإلغاء هويته وماضيه ومستقبله وطمس وجوده، وتجريده من حقوقه كمواطن وكإنسان. واذا كان الجادرجي قد نجا من التعذيب الجسدي لمكانته الاجتماعية والعلمية وبطلان التهمة الموجهة إليه، فإنه شارك المعتقلين الآخرين في التعرض إلى أنواع أخرى من التعذيب تتمثل بالتجويع ونشر القمل الأبيض الذي يتغلغل في البطانيات والملابس، ويتسلى بمص دماء المعتقلين. بالاضافة الى مواجهة تصرفات استفزازية وسماع أصوات أنين وصراخ عالية ومؤلمة بسبب التعذيب، ومشاهدة هيئات مرعبة لبعض المعذبين.
خلال فترة اعتقاله تنقل بين معتقلات عدة، ولم يكن يستطيع القراءة أو الكتابة خلال الأشهر الخمسة الأولى، وبعد ان سمح لزوجته بمقابلته مع الآخرين يوم المواجهة الأسبوعي، كانت دائماً أول مواجه يصل المعتقل واستطاعت ان تسرب له ما يحتاج من كتب ومواد وصور مستنسخة، وتقول إنه قرأ 160 كتاباً خلال الخمسة عشر شهراً الأخرى التي امضاها في المعتقل، وتمكن من انجاز كتابين هما «صورة أب» و«شارع طه وهامر سمث»، و«الأخيضر والقيصر البلوري». لقد وضع لنفسه داخل المعتقل برنامجاً صارماً للقراءة والكتابة، رغم مواجهته للمجهول وما يرافق ذلك من قلق.
وخلال فترة اعتقاله كانت هنالك محاولات كثيرة تجري لإطلاق سراحه، وإذا كانت هذه المحاولات بطيئة وخجولة من قبل العراقيين بسبب ظروف القمع الوحشي ومصادرة الحريات، فإن سياسيين لبنانيين أمثال وليد جنبلاط وعضوي القيادة القومية لحزب البعث عبد المجيد الرافعي وعبد الوهاب الكيالي، قد بذلوا جهوداً كثيرة لكنها لم تثمر. وفي إطار هذه الجهود قال وليد جنبلاط لسعدون شاكر رئيس المخابرات العراقية في حينه: «انني اتكلم باسم الحركة الوطنية ككل، والافراج عن رفعت هو مطلب جميع القوى الوطنية في لبنان»، ولكن الأخير لم يأبه، سيما انه كان يحمل حقداً دفيناً عليه، ويقول رفعت: «حسب رواية احدى صديقات بلقيس، بتول انه كان يراقبني في مطار المثنى في بغداد، حينما كان يعمل هناك، وقد قرر آنذاك، وهذا في أوائل الستينات، ونحن في أوائل الثمانينات الآن، أي قبل عشرين سنة أنه حينما سيأتي إلى الحكم، هو وجماعته، سيبقي رفعت في نفس ملابسه لمدة ستة أشهر».
وبالإضافة إلى الجهود العربية، فإن جبرا إبراهيم جبرا كان قد أخبر بلقيس إن عالم الاجتماع والمستشرق الفرنسي جاك بيرك، قد أثار الموضوع أمام بعض المسؤولين عندما دعي الى احد المؤتمرات، ولكنهم لم يعطوه جواباً شافياً.
أما لماذا اعتقل رفعت الجادرجي، فإن التفاصيل تكشف عن رعبها وغرابتها. فبعد أن قام رجلان يعملان في مخابرات النظام العراقي باغتيال رئيس الوزراء الأسبق عبد الرزاق النايف في لندن، تم القبض عليهما، وحكم عليهما بالسجن لمدة طويلة. وبعد أن فشلت السلطات العراقية في الافراج عنهما رغم مساعيها الحميمة، قررت القاء القبض على أي بريطاني يكون موجوداً حينذاك في فندق مرموق ببغداد لجعله رهينة تستخدمها في تشبثها بالافراج عن عملائها. وشاءت الصدف أن يكون المقبوض عليه هو سبارك مدير الشرق الأوسط لشركة «ويمبي». وعندما طُلب إليه ذكر أسماء من اتصل بهم عند زيارته بغداد، فكر كثيراً، وتذكر أنه راجع رفعت قبل سنتين أو أكثر حول مشروع «عكاشات»، وهو مشروع لم تقدم الشركة عرضاً عليه. وقد أشار إلى اسم الجادرجي باعتباره معروفاً، وذا سمعة طيبة، معتقداً ان ذكر اسمه سيخفف من الضغط الذي يعاني منه. ولكن بدلاً من أن يكون الاسم عامل تزكية تم القاء القبض على صاحبه ولاقى ما لاقاه.
واذا كانت الصدف قد تحكمت بكثير من الوقائع العراقية بعيداً عن المنطق، فإن الجادرجي الذي تم اعتقاله والحكم المؤبد عليه بالصدفة، قد خرج من السجن بالصدفة ايضا، اذ ان صدام حسين كان قد قرر اعادة النظر في تخطيط مدينة بغداد وتحسينها استعداداً لانعقاد قمة عدم الانحياز في بغداد، بغية اظهارها أمام رؤساء الدول كعاصمة متطورة تشبه عواصم الدول المتقدمة، سأل عن المعماريين المهمين الذين يمكن الاستعانة بهم، فأُخبر ان هنالك اثنين من المعماريين العراقيين يعدان من خيرة المعماريين في الشرق الأوسط، هما رفعت الجادرجي الذي كان يقبع في السجن، والدكتور محمد مكية الذي ترك العراق منذ بداية السبعينات.
أجاب صدام عندئذ "الجوه نطلعوا، والبره نجيبوا".
وهكذا أُطلق سراحه تقول بلقيس الجادرجي: "لقد أصبح يوم 20 آب (أغسطس) عيد ميلاد ثانياً نحتفل به، فقد ولد رفعت ثانية عندما خرج من أحشاء السجن المظلم. وأصبح الاحتفال بعيد ميلاده الثاني عادة مستمرة حتى بعد أن تركنا العراق".
لقد عانت الزوجة الكثير خلال اعتقال زوجها وصدمها الى حد بعيد تغير سلوك بعض الأصدقاء والمعارف، وهي تروي كيف كان اعتقاله والحكم المؤبد عليه محكاً قاسياً وامتحاناً صعباً لعلاقاتهم الاجتماعية في مجتمع يسيطر عليه الحزب الواحد بقبضته البوليسية الصارمة. وكيف ان الرعب سحق شخصية الناس ونكس الذل رؤوسهم التي كانت مرفوعة بفخر واعتداد قبل ان يتسرب ويسكن في اعماقهم، ويشل حركتهم ويصبحوا آلات مسخرة بيد السلطة، وأصبح المواطن العراقي خائفاً حتى من ظله، فغربل الرعب عدداً من الأصدقاء والمعارف والأقارب.
ثم تستدرك بقولها: "لم تكن الصورة مظلمة تماماً، بالرغم من الجو المكفهر والرعب الذي سيطر على الناس في تلك الفترة، بل كانت هنالك مصابيح خافتة تضيء العتمة التي عشناها. وكان من بين الأصدقاء والمعارف من تحدى الخوف وكسر طوقه فأثبتوا عكس ما كنت اتوقعه منهم. وقد ذهب بعض المعارف الذين تربطنا بهم علاقة سطحية الى أبعد من الزيارات، فعرضوا على نصير شقيق رفعت مبلغاً ضخماً من المال، فشكرهم على تلك الالتفاتة، قائلاً لهم انه ليس بحاجة إلى المال".
وقد شاءت الظروف أن تفجع خلال فترة المحنة برحيل والدها الكاتب اللبناني محمد شرارة التي كانت تعتبره صديقاً حميماً قبل أن يكون أباً، وكان يتدفق في ذهنها نهر من الذكريات الحزينة التي طوقت حياته "منذ اعتقاله الأول عام 1949، لأنه لم يكن في يوم من الأيام من مثقفي السلطة ومفكريها، بل كان مفكراً حراً، وناقداً للسلطة طوال حياته، مما أدى به إلى السجن والنفي والتشريد. أصبح نزيل معتقلات وسجون العهد الملكي وعهد عبد الكريم قاسم، واختار المنفى عندما خابت آماله في ثورة 14 تموز 1958، فذهب الى الصين ومن ثم إلى الاتحاد السوفيتي بحثاً عن الامان والعمل، ولكنه وجد فكره مقيداً في تينك الدولتين، وأصبح عرضة للصراع الايديولوجي الذي كان قائماً بينهما يومذاك. عاد من الغربة القاسية الى مسقط رأسه لبنان، بعيداً عن عائلته وأولاده في العراق، ولكنه خرج بأعجوبة من لبنان خلال الحرب الأهلية الطاحنة المدمرة التي اقتاتت مواطنيها كما تقتات النار الهشيم، متوجهاً ثانية إلى العراق في عام 1976عاش آخر ثلاثة أعوام من حياته متألماً من الأوضاع السياسية العامة في البلدان العربية ومن أوضاع عائلته التي أحيط أعضاؤها بالاعتقال والسجن". ان هذا الكتاب يعد بحق وثيقة من الوثائق المهمة التي تتحدث عن معاناة الناس في العراق، التي امتدت بهم طويلاً.
جدار بين ضفتين
المؤلفان: بلقيس شرارة ورفعت الجادرجي
الناشر: دار الساقي، لندن