سؤال التعصب واحد وإجاباته متعددة

50 مفكرا يناقشون أسباب التعصب الديني ويطرحون تصوراتهم حول ما يجري في العالم الإسلامي

TT

كيف يطرح كبار المفكرين مسألة التعصب الديني؟ كيف يفهمونه؟ على هذا السؤال يجيب الكتاب الذي بين ايدينا الآن. فقد شارك في تأليفه ما لا يقل عن خمسين باحثا من شتى انحاء العالم، بالطبع لا نستطيع ان نتوقف عند اجوبتهم او تشخيصاتهم كلها. وانما سنضطر الى الاختيار والحذف كما هي العادة في مثل هذه الظروف. فإذا ما اقتطعنا فقرة من كل باحث ووضعناها الى جانب فقرات مجتزأة اخرى ومأخوذة من كل الباحثين الآخرين فاننا لن نتوصل الى رؤية معمقة ومتماسكة عن الموضوع، بالطبع فهناك ظلم في التركيز على اجوبة هذا المفكر واهمال اجوبة المفكر الآخر، ولكن لا حيلة لنا في الامر.

لاعطاء فكرة عن اهمية المشاركين في كتاب «التعصب الديني» يكفي ان نذكر اسم امبيرتو ايكو الفيلسوف والروائي الايطالي او بول ريكور شيخ فلاسفة فرنسا المعاصرين وأحد كبار مفكري الغرب حاليا وليس فقط فرنسا، وجاك لوغوف المؤرخ الشهير لفترة العصور الوسطى بشكل خاص، ورينيه ريمون أحد كبار المختصين بتاريخ المذهب الكاثوليكي في فرنسا ومسألة التعصب الديني ودراسة النزعة المعادية لرجال الدين ومحمد طالبي شيخ المفكرين العرب والتونسيين ومحمد اركون الذي يحدث ثورة معرفية حاليا في الساحة الاسلامية من خلال مشروعه الكبير.. الخ.

سوف اتوقف بشكل اساسي عند مداخلات بول ريكور وجاك لوغوف ورينيه ريمون من الجهة الفرنسية، ثم مداخلة محمد طالبي ومحمد اركون من الجهة العربية والاسلامية. فعلى هذا النحو يمكن ان نفهم كيف يطرح مفهوم التسامح او التعصب في كلتا الجهتين وما هي الفروقات الكائنة بينهما بسبب التفاوت التاريخي واختلاف الظروف والحيثيات.

في مداخلة بعنوان «الحالة الراهنة للتفكير حول التعصب» يقول بول ريكور ما معناه: التعصب يعبر عن ميل طبيعي موجود لدى جميع الكائنات البشرية. فكل شخص او كل فئة وجماعة تحب ان تفرض عقائدها وقناعاتها على الآخرين. وهي تفعل ذلك عادة اذا ما امتلكت القوة والسلطة الضرورية. وبالتالي فالتعصب يعني اولا تسفيه عقائد الآخرين وقناعاتهم او احتقارها. وهو يعني ثانيا منع الآخرين بالقوة من التعبير عنها.

وقد مارست جميع الاديان والمذاهب التعصب وبخاصة في فترة العصور الوسطى، ولا يزال ممارسا حتى الآن في بيئات عديدة، وهنا يفرق بول ريكور بين فترتين اساسيتين من تاريخ الفكر:

فترة ما قبل الحداثة وفترة ما بعد الحداثة. في الفترة الاولى كان التعصب يعتبر شيئا طبيعيا وعاديا ولا يثير اي استغراب. كان الشيء المدهش هو التسامح مع عقائد الآخرين. وكانت المذاهب المسيحية السائدة في الغرب الاوروبي مثلا تنبذ بعضها بعضا وتكفر بعضها بعضا وتحمل السلاح على بعضها بعضا بتهمة الزندقة او الخروج على الخط المسيحي الصحيح.

وهذا هو تاريخ الصراع بين المذهبين الاساسيين في المسيحية الغربية: اي المذهب الكاثوليكي والمذهب البروتستانتي ولهذا السبب حصلت حروب الاديان او المذاهب وسالت الدماء بين الطرفين.

ولم يخرجا من المعمعة الا بعد ان حصل التنوير في انجلترا وهولندا اولا، ثم في عموم اوروبا لاحقا، عندئذ دخل مفهوم الحقيقة في ازمة لاول مرة في تاريخ الغرب، وحتما في تاريخ الفكر البشري ككل. ما المقصود بذلك؟ المقصود به انه حتى ذلك الوقت كان الانسان الكاثوليكي يعتبر نفسه بمثابة المالك الوحيد للحقيقة المطلقة للدين المسيحي او للدين ككل وكان يعتبر ان كل الاديان الاخرى باطلة. ولكن المشكلة هي ان البروتستانتي كان يعتقد الشيء ذاته في ما يخصه ولهذا السبب حصلت المواجهة والمطاحنة الكبرى بين الطرفين ولكن بدءا من عصر التنوير اخذ كل طرف يتساءل: وماذا لو كان الآخر يمتلك ايضا جزءا من الحقيقة في فهمه للدين؟ ولماذا يكون مذهبي وحده او اعتقادي وحده هو الصح؟ هكذا ابتدأ الشك يتسرب الى نفسية المستنيرين من ابناء المذهبين وعندئذ خفت حدة العداء بين الكاثوليكي والبروتستانتي وأخذا يتقاربان ويتحاوران. ووجدا عندئذ انه من السخف ان يتحاربا ويقتلا بعضهما بعضا على الهوية بسبب الاختلاف في المذهب او طريقة اداء الشعائر والطقوس، فكل دين يمكن فهمه بعدة طرق او عدة مذاهب.

والسؤال المطروح اذن هو التالي: هل تستطيع المجتمعات الاخرى ان تفعل نفس الشيء؟ ومتى؟ السؤال مطروح بالطبع على المجتمعات الاسلامية بالدرجة الاولى، ولكنه مطروح ايضا على المجتمعات المسيحية الشرقية او الارثوذكسية في صربيا وروسيا واليونان.. فهذه المجتمعات لم تجرب حتى الآن عملية التنوير والصراع الجدلي الخلاق بين العقل الديني والعقل الفلسفي، كما فعلت اوروبا الغربية، بمعنى آخر فإن ازمة الحقيقة المطلقة لم تحصل حتى الآن في العالم الاسلامي، ولا في العالم الارثوذكسي الشرقي، ولكن كل شيء يشير الى اننا اقتربنا منها، وما الاختلاجات الهائجة التي يشهدها العالم الاسلامي حاليا الا دليل على ان الزلزال الكبير قد اصبح على الابواب.

اما جاك لوغوف فيطرح الامور من منظور تاريخي لا فلسفي لأنه مؤرخ بالدرجة الاولى. يقول بما معناه: مفهوم التسامح ـ وبالتالي التعصب الملازم له بالضرورة ـ لم يظهر في الغرب الا في القرن السادس عشر. وقد طبقوه لاول مرة على اتباع المذهب البروتستانتي الذين كانوا يعتبرون بمثابة الهراطقة في فرنسا. ونشروا «مرسوم التسامح» عام 1562، ثم أكد عليه عام 1695 في عهد الملك هنري الرابع من اجل حقن الدماء وايقاف الحرب الاهلية التي انهكت الشعب الفرنسي. ولكن لويس الرابع عشر راح يلغيه في القرن السابع عشر عندما حاول اجتثاث جذور المذهب البروتستانتي من اراضي المملكة الفرنسية. وكانت المحنة الشهيرة التي لا يزال الفرنسيون يتذكرونها حتى هذه اللحظة، اي بعد مرور اكثر من ثلاثة قرون عليها. لقد تