جماليات الخط العربي المحجوبة

ارتبط الخط العربي على مدى التاريخ بعلم الهندسة وهذا الارتباط حفز مخيلة البنائين العرب على الإبداع في فن العمارة

TT

صدر مؤخراً عن دار صادر ـ بيروت، وجروس برس ـ طرابلس كتاب «التكوين الفني للخط العربي»، بالاشتراك مع وزارة الثقافة العراقية.

والكتاب مثير للاهتمام لتطرقه الى ميادين حديثة كمعالجات الخط العربي في التصميم الطباعي والتشكيل اللوني والطيفي والابعاد الثلاثة. وكل ذلك وغيره وفق نظرة حديثة متقدمة.

الكتاب ينطلق من قناعة بأنه طالما كان البحث في احد الجوانب التي يشترك فيها الخط العربي (اللغوية، الحرفية، الدينية، التقنية، الفنية) دون غيره، فإننا لن نفهمه، وسيظل الخط حرفة يمكن اتقانها ولا يمكن الابداع فيها.

يعمل الكتاب على ايضاح هذه العلاقات الشائكة بين الجوانب المشتركة للخط العربي بتحليل التكوين الفني وفق اسس التصميم، وهي: الوحدة، التوازن، التوافق، التضاد، والتدرج، والاستفادة من نتائج هذا التحليل في بناء اعمال فنية تشكيلية، تبرز المزيد من الجوانب الجمالية والتعبيرية للخط العربي.

وهذه الاسس الجديدة في التحليل لا يفرضها قصور في التقاليد الموروثة، انما للافصاح عن جمالياته المحجوبة، وفق منظور يمنحه مزيداً من التعبير، وينقله من عالم التدوين كفن تطبيقي يؤدي وظيفة معينة لها علاقة بخدمة الانسان، الى فن من اجل حيوية التعبير، اي نقله من موقعه الذي يتوسط الفنون التطبيقية والفنون الجميلة الى الفنون الجميلة، مما يغني الفنانين في فنون الرسم والنحت والعمارة وغيرها، كما يغني الخطاطين في فتح آفاق جديدة.

ارتبط الخط العربي على مدى التاريخ بعلم الهندسة، وأوجد هذا الارتباط علاقة تناسبية بين الحروف واجزائها، عبّرت عن العلاقة الجمالية والوظيفية بينهما، وكان لهذه العلاقة تأثير في اعتماد مقاييس معينة للحروف من حيث الابعاد والانتظام والتسلسل. وهذا الارتباط حفز مخيلة البنائين العرب على الابداع في فن العمارة فقد استخدموا مخيلة الحرف وبعده الفني اساساً معمارياً انتج انماطاً من العمارة المتدرجة والمتوحدة والمنبسطة والمنسطحة والمنكبة والمستديرة وغيرها من الاشكال على المساحة المكانية من الاندلس الى اقاصي الصين، وعلى المسافة الزمنية لخمسة عشر قرناً، نجدها واضحة في قبب ومآذن الجوامع التي تشترك اضافة الى الحروف العربية القرآنية المنقوشة بأنماط وأشكال تؤالف في انسيابها البناء، ليشقا معاً السماء دعوة الى الله.

يستخدم كل نوع من انواع الخطوط العربية في تجسيد فكرة تتوافق ومكوناته، فيساهم في بناء الشكل المشهدي اضافة الى دوره اللغوي، فيختزل الخط لصالح المعنى الفني. فالفكرة في الخط العربي لا تسعى الى التجسيم والمحاكاة كما في الفن الغربي بل تستلهم عناصر «الارابيسك» بكل مكوناته سواء في التنظيم من حيث التكرار والايقاع والتناوب، او من حيث اشتماله على الزخارف النباتية والهندسية والكتابية المنفذة بمواد والوان مختلفة وفي اماكن متعددة تشكل بمجموعها عالم المسلم الرحب.

فالفكرة وهي تتحول الى كتلة بواسطة الخط تضيف الى القيمة البصرية قيمة لمسية تغري بالدخول في تجاويف العمل، والجمع بين هذين النقيضين، وحل التناقض بينهما احد اروع انجازاته المتميزة.

يحدد المؤلف انواع الخطوط العربية، ويعطي لكل خط وصفاً ودوراً وحاجة ومعنى، فالخطوط التي تأخذ شكلاً افقياً تتسم بحالة من السكون العميق والاستقرار، وتشكل الحد بين السماء والارض، بين المادة والروح. اما الخطوط العمودية، فتثير احساساً بالرفعة والتماسك وعند توازنها في السطر تعطي احساساً باللاواقعية في الاحساس. اما الخطوط المنحنية فتسعى الى احداث تأثير انفعالي بطريقة اندفاعية وسريعة. فالخطوط التي تستخدم في موقعها بذائقة فنية راقية تضفي على العمل الفني قدرة اضافية للتعبير، كحروف وكلغة. فكل كتابة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بكل مكونات اللوحة وعناصرها، من اجل زيادة التعبير في الشكل واللون فضلاً عن مضمون اللغة.

قيمة هذا الكتاب تنبني على شمولية الدراسة وجديتها وجديدها، ورغم هذه الجدية الحداثة في التناول والتحليل، فقد وقع المؤلف في مطبات السائد والمتداول في الفصل الاول، فلم تتناسب نتائجه مع فصول الكتاب الاخرى. فهو يعزو مثلاً انتشار الخط العربي كميدان للتعبير الفني الى خلفية تحريم الاسلام للتصوير في غليان التشخيص الوثني، وهو التحريم المشكوك به. رغم ان لجوء المسلمين الى الخط كميدان للتعبير الفني لبلورة الافكار التي لا تجد سبيلها الكافية في اللغة، وكأفق لفتح مساحات للتجريد، اتى بعد ان عجز التصوير عن تلبية الحاجات الفنية حين لم يعد الله اله الشعوب والقبائل والملل والنحل بل اله العاملين. اله لا شكل له بعد ان اصبح كل الاشكال، فالانعتاق من الشكل اصبح شرطاً باتجاه ابعاد ما زالت تطرح دلالاتها مذ علّم الله آدم الاسماء كلها. هذا البعد المتناسق مع بقية فصول الكتاب ونتائجها لم يلحظه المؤلف بل عرض بكثافة للمعلومات التاريخية وبلهجة تقريرية.

الخط العربي ليس رديفاً للتصوير بل منطلقاً لسبر اغوار كون يستشف المسلم من مظاهره ابعاداً لم تعد محددة بالزمان والمكان، فيوم ربك بألف سنة مما تعدون.

اما الاعجام والشكل فلم يحاول الكاتب دراسة ابعادهما التجريدية، رغم عرضه التاريخي للخطاطين الذين ساهموا في تطوير الخط، ومراحل التحولات التي طورت الخط من التربيع الى آفاق دفعت الخط للتناغم وفق سيمفونية مشهدية تشارك المصلين في اداء الصلاة، وتواكب قرآناً لا زالت معانيه تتوالد، وترفع مآذن ما زالت تصدح بعربية المشهد والصوت رغم زمن الانهيارات البشع.