قراءات في محفوظات ماري المسمارية

كانت مملكة ماري تسجل بعناية كل وارداتها ونفقاتها بفن إداري متقدم

TT

كانت مصادفة طيبة عندما عثر بعض الأشخاص الذين كانوا يبحثون عن حجارة لدفن أحد موتاهم من سكان تل الحريري على جذع تمثال. وذلك عام 1933، وقد تدخلت السلطات الفرنسية وارسلت بعثة اثرية الى المنطقة برئاسة العالم الاثري اندريه بارو، باشرت التنقيب في المكان، وحددت هوية التل، فظهر انه موقع مدينة ماري، ويقع التل على بعد احد عشر كيلو مترا الى الشمال الغربي من مدينة أبو كمال، على الضفة اليمنى لنهر الفرات.

أسفرت حفريات تل الحريري عن قصور وعمائر ومعابد ومنحوتات فريدة في أهميتها، منها قصر (زمري ليم) الملكي، الذي يرجع الى الالف الثالث ق.م، ويتكون من 300 غرفة، وقد نشرت البعثة تقاريرا اولية عن نتائج مواسم التنقيب، كما نشر اندريه بارو النتائج التي توصلت اليها البعثة في سلسلة أثرية، تناولت معابد المدينة والقصور والكنوز، وكرس اللقاء الدولي للآشوريات مؤتمره الخامس عشر الذي عقد في ليبيج اعماله لحضارة مدينة ماري. وقدمت المكتشفات الرقمية معلومات لا تضاهى في مجال التعريف بمدينة ماري «لوحات بالآلاف من (20 ـ 25 ألفا) وجدت في كل ناحية من انحاء القصر الملكي وفي الخزائن الجدارية أو تراكمت على عدة طبقات فوق بلاط الارض، وقد كتبت بالخط المسماري واللغة الاكادية بلهجة ماري. وهي تلقي ضوء على جوانب مهمة من تاريخ بلاد الشام في الألف الثاني والأموريين منه بشكل خاص، وتاريخ الشرق الأدنى بوجه عام، وتطلعنا على الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية والمعتقدات الدينية والعلاقات الدولية بين سورية ووادي الرافدين وتعاصر ملوك ذلك الزمن.

ذكرت ماري في النصوص المكتشفة في (نيبور) و(كيش) كمقر للسلالة الحاكمة العاشرة بعد الطوفان، وبالاسناد الى القائمة الملكية السومرية فإن سلسلة تتألف من ستة ملوك حكموا ماري، كانت لهم حوالي منتصف الألف الثالث (2600 ق.م) سيطرة كاملة على بلاد الرافدين. وقد واجهت مارينحو منتصف الألف الثالث ق.م مأساة الدمار على يد ملك أوروك، الا انها استطاعت ان تنهض من جديد. كما كشفت نصوص (مملكة ايبلا) وثائقها عن الدور المهم الذي قامت به ماري في توثيق العلاقات بين بلاد الشام وبلاد الرافدين في هذه الفترة. اذ ان معظم التجارة العابرة من احد الطرفين كانت تمر في ماري، وتشهد النصوص على مكانة ماري الثقافية، حيث كان كتاب ايبلا يتعلمون الكتابة في ماري، وقد توصلت ماري لفرض غرامات على ايبلا دون ان تهددها مباشرة، ويؤكد القصر ووجود المعابد اهمية ماري وازدهارها المادي والحضاري آنذاك، مما جعلها مطمعا للطامعين من الفاتحين الاكاديين. وكانت نهايتها على يد حمورابي الذي غزاها في (1760 ق.م) وتدل الوثائق على وجود المحتلين البابليين في قصر زمري ليم منذ منتصف هذه السنة، ودمرت اسوار المدينة واحرق القصر بعد ذلك بسنتين، اثر ثورة ضد الغزاة البابليين، واختفت هذه المملكة دفعة واحدة، بدء من اللحظة التي تسكت فيها النصوص، وقد رقدت مختبئة تحت رمال الصحراء، ولم تظهر على مسرح التاريخ حتى ايقظتها معاول المنقبين وتناول الباحثون كنوزها.

يتناول البحث الحياة الاقتصادية في مملكة ماري، ويضم الفروع الرئيسية للنشاط الاقتصادي: الزراعة والصناعة والتجارة، خلال مدة محددة، هي القرن الثامن عشر ق.م وتضمن الفصل الاول عرضا مكثفا للخلفية السياسية والمراحل التاريخية لمملكة ماري، استنادا لمعطيات علم الآثار والوثائق المكتشفة والمرتبطة بأصول ماري وفترة ازدهارها وعصر الشكاناكو في نهاية الألف الثالث، ثم العصر الاموري في الألف الثاني، حتى نهايتها على يد حمورابي.

وتناول الفصل الثاني الزراعة، مبينا الظواهر الفاعلة لموقع ماري الجغرافي والمؤثرات الطبيعية على اقتصادها والنشاط الزراعي: النباتي والحيواني وتنظيم الري وتأمين الغذاء. وعالج الفصل الثالث الصناعة والانتاج الحرفي. وظهر ان صناع ماري كانو على مستوى متطور من حيث رقي وسائل الانتاج وتقنيات ذلك العصر، بحدود ما توفر لهم من الموارد المحلية والمستوردة، وبدا ان ماري شهدت ازدهارا للحرفة، دل عليه تعدد المواد والسلع النسيجية والغذائية والمعدنية التي اشارت اليها سجلات القصر. اختص الفصل الرابع بالتجارة التي استند اليها اقتصاد ماري، مستفيدة من موقعها الاستراتيجي على طرق المواصلات المهمة: النهرية والبرية بين بابل وشرق المتوسط والاناضول، ويتضح نمو التبادل التجاري في ذلك المجال الجغرافي، وتعود بعض اسبابه الى الظروف الاجتماعية والسياسية التي ادت االى سقوط الممالك السومرية في جنوب العراق في نهاية الألف الثالث ق.م ووصول الاموريين الى السلطة من العديد من الحواضر الرافدية والشامية، وكانت ماري أحد المستفيدين الرئيسيين في ارباح التجارة وموارد المرور للنقل التجاري عبر مناطق نفوذها.

وقد شكل النشاط التجاري رافعة التوازن والتكامل للمصالح الاقتصادية بين ممالك الشرق الأدنى آنذاك وعامل نشوء التحالفات السياسية أو انهيارها، تبعا لتلك المصالح، فكما كانت التجارة عاملا في ازدهار ماري وثرائها، كانت ايضا سبب انهيارها ثم دمارها. اعتمدت هذه الدراسة على معطيات اكثر من 700 نص من وثائق ماري، وضم الفصل الخامس 60 نصا كاملا جرى اختيارها من محفوظات ماري المسمارية، وهي تعالج موضوعات اقتصادية متنوعة، فقد كانت إدارة ماري تسجل بعناية كل وارداتها ونفقاتها. وتظهر سجلاتها مدى قدرة تلك الادارة واية درجة من الثراء وصل اليها ملوك ماري.

تبين الوثائق المستعرضة في هذا البحث ان مملكة ماري قد اعتمدت على اقتصاد متنوع، وقد نظمت ادارة القصر تكامل فروعه الزراعية والصناعية والتجارية والخدمية، وتمكنت رغم الظروف المناخية القاسية من توسيع استثمار الاراضي الزراعية على ضفاف نهري الفرات والخابور، خاصة في المنطقة السهلية المحيطة بماري، وساعد على ذلك اهتمام الحكام بتأمين وسائل الزراعة، وفي مقدمتها تنظيم مشاريع الري من الاقنية والسدود، فانتجت على الضفاف المروية شتى الزروع، ورعت على الهضاب والسهول قطعان الماشية، وتحدثت النصوص عن الحبوب والخضار والاغنام والابقار ومنتوجاتها من الصوف والجلود، ويتضح من 148 نص ان ماري قد استطاعت ان تؤمن حاجاتها من الغذاء وحاجات القوافل التجارية المارة في اراضيها، بالاضافة الى توفير المواد الاولية للعديد من الصناعات والحرف اليدوية، وقد امتلك القصر الاراضي الواسعة، واشرف على مسحها وتوزيعها واستثمارها.

من خلال 435 وثيقة تعرضت لأعمال الصناعة والحرف نرى ان صناع ماري كانوا يشكلون نسبة كبيرة من العاملين، ولم يكونوا اقل من الفلاحين نشاطا وعطاء في حرفهم، فقد شهدت مشاغل النسيج ازدهارا، وغدا بعضها يضم مئات العمال، ونشطت الصناعات الجلدية والخشبية وتم انتاج افضل العربات، وجرت معالجة مختلف المعادن صهرا وصبا وسحبا وتصفيحا وترصيعا، وشكلوا منها مختلف اللوازم والحلي والفنون، وتوصلوا الى خلائط معدنية جديدة كالبرونز والزجاج، وبرز إداريون قديرون وصناع اختصاصيون وعمال مهرة، ونظمت علاقتهم مع القصر بارتباطات قانونية، تناولت الاقامة والانتقال والاجر والاستيداع والصرف من الخدمة، ووفر الصناع لمدينتهم ولمعابدها وقصورها مختلف الآثاث الذي بلغ حد الترف. واصبح قصر ماري القائم على مساحة هكتارين ونصف الهكتار درة زمانه، يمثل اكبر اتساع عمراني بين قصور الشرق الادنى في الالف الثاني ق.م، فأثار اعجاب ملوك عصره بتنظيمه الهندسي لمئات الغرف والباحات والممرات وتعدد مرافقه التي ضمت المشاغل والمخازن وقاعات المدارس والسجلات والدواوين، فكان شاهدا ماديا على تقدم ماري العمراني والحضاري.

اعتمادا على ما تقدمه 276 وثيقة عالجت مواضيع التجارة، تبين ان ماري تمكنت من توظيف موقعها الاستراتيجي للسيطرة على مسالك التجارة، فشكلت عقدة مهمة، واولت اهتماما بتهيئة وسائط النقل، ونظمت انتقال قوافلها ومراكبها وحمايتها، واحسنت وفادة الرسل والمبعوثين والتجار الذين اقبلوا عليها من كل مكان، يحملون الهدايا، مما ساهم في توطيد العلاقات الدبلوماسية، ضمانا لمرور سلع بلدانهم التجارية، بما فيها السلع النادرة كالقصدير واللازورد، وتم اقتطاع الضرائب والرسوم لقاء حق المرور في مناطق نفوذ المملكة.

لم يكشف التنقيب المنهجي الذي لا يزال مستمرا منذ اكثر من 60 سنة، الا عن جزء مما في باطن تل الحريري، ولا تمثل دائرة الاطلال المكتشفة الا ربع المساحة التي تمتد عليها مدينة ماري، وربما تعطي اللقى الجديدة معلومات أوفى حول جوانب من حياة المملكة التي هي جزء مهم من تاريخ سورية والمنطقة في الالف الثالث ق.م.

* اقتصاد مملكة ماري (القرن الثامن عشر قبل الميلاد)

ـ سلسلة الدراسات التاريخية

ـ علم الدين أبو عاصي

ـ وزارة الثقافة، دمشق، سورية 2003

ـ 334 صفحة قطع كبير