نجاحنا يكمن في تواصلنا الإنساني

المتعصب أو المتسلط لا يتقن فن السماع لنفيه حقوق الآخرين

TT

التواصل الانساني ركن مهم من اركان الحياة البشرية منذ ان وجد الانسان فوق الارض التي نعيش عليها، واذا كان الانسان القديم قد تعامل بالاشارات وتعابير الوجه والتمتمات الغامضة، فإن التواصل الانساني أخذ يتطور بشكل مطرد مع الزمن، وهو اليوم علم من العلوم الانسانية المهمة، مما يجعل الضرورة ماسة للتعمق في دراساته والتعريف والتثقيف بها.

وفي مبادرة جميلة منه قام مكتب التربية العربي لدول الخليج بتكليف الدكتور محمد بلال الجيوسي لوضع دراسة في مهارات التواصل الانساني، لتشكل معينا للاسرة العربية بشتى مستوياتها، يساعدها على ان تمد المجتمع بابناء قادرين على الاندماج فيه بيسر وسهولة مما يزيد من عطائهم في خضم تأثير المتغيرات التقنية والحياتية المعاصرة. وقد صدرت هذه الدراسة في كتاب بـ 311 صفحة من القطع الكبير، ضم اربعة عشر فصلا غطت الموضوع من جوانبه كافة، حيث اشتملت على: معنى التواصل، الاستماع، الادراك الاجتماعي، التواصل، الذات في التواصل، اللغة اللفظية في التواصل، التواصل غير اللفظي، التواصل الاقناعي، نظريات العلاقات التواصلية، نظريات نمو العلاقات، الذكاء التواصلي، الاخلاق في التواصل، تعليم التواصل، ثمار التواصل.

ان الانسان في هذا المكان او ذاك، كان ولا يزال يتواصل مع الآخرين بشكل سليقي او فطري في الغالب الاعم، مما لا يمكنه من الايصال بالشكل والقدر اللذين يرومهما من التعبير، ومن هنا جاءت هذه الدراسة بهدف نفض الغبار والآلية عن التواصل، وتوعية القارئ بمبادئه واشكاله وطرائقه واهدافه ومشكلاته على نحو يزيد من مهاراته التواصلية بما يسهل له اشباع حاجاته، وتحقيق النجاح والسعادة في حياته.

واذا كان التواصل الجيد والسليم يمكن ان يؤدي الى تقوية الروابط الاجتماعية، واثراء العلاقات ومعرفة الذات وحسن تقديرها وتعميق الحس الديمقراطي والنجاح في الحياة وتحسين الصحة النفسية والجسمية وجعل الحياة اكثر متعة وجمالا. اذا كان التواصل كذلك، فإنه من جانب آخر يتطلب مستلزمات مهمة قد يوحي ذكرها مجردة بانها محض بدهيات، ولكن التأمل فيها والتوقف عند بعض مفاصلها، يكشف شيئا من ابعادها التربوية والانسانية، التي ينبغي اخذها بنظر الاعتبار في المجالين التربوي والنفسي.

وعلى سبيل المثال، فإن المؤلف عندما يتحدث عن الاستماع كعنصر اساسي ومهم من عناصر التواصل، يفرد له ثلاث عشرة صفحة ليتحدث عن جوانب قد تبدو معروفة في الظاهر، ولكنه يثير من خلالها نقاطا محددة ومركزة تكاد تغيب بعض دلالاتها وتأثيراتها لدى كثير من الافراد والاسر. وهو اذ يتحدث في البداية عن اهمية الصوت، وكوننا نعيش في عالم صائت، وكيف ان الصم يواصلون حياتهم بسبل تعويضية مختلفة، يرى ان غياب الاصوات من حياتنا يغلق نافذة اساسية من نوافذنا الحسية التي نطل منها على العالم، وحتى نقدر اهميتها فما علينا الا ان نحاول كتابة كل الاصوات التي سمعناها في يوم ما، ونحاول كذلك تصور حياتنا لو كنا غير قادرين على الاستماع اليها، وسندرك اي مهرجان صوتي ذاك الذي نعيش في وسطه، وكم هو مهرجان حيوي بالنسبة لنا.

