«التمييز الجمالي» أخطر من «التمييز العنصري»

أحرص الناس على المعايير الأخلاقية لا يستطيعون الوقوف بلامبالاة أمام الإشارات الخارجية التي يرسلها الوجه أو توحي بها الملابس

TT

الاخلاق مهمة لكن الجمال اهم... وقد شغل اختصاصيون طوال العقود القليلة الماضية باجراء ما لا يحصى من الاختبارات على اذواق البشر، ليحصلوا على نتائج مفادها ان «المظهر» بات يغلب «المخبر» و«الشكل» هو الذي يسيّر العالم ـ اكثر من أي وقت مضى ـ وليس «الجوهر». ويبدو من خلاصة ما وصلت اليه الدراسات ان كل محاولة للتقليل من قيمة الجمال هي محض خدعة قد تكون بريئة لكنها مؤذية، في زمن السلطة فيه للشاشة التلفزيونية والسينمائية، وعدسات الكاميرات التي تريد ان تلتقط كل بديع ومثير واخاذ.

وثمة طرفة عن مدير شركة، احتاج لتوظيف سكرتيرة، وتقدمت لهذا العمل فتاتان احداهما جميلة والاخرى قبيحة، فلما اراد امتحانهما سأل الاولى: «ما عدد شهداء ثورة الجزائر؟»، فقالت: «مليون شهيد». فاذا به يتوجه للاخرى بالسؤال: «هل لك ان تذكري لي اسماء المليون شهيد». وهكذا فازت الجميلة وخسرت القبيحة في الامتحان. وكتاب جان فرانسوا اماديو المعنون «وزن المظاهر» يرينا بالبراهين والادلة الدامغة ان طريقة مدير الشركة في اختيار سكرتيرته هي اكثر من شائعة، وان احرص الناس على المعايير الاخلاقية لا يستطيعون الوقوف بلامبالاة امام الاشارات الخارجية التي يرسلها الوجه او توحي بها الملابس او ينطق بها الجسد. وقد عني الاكاديميون الاميركيون والانجليز بهذه الظاهرة البشرية التي تزداد وطأتها، ليخرجوا بنتائج اقل ما يقال فيها انها مدهشة، فقد تبين، على عكس ما نعتقد، ان هناك ما يشبه الاجماع على شكل الوجه الجميل، وان اختلاف الاذواق بين الناس يتضاءل حتى يكاد يتلاشى بسبب توحد النموذج. وتقول الدراسات ان الاستثمار في ميدان الجمال يكاد يوازي استثمار الاموال. وهو ما يفسر ان يتمكن مقدم برامج وسيم يثبت قوة جاذبيته، من الفوز بأدوار سينمائية او دعائية. والعارضة التي تتربع على عرش الشاشات لفترة طويلة، بامكانها بعد ذلك ان تستخدم رأس مالها الجمالي في اعمال اخرى لا علاقة لها بعروض الأزياء من قريب او بعيد. فالعارضة البارعة يمكنها بسهولة ان تدخل المجال الاعلامي او السينمائي وربما السياسي ايضاً. وسلطة الجمال تفتح الدهاليز الخفية والعصية بين الاختصاصات التي لا صلة عملية بينها. فاي غرابة ان ياتي رونالد ريغان من هوليوود الى البيت الابيض وان ينتقل الممثل ارنولد سوارزينيجر من امام الكاميرا الى حكم ولاية كاليفورنيا.

وبات بحكم المؤكد ان المواجهة التلفزيونية الشهيرة بين جون كينيدي وريتشارد نيكسون يوم السادس والعشرين من سبتمبر 1960، هي التي حسمت المعركة الانتخابية للولايات المتحدة الاميركية لصالح المرشح الشاب كينيدي، الذي لم يكن حينها سوى سيناتور شاب في مقتبل العمر يقف في مواجهة نيكسون، نائب رئيس الولايات المتحدة. فقد بدا كينيدي على الشاشة برونزي اللون، حيوياً، مفعماً بالشباب والديناميكية، بينما كان نيكسون مريضاً ،هزيلاً، يعاني من التهاب في الركبة. ويروى ان كينيدي استعان بطلاء للوجه، وقام بتجارب سابقة امام الكاميرا واستعاض عن قميصه الابيض باخر ازرق في اللحظة الاخيرة، اذ تبين انه يليق به اكثر، وتم جلبه على عجل من الفندق. اما نيكسون الذي لم يلتق بمستشاره سوى لدقائق معدودات قبل المقابلة فواجه المشاهدين على سجيته وخسر الجولة.

خبراء هوليوود معنيون عن قرب بالنماذج البشرية الاقرب الى قلوب الناس، ولهم دراساتهم المتقدمة في هذا المجال. فقد اجروا اختباراً على اكثر من 200 صورة لوجوه نسائية من اجل معرفة مواصفات المرأة السياسية الاميركية التي يمكنها ان تسحر الامزجة. وفي الكتاب الذي نتحدث عنه يمكنك ان تقرأ توصيفاً دقيقا لتدويرة ذقن تلك المرأة، وشكل عينيها، وتسريحة شعرها، وطبيعة ابتسامتها، وطريقة لبسها. ومع قليل من التدقيق للمواصفات المثالية التي تم وضعها لشكل السياسي المحبب، والموظف الناجح، والتلميذ المقرب من اساتذته، والحسناء المؤهلة للتدرج صوب الاعلى، ترى ان المجتمع الحديث، اذا ما واصل هذا النهج، فانه يسير في منافسة حادة، صوب هدف واحد هو: الظهور بأفضل شكل ممكن.وهي منافسة تطحن الغالبية الساحقة، اذ من ناحية هناك الخبراء الذين يمدون المؤسسات السياسية والاعلامية والرياضية بالمعلومات اللازمة لتصنيع نجومها بالطريقة الانجع، وتقديمهم على الشكل الذي يعرف سلفاً انه سيجد قبولاً اكيداً بين الناس، وهؤلاء يتم اختيارهم من طينة الاجمل. ومن ناحية اخرى هناك الغالبية التي توصف بانها متوسطة الجمال التي تشقى لترتفع بمستواها الى صف النخبة الجمالية فتصل او تداس في الطريق. وقبل ان ترمي هؤلاء الطموحين بالجنون، عليك ان تعرف مثلاً ان الدراسات تثبت ان الاطفال الرضع يطيلون النظر في صور الجميلات، بينما تبقى نظراتهم عابرة امام الاقل جمالاً.

وقد تظن في هذه النتائج الظنون لكن خبراء اخرين يقولون بانك لو كنت جميلاً او جميلة تكسب نقاطاً اضافية في اي امتحان خطي تقدمه لو ارفق بصورتك، وتخسر تلقائياً ايضا بعض النقاط لو كنت قبيحاً او قبيحة، بفعل التأثير النفسي الذي يشعر به المصحح.

ويقول مؤلف الكتاب، رغم ان الفرنسيين نجحوا في جعل طلابهم مجهولي الاسم والشكل لدى مصححي الامتحانات بسبب السرية المتبعة، الا ان المشكلة لم تحلّ بالخالص فعند دخول سوق العمل تبدأ التصفيات المبنية على «التمييز الجمالي»، ويعمل الجميل قبل القبيح، والانيق اسرع من سيئ الهندام، والنتائج كما يعرضها الكتاب مظلمة، تبلبل العقول، وتدفع بالغالبية الى ابواب عيادات التجميل لإصلاح ما فسد، غير ان المنفذ الوحيد المضيء الذي يتركه المؤلف لقرائه من متوسطي الجمال او ما دون ، هو تذكيرهم بان لكل انسان هامشه الذاتي الذي يمكنه ان يوظفه او يلعب عليه، ليمنح صورته صفات افضل، ويؤثر في محدثه بطريقة انجع. ولا بد ان تتذكر بان كل جميل ثمة من هو اجمل منه، وبالتالي فالعصر الحديث يحتم عليك ان تبقى متيقظاًَ لتجميل نفسك باستمرار من دون هدنة او تسامح او حتى رحمة كانت تحتضن، ذات يوم، كبار السن او المرضى من المتألمين.