حين يجتمع المثقفون

فاضل سلطاني

TT

لا يجتمع ثلاثة او اربعة مثقفين في مقهى الا ويختلفون، ولا بد ان يختلفوا. فبؤر النقاش العربية ساخنة دائما وابدا. من الموقف الى السلطة، ام القضايا الثقافية كما يفترض، الى القضية الاكثر «حداثة» وسخونة ايضا، ما دمنا نتحدث عن المثقفين، وهي الاحتلال الأميركي للعراق.

ومن هنا، فهو أمر مفرح ان يجتمع مائة وخمسون مثقفا عربيا في القاهرة، بدعوة من وزارة الثقافة المصرية، ويتحاوروا ويتناقشوا لمدة يومين. واكثر من هذا يصدرون بيانا مشتركا سمي بـ«بيان القاهرة الثقافي» الذي ندد بالاحتلال الاسرائيلي لفلسطين والاحتلال الأميركي للعراق، الى جانب توصية تقول بـ«ضرورة الحفاظ على الاستقلال الوطني والقومي لكل الاقطار العربية والدفاع عنه».

وعلى أية حال، لا بد من تنديد ما في أي مؤتمر عربي، ولا بد من توصيات، واضحة او غامضة، في أي بيان عربي، والجوهر في المتن.

وقد وضع المؤتمرون الثقافيون بحق اصابعهم على هذا الجوهر: تحديث النظم السياسية بما يجعلها نظما دستورية تنتمي الى هذا العصر، وبما يعطي الشعوب العربية حقوق الرفض والقبول والمبادرة والمراقبة. كما دعوا الى حرية الاجتهاد الفكري المسؤول ـ انسوا كلمة «المسؤول» هنا ـ باعتبارها «اجتهادا» وطنيا وقوميا ـ لا تتساءلوا ايضا ما هو الاجتهاد الوطني والقومي، وكيف ستفهم السلطات العربية هذا المصطلح الفضفاض، وماذا عنى به المؤتمرون، او لجنة الصياغة.

ونقرأ في «بيان القاهرة الثقافي» مطالبة ملحة بتطوير التعليم العام والجامعي، واصلاح الجهاز المدرسي، وتأمين مشاريع وطنية تكوّن الوجدان الوطني، وتخلق وعيا قوميا «مسؤولا» يحفظ الوحدة الوطنية ويعترف بالفئات غير العربية وثقافتها. ولم يغفل البيان تسجيل حقيقة ان الانظمة المستبدة «اوهنت المجتمع حينما اوهنت ثقافته وطاردت المثقفين بالرقابة والارهاب والحصار».

ودينيا، دعا المؤتمرون الى «ضرورة الوصول الى الشروط الاجتماعية والثقافية التي تنتج خطابا دينيا متطورا متسامحا منفتحا على العصر يتجاوز الخطابات الدينية المتزمتة التي اساءت الى العرب والمسلمين».

لكن كيف يمكن ان نحقق كل ذلك؟

ومن يحقق ذلك؟ بالطبع ليس من مهمة أي بيان عربي تحديد السبل. انه يتضمن عادة وصايا جميلة، عمومية، لا يبدو انها موجهة لأحد، وليست ملزمة لأحد، ولا أحد يقول انها تعنيني.

هل هناك جدوى من مثل هذه المؤتمرات الثقافية القومية؟ يقال في السياسة ان رفع شعار ما، لا يعني بالضرورة ان هذا الشعار قابل للتطبيق على الفور، وانما الدرس البليغ يكمن في ضرورة تثقيف الناس به واستقطابهم الى جانبه، وتوعيتهم بأهميته على أمل ان يتحول هذا الوعي الى قوة مادية في المستقبل.

ولكي يتحول هذا الوعي الى قوة مادية علينا ان نعترف ان مهماتنا الثقافية ليست واحدة في كل بلد عربي. فما هو مطروح على جدول اعمال المثقف المصري، مثلا، يختلف عما هو مطروح على جدول اعمال المثقف السعودي او العراقي او المغربي. وقد يكون جوهرنا الثقافي واحدا، ولكن تفاصيلنا الثقافية مختلفة، و«الشيطان في التفاصيل».

كما انه علينا ان نعترف، وقد آن الاوان لذلك، انه لا يوجد هناك ما يسمى بـ«وحدة الثقافة العربية» التي «كانت ولا تزال عاملا رئيسيا في وحدة الشعوب العربية»، كما جاء في البيان.

ان هذه الوحدة، ببساطة، غير موجودة. والانطلاق من كونها حقيقة راسخة، كما حصل في مؤتمر القاهرة، سيقود الى كوارث ثقافية واجتماعية اضافية. فما الذي يوحد، مثلا، بين الخطاب الديني والخطاب العلماني، وهما خطابان رئيسيان في الثقافة العربية؟

ان من الافضل لنا وللثقافة في البلدان العربية ـ ومن الافضل ان نسميها هكذا فهناك ثقافة الاقليات العرقية التي غيب ممثلوها عن المؤتمر، رغم ان البيان قد اشار اليها ـ ان نعترف بالتعدد الغني لهذه الثقافة، وخطاباتها المختلفة، سيما انها ليست متصارعة الى درجة التناقض، فهي ابنة بيئة واحدة، هي البيئة العربية ـ الاسلامية. وهذا التعدد هو مصدر قوة هائلة اذا تم الاعتراف به، ليس منة، ولكن لكونه واقعا اكبر من تجاهله للأبد، فنخسره ويخسرنا.

ما نريد ان نقوله هنا هو ان ننطلق من التخصيص الى التعميم، ومن الحسي الى المجرد، وليس العكس كما في اغلب خطاباتنا العربية. بكلمة اخرى ان ننطلق من القطري الى القومي، ونتصارع مع المشكلات التي امام اعيننا. هذا وحده هو ما سيحول المثقفين الجادين والحقيقيين الى قوة ضغط كبيرة في داخل بلدانهم، ويترجم الشعارات العمومية الجميلة العائمة في الهواء التي دعا اليها «بيان القاهرة الثقافي» الى دليل عمل. وهذا ما فعلته المنتديات الثقافية السورية رغم قصر عمرها، ورغم تجربتها المجهضة.

ولا نعتقد أن هناك طريقا آخر تحاورنا واجتمعنا وأصدرنا من بيانات قد لا يقرأها غيرنا.

[email protected]