وبما ان عملية الاستماع الفعال، هي عملية معقدة ذات جوانب عديدة، فإن بالامكان تقسيمها الى ثلاثة اقسام رئيسية هي: قبل الاستماع، وفي اثنائه، وبعده، مع مراعاة ان هناك قدرا كبيرا من التداخل الواقعي بين هذه الاقسام، وفي اطار الربط الجدلي بين المتحدث والمستمع يرى الدكتور الجيوسي ان المتحدث الذي ينبغي ان يؤدي دوره بشكل جيد، هو مسؤول ايضا عن المستمع، فالمتحدث يستطيع ان يحقق كثيرا من الشروط التي تجعل الاستماع له ميسرا وممتعا وفعالا، عبر توفيره البيئة المادية، والعرض المنطقي لرسالته، وتمكنه من مهارات العرض والتحدث.

واذ يلعب التعاطف بين المتحدث والمستمع دوره المهم، نجد المؤلف يقصد بالتعاطف ان نضع انفسنا في مكان المتكلم، ونرى ما يتحدث عنه من وجهة نظره، اذ المطلوب اولا هو ان نفهم ما يريد ان يقوله، لا ان نفهم ما نريده نحن. وينطوي هذا التعاطف على اقرار ـ اولي ـ بالتعددية، واحترام للمتحدث، ومنحه فرصة واسعة لقول ما يريده. ويتطلب التعاطف احساسا عميقا بالديمقراطية وقدرة عالية على الصبر، كما يتطلب التحلي بمرونة كافية وثقة بالنفس. اما الديمقراطية فلأنها تعني ـ من جملة ما تعنيه ـ الاقرار بحق الآخر في التعبير عن وجهة نظره واحترام هذا الحق، لذلك فإن المتعصب او المتسلط لا يتقن فن الاستماع لانه لا يؤمن بمثل هذا الحق للآخرين.

وبعد ان يتحدث بدقة وتركيز عن اهمية وضرورة عدم المقاطعة والانتباه والتركيز وطبيعة الفهم الجيد، يتناول الباحث الادراك الاجتماعي، ممهدا لذلك بالحديث عن الادراك الحسي، والادراك الجواني او الذاتي والادراك المتجاوز للحس. ويقصد بالادراك الاجتماعي، ادراكنا لسلوك الناس اللفظي كما تعبر عنه اللغة، وغير اللفظي كما يتبدى في حركات الجسم والوجه وتعبيراتهما الثرية، وعمق الصوت وحدته وخصائصه الاخرى، وسمات المكان. وهذا السلوك بكل تجلياته المختلفة يمثل رسائل تحمل معلومات ومعاني تؤثر على المستقبل بسبل متنوعة. وينتقل بعد ذلك الى الحديث عن اهمية الادراك الاجتماعي فيؤكد حقيقة ان هذا الادراك يوفر مصدرا معرفيا اجتماعيا مهما يتمثل في معلومات تفيد في اشباع دوافعه وتحقيق اهدافه وتفادي الضرر والاذى والتكيف مع الآخرين، كما ان الادراك الاجتماعي يعمل كمحفز يستنهض في الانسان تغيرات معرفية وسلوكية وانفعالية، قد تكون ايجابية او سلبية، اذ قد توحي له نظرة بسيطة من أحد الحاضرين بأن ثمة سرا يحاول الآخرون اخفاءه عنه او قد يفسر نظرة اخرى على انها نظرة اعجاب تبعث فيه الزهو والغرور، ويمكن ان يفسر ابتسامة على انها تحمل سخرية مبطنة مما يدفعه للقيام بسلوك عدواني تجاه صاحبها.

ويشير المؤلف بهذا الصدد الى ان نجاحنا في تحقيق اهدافنا يكمن ـ فيما يكمن ـ في دقة ادراكاتنا الاجتماعية سواء اكانت اشارات عابرة غير لفظية ام تلميحات لغوية او مؤثرات صوتية وان سرعة التقاطنا لهذه الادراكات ودقة تفسيرنا لها مسألة مهمة للتصرف ازاءها على نحو فعال.

ولدى حديثه عن اللغة اللفظية في التواصل، يعيد الى الاذهان ان العلاقة بين اللغة والتواصل تكاد تشبه العلاقة بين المثلث وزواياه او بين المربع واضلاعه، كونها علاقة منطقية يصعب فصلها، مما يجعل اللغة اللفظية حاضرة حضورا قويا في كل جنبات التواصل، اذ ان حتى تصوراتنا عن ذواتنا التي تؤثر في التواصل هي مرتبطة باللغة، واننا حتى عندما نتحدث عن اللغة غير اللفظية كما تتبدى في تعبيرات الوجه وحركات الجسم، فاننا نفعل ذلك محاولين ترجمة اللغة غير اللفظية الى مفردات لفظية.

ولتأكيد مدى شيوع التواصل اللفظي واهميته، يوضح ان ليس علينا الا ان نتصور انفسنا نتحدث دون ان يبدو على وجوهنا اي تغيير ودون ان نشير بايدينا ودون ان نحرك اجسامنا. وبالمثل فحتى نتبين مدى خسارتنا اذا تجاهلنا التواصل اللفظي فليس علينا سوى ان نتصور انفسنا نستمع الى اناس لا نراهم ونتجاهل خصائص اصواتهم. وتكتمل الصورة التي تكاد تكون مستحيلة حين نمتنع عن استنتاج اي معلومات يمكن ان تتضمنها خصائص المكان او الالوان او الملابس او الموسيقى، ومن هنا فإن الاشارة غير اللفظية والكلمة اللفظية صنوان مترابطان يسهم كلاهما في توصيل رسالة متكاملة تحفل بالمعنى والحياة.

ولما كان التواصل يهدف في احدى اكثر وظائفه اهمية الى التأثير، الذي يأخذ ابرز اشكاله في الاقناع فإن المؤلف يؤكد هنا حقيقة ان الاقناع هو جعل الآخر يقبل بوجهة نظر المتحدث مختارا وليس مرغما، وذلك من خلال استخدامه لجملة حجج ووسائل متنوعة، ومن الواضح ان الناس ينخرطون يوميا في محاولات اقناع بأمور صغيرة وكبيرة ويتعرضون يوميا ـ بالمثل ـ لمحاولات اقناع من الآخرين، وتمتد هذه المحاولات على مساحة الحياة الاجتماعية: في البيت والمدرسة والعمل.. الخ. وتعتبر القدرة على الاقناع مهارة تواصلية بارزة، تفيد من يتمتعون بها على مساحة الحياة الاجتماعية ايضا.

ونحن نتحدث عن التواصل يبرز امامنا بوضوح ان الذكاء والاخلاق هما من العناصر الاساسية لتحقيق التفاعل الخلاق وتعزيزه، وبعد ان يكرس المؤلف فصلين خاصين لهما يخلص الى تأكيد حقيقة ان ما من مجال من مجالات الحياة الانسانية الا وتبرز قضية الاخلاق فيه، وتثير اسئلة شتى. فقد دار جدل طويل عن علاقة الاخلاق بالفن والعلم والسياسة والتجارة والرياضة.. الخ. وعلة الحاح هذا الهاجس الاخلاقي في كل هذه الميادين واضحة بينة: ان الاخلاق هي ضمانة استمرار الحياة الاجتماعية الانسانية، وضمانة محافظة هذه الميادين على ذاتها، بل على الانسان ايضا.