رئيس معهد التخطيط الاقتصادي الأميركي: مشكلتنا أننا لا نفهم فكرة الدولة العظمى

TT

لا شيء يستعصي على فهم الاميركيين هذه الاونة اكثر من الطريقة شديدة التعقيد التي تتعامل بها بقية دول العالم مع الولايات المتحدة، فهي مزيج من عدم الفهم والاستياء والاعجاب والخوف والحسد وربما الصدمة والرعب كما قد يقول البعض وعدم الفهم مسألة متبادلة بين الطرفين.

ان امة في التاريخ لم تحتج لان ترى نفسها كما يراها الاخرون كما هو الحال بالنسبة للاميركيين اليوم.

وعن هذه الفترة الحرجة جدا في التاريخ التي تفرض فيها الولايات المتحدة سيطرتها العسكرية وتتصرف كما يحلو لها، يحاول كلابد بريستويتز في كتابه «أمة مارقة» ان ينظر لبلاده بموضوعية. وبرستويتز يشغل حاليا منصب رئيس معهد التخطيط الاقتصادي ويرأس ايضا مجموعة بحث في واشنطن وقد شغل مناصب عديدة خلال عمله واغلبها كان خارج اميركا وهو ما اعطاه ميزة يفتقدها اغلب اقرانه. وفكرته الاساسية ان الامة المارقة هي الاحادية الاميركية ليس فقط على صعيد السياسة الخارجية ولكن على اصعدة اخرى كثيرة. وهو يعدد بحزن بعضاً من الامور التي تحدت فيها الولايات المتحدة الرأي العالمي وتصرفت عكسه ومنها نزع السلام والاحتباس الحراري واتفاقية كيوتو والمحكمة الجنائية الدولية... الخ.

وليس الامر جديدا. فالقوى العظمى التي تشعر بعظمتها دأبت على مر التاريخ في التصرف بما يخدم مصالحها فقط ولكن القوة العظمى الحالية تغفل ذلك دون الاهتمام بالبحث عن الطريقة اللائقة، متجاهلة كذلك ما وضعه المنظرون الامريكيون الاوائل عن احترام آراء الجنس البشري، كما ان القوى العظمى السابقة كانت تهتم اكثر بوجهات نظر ومصالح الدول الاخرى، فالامبراطورية البريطانية في عز مجدها قبل مائة عام ادعت انها تراعي مصالح جيرانها وحاولت ان تستعيد ثقتهم خاصة عندما اصبح الجميع ينظر الى الانجليزي على انه الخائن الكاذب فحاولت تصحيح الصورة.

لكن الولايات المتحدة تحت ادارة بوش، كما يرى برستويتز، مختلفة تمام الاختلاف في عدم احترامها المطلق لرأي الاخرين. واذا كان موقفها من اعدائها مقتبساً من مقولة آكيوس في مسرحية كاليجولا «دعهم يكرهوننا حتى يخافوننا» ،فان موقفها من اصدقائها مقتبس من مقولة رجل الدولة الشهير «برنس مشوار زينبرج» في القرن التاسع عشر «سيندهشون من عظمة جحودنا». ومشكلة السياسة الاميركية حاليا كما يرى برستويتز ليست فقط في احادية الولايات المتحدة وعدم استماعها للاخرين، ولكن ايضا في عدم فهمها لفكرة الدولة الكبرى التي تقوم على المصالح الذاتية. فالولايات المتحدة تتصرف بطريقة «انهم يحتاجوننا اكثر مما نحتاجهم نحن» وهي قناعة روج لها بعض دعاة العولمة محدودي العقل باعتبارها الطريقة الاميركية في التصرف ومعاملة الاخرين، وهو امر غير صحيح على الاطلاق اضافة الى انه سلوك شائن.

كذلك فان الممارسات الاميركية في الشرق الاوسط خاصة موقفها من الصراع العربي الاسرائيلي. ورغم ان الجميع يعتقد ان الولايات المتحدة هي الوحيدة القادرة على حل العقدة الا ان برستويتز يرى الامر بصورة مختلفة فاميركا احادية الرأي، وهي لا تقبل الاخر لذلك لا تستطيع ان تتوصل إلى كل سياسي في الارض المقدسة ولا تستطيع ايضا ان تحقق نصراً عسكرياً سهلاً في العراق.

والنقطة الاهم في الصراع العربي الاسرائيلي هي الهوة التي اتسعت حوله بين الولايات المتحدة واوروبا فهناك مساحة فهم مختلفة تماما على الطرفين.

ولا تعرف أرجاء أخرى في المعمورة عن ذلك.فبالنسبة لاغلب الاميركيين، كما يقول برستويتز، فإن اندونيسيا وتايوان واميركا اللاتينية، على سبيل المثال، ليست اكثر من مجرد اسماء وربما اسواق ومصادر للعمالة الرخيصة وهو ايضا محبط بشدة بسبب جهل الشعب الاميركي عن العالم الخارجي، والذي يذكره بمقولة الانجليزية نانسي ميرفورد «العالم الخارجي وحشي والاجانب شياطين». يؤمن المؤلف بأن العلاقات بين الولايات المتحدة واوروبا مهمة جدا حتى وان لم يعد لاوروبا دور عسكري فهي قوى عظمى في الاقتصاد العالمي فعندما تتحدث اوروبا بصوت واحد وتتحرك بجسد واحد خاصة في المسائل الاقتصادية فعلى الولايات المتحدة ان تتعامل معها ككيان واحد لا يمكن توجيه الاوامر له.

وعما قريب سيصل حجم الناتج الاوروبي الى 9 تريليونات دولار أي مرتين ضعف اليابان ورغم ان الولايات المتحدة ما زالت متفوقة بناتج قومي يصل الى 10 تريليونات دولار ولكن سرعان ما سينقلب هذا الوضع.

والاحتمال الاكبر هو ان تهديد الهيمنة الاميركية لن يأتي من العنف الاسلامي ولا من الخطر الياباني كما ذكر برستويتز في كتابه السابق «مناطق التجارة» ولكن الخطر سيأتي من اوروبا العجوز التي تحمل سلاحها الاقتصادي في يدها وليس هناك امر يحرج العملة الاميركية ويضغط عليها اكثر من طلب اوروبي بتحويل اسعار البترول من الدولار لليورو. وفي محاولة منه لاعادة تطهير الذات كتب برستويتز قائلا: اننا نحتاج لنعيد التفكير في التوقعات الاميركية وادراك ان مشاكل الاخرين هي مشاكلنا نحن ايضا وبأننا لا نمتلك كل الحلول، وهذه ليست رسالة مألوفة بالنسبة لواشنطن ولكنها ما يجب ان تسمعه الان.