يا للترجمة من مهنة شاقة!

فاضل السلطاني

TT

في لقاء «الشرق الأوسط» مع البرازيلي البرتغالي الاصل باولو كويليو، الذي سننشره قريبا، سألنا الكاتب الاكثر مبيعا في العالم، اذا ما كانت دور النشر العربية تحصل على اذنه المسبق قبل ترجمة اعماله، وما اذا كانت تحترم حقوقه الادبية، فرد بان الامرين لا يهمانه كثيرا. كل ما يريده ان تكون هذه الترجمات جيدة.

وللاسف، هي ليست كذلك، باستثناء الترجمة اللبنانية، وهو يعرف ذلك. وقد رجانا مرتين، انطلاقا من طبيعة مهمتنا الصحافية «الاستخباراتية»، ان نحيطه علما بالترجمات السيئة في المستقبل، وان نفضح مثل هذه الترجمات علنا.

وكان الكاتب الطاهر بن جلون قد اشتكى، في لقاء نشرناه سابقا، من مثل هذه الترجمات السيئة. وذكر انه كتب مباشرة الى دور النشر المعنية من دون اية نتيجة.

والترجمات السيئة لا تسيء الى الاصل فقط، وانما الى المحيط المنقولة اليه، اساءة قد تنتج عنها كوارث علمية وفكرية وثقافية كبرى.

فقد ترجم ـ على سبيل المثال ـ عن ارسطو مصطلحا «الكوميديا» و«التراجيديا» ترجمة خاطئة، واستمر فهمنا الخاطئ، وبالتالي تطبيقاتنا، لهذين المصطلحين طويلا، ولم يستقم الا في الخمسينات او الستينات من القرن الماضي.

وحديثا ـ وعلى سبيل المثال ايضا ـ كان لترجمة خالد بكداش، الامين العام السابق للحزب الشيوعي السوري، لكتاب «الرأسمال» لكارل ماركس، منتصف الاربعينات نتائج كارثية على الحركة الشيوعية في البلدان العربية. وقد اصدر التونسي العفيف الاخضر على ما نذكر كتابا كاملا عن اخطاء هذه الترجمة. وينطبق هذا على عشرات الكتب الماركسية المترجمة عن الانجليزية غالبا، الامر الذي دعا احد المنظرين الماركسيين العرب الى القول، بين الجد والهزل: «اننا اخطأنا فكريا لان الماركسية ترجمت خطأ». واذا كانت الترجمة الادبية السيئة تفتقدك التمتع بالقيمة الجمالية، والفنية للعمل المنقول، فان الترجمة الفلسفية والعلمية الخاطئة، حيث لكل مفهوم ومصطلح بل حتى لكل كلمة مفهوم دقيق، لا تحرف فقط بوصلتك في التعامل مع الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وانما توقفك على رأسك بدل قدميك. وبالطبع، ما تزال فوضى ترجمة المصطلحات والمفاهيم الفلسفية والعلمية هي النظام الوحيد السائد في الثقافة العربية للاسف. ولو قارنا انفسنا في القرن الواحد والعشرين، باجدادنا في العصر العباسي، حين كانت الترجمة علم العلوم، وبيت الحكمة، وليس بيت السلطة، بيت البيوت، وحلقات المترجمين مراكز بحث حقيقية، لشككنا ان دماءهم تجري في شرايننا. ألم تنطلق الحضارة العربية والاسلامية، هذه الحضارة التي نظل نفخر بها ابد الابدين من دون ان نأخذ باسباب تشكلها ونمائها وتطورها. ألم تنطلق تلك الحضارة من اكبر عملية ترجمة في كل تاريخنا العتيد؟ ولكن، قبل ذلك كانت عملية علمية خضعت للتفحص الدقيق من كبار المتخصصين والمترجمين الذين كان الخليفة المأمون يستدعيهم من كل انحاء الارض قبل ان يخرجوا النص المنقول الى محيطه الجديد.

كويليو محق، فهو لا يريد ان يقرأه اكثر من 200 مليون عربي بشكل خاطئ. كما ان يليوت سينفجر غضبا حين يكتشف ان كلمة Swallow في ملحمته الارض «الخراب» قد ترجمت خطأ الى «ابلع» بدل «سنونو» الى اللغة العربية على يد احد شعرائنا الكبار.

ولا شك ان الفرنسي سان جون بيرس سيشعر بأسف بالغ وهو في قبره حين يعرف ماذا حل بشعره حين ترجم الى العربية مما دعا احد الكتاب التونسيين الى تأليف كامل عن اخطاء هذه الترجمة التي انجزها احد كبار الشعراء العرب ايضا. وفي المقابل، سيقبل فيورور دوستوفيسكي وجنتي سامي الدروبي الذي نقل كل اعماله الى العربية ـ ليس من الروسية بل من الفرنسية ـ نقلا لا يقل سحرا عن الاصل، بحيث اصبحت هذه الاعمال جزءا من الثقافة العربية واصبح اسم دوستوفيسكي في ذهن القارئ العربي مقرونا باسم سامي الاوروبي.

ما زال المترجمون الجيدون موجودين، ولكن هؤلاء ابطال فرديون يتوسلون بدور النشر لتبني ترجماتهم بعد جهد سنوات، وقد لا يفلحون. واذا حالفهم الحظ، فقد لا يحصلون سوى على النزر اليسير. وبالطبع، هم يحكمون اجتهاداتهم فيما يفعلون وخاصة في ترجمات امهات الكتب الفكرية والفلسفية، في غياب المؤسسات او اللجان المختصة التي قلما يلجأ اليها اي ناشر.

ويبدو ان هذه الفوضى ستستمر الى امد غير منظور، اذ لا شيء يشير الى ان اولي الامر يعيرونها كبير اهتمام. كما لا يبدو ان تقرير الامم المتحدة حول حصة الترجمة بغض النظر عن الترجمات السيئة في البلدان العربية كلها، والتي لا تعادل بلدا واحدا مثل اسبانيا، قد اثار شجوننا كما لا يبدو اننا ندرك بعد ان امة بلا ترجمة هي امة نصف ميتة.