التاريخ السري السوري في مذكرات إنقلابي

الضابط السوري السابق محمد معروف يروي ذكرياته من 1949 إلى 1969

TT

يغطي كتاب «أيام عشتها» للضابط السوري السابق «محمد معروف» ذكرياته عن التاريخ السري للفترة الواقعة بين سنة 1949 تاريخ الانقلاب الأول في سورية بعد الاستقلال، إلى سنة 1969 العام الذي سبق الحركة التصحيحية للرئيس حافظ الأسد. يثير الكتاب في القارئ السوري خصوصا الكثير من الشجون، إذ تبدو الفترة التي أعقبت خروج الجيش الفرنسي وانتهاء الانتداب، واعدة ومزدهرة بالآمال والطموحات، هذه الوعود ستجد طريقها الى العسكر وتتجلى في تحكم الانقلابات العسكرية في اقدار الدولة، وترسم التحولات الكبرى للمسيرة السورية حتى الآن، بينما الحياة السياسية العلنية تدور على الهامش.

يستعرض معروف سلسلة الانقلابات الناجحة والمخفقة، من بدايات التحضير لها الى تنفيذها او تأجيلها الى موعد آخر واحياناً فشلها، فمن انقلاب حسني الزعيم الى سامي الحناوي ومن ثم أديب الشيشكلي، فانقلاب حلب وعودة الحياة النيابية والغليان الديمقراطي الذي لم يدم طويلاً، وعودة العسكر الى التحكم بمقاليد السلطة السياسية ودفعها الى عقد الوحدة مع مصر.

شارك محمد معروف في اغلب هذه الانقلابات، وسرح من الجيش في سن مبكرة قبل ان يصل الى الثلاثين من عمره، والتجأ الى لبنان، ومن هناك راقب الأوضاع في سورية وحاول العودة على ظهر انقلاب وحركة مسلحة واحزاب مثل الحزب القومي السوري، وبتواطؤ مع العراقيين تارة، وبمساعدة من الأردنيين والسعوديين تارة اخرى. كان اللاجئون السياسيون احتياطيي الأنظمة المناوئة.

وعلى الرغم من اقترابه من الاحداث والمشاركة فيها مشاركة فعالة ولعب ادوار قيادية فيها، لم يستطع تقديم صورة شاملة أو حيادية، وهي ظاهرة في كتابة المذكرات قلما تخلو واحدة منها، وربما هذا العيب يعطي لمذكراته مصداقية أكبر، فهو لا يطمح الى تقديم صورة شاملة قدر ما يطمح الى تبيان دوره في الاحداث التي كان طرفاً فيها، وبهذا تعبر مذكراته عن وجهة نظر حقيقية تبين بجلاء موقفه دونما ارتباك، بل وإعلانه صراحة بعد مناقشة مع الرئيس هاشم الأتاسي اقتناعه باتخاذ جانب المحور العراقي أي الوحدة مع العراق.

في تلك الفترة، كانت سورية واقعة تحت ضغوط كبيرة من المحورين العراقي والمصري السعودي، كذلك الاحلاف كالدفاع المشترك وحلف بغداد، فانقسمت الاحزاب السورية والسياسيون والعسكريون الى قسمين، خاضا صراعات فيما بينهما لحساب المحورين المدعومين من السفارات الغربية. لم تكن المأساة السورية وليدة صراعات في الداخل قدر ما كانت انعكاساً للصراعات الدائرة في المنطقة. لعب العسكريون الدور الأكبر فيها بانتماءاتهم القومية البعثية والسورية والإسلامية والمحافظة المتمثلة بالعدوين اللدودين الحزب الوطني وحزب الشعب، كذلك الفعاليات التجارية الحلبية والدمشقية، على أنهم رفعوا دائماً لواء الوحدة على حساب الحريات.

واذا كنا الآن ننتقد الآثار الكارثية التي أدت اليها الانقلابات، واسهمت في عدم استقرار المجتمع، وتكبيد البلاد خسائر لا يمكن تعويضها، لكن علينا ألا نغمط المشاركين فيها من تفهم دوافعهم. كان الضباط يمثلون الطليعة الوطنية المتنورة، شاغلهم التغيير وحرق المراحل والبحث عن أنجع الوسائل للتقدم وردم الهوة الحضارية بين الشرق والغرب، كانت مأثرة كمال أتاتورك الملاصقة في تركيا تمثل حافزاً قوياً لمجاراتها، لكن المأزق السوري كان في ان الضباط لم يكونوا كتلة واحدة، كانوا عبارة عن مجموعات، تتفق وتختلف، تنفرط وتنعقد، وكثيراً ما تبدل ولاءاتها. في حين كان الغرب يحاول العودة الى المنطقة اقتصادياً، بمردود كبير وتكلفة قليلة. يضيف محمد معروف، اضافة هامة وحيوية الى سلسلة المذكرات التي افتتحها رئيس الوزراء السابق خالد العظم في الستينيات، ولم تنته بعد بمذكرات أمين أبو عساف وعبد الكريم زهر الدين وسهيل العشي وغيرهم، وربما نلاحظ غلبة عدد مذكرات العسكريين على مذكرات السياسيين، وذلك لرجحان الفعل العسكري على الفعل السياسي، وتوصل الأحزاب نفسها الى الانخراط في الجيش، وايجاد قواعد لها في داخله، وقناعتها بقوة العسكر على ايصالهم الى الحكم.

ما زالت الفترة الواقعة بعد الاستقلال الى الحركة التصحيحية، تحتاج الى الكثير من التمحيص والتدقيق والمراجعة، وما كثرة المذكرات إلا لكثرة اللاعبين في تلك الفترة الحرجة، ولهذا بالذات لا تستطيع حتى الآن هذه الحصيلة من الكتب ان تعطي فكرة وافية يتمكن فيها المؤرخون من كتابة تاريخ العقدين المذكورين، واي طرف لا يستطيع الزعم بأنه يقدم الرواية الحقيقية والنهائية للأحداث التي جرت. وربما كمثال نجد أن تفسير محمد معروف لشخصية الحناوي لا يشاركه فيها أغلب العسكريين والسياسيين، وليس في ذلك انتقاد بقدر ما هو اختلاف في الموقع، كذلك حادثة سليمان المرشد، لم يقدم القصة الخفية لادانته، بالاضافة الى احالته بعض الخلافات السياسية الى خلافات شخصية، وتعاونه المخفق مع الشيشكلي، عدا عن لغز السراج. لهذا وغيره، لا يمكن للمشهد الانقلابي السوري العاصف أن يكتمل الا باسهام اكبر عدد من الاطراف باعادة كتابة ما حدث.

كتاب «أيام عشتها» يترك الكثير من علامات الاستفهام، وهي علامات مشروعة، تحرضنا على طرح غيرها، وربما اكتشاف هذا التاريخ المخفق في تحقيق آمال كانت طموحات الجميع.

كتاب محمد معروف يستحق أكثر من تقريظ على بساطته وجرأته في آن واحد، لم يسقط في الادعاء ولا المغالاة، أما إذا لم يكن كاملاً، فلأننا نرغب في المزيد. وربما لأننا نقرأه الآن، بعد زمن يتيح لنا أن نزن التاريخ بعيارات مختلفة ومتطلبة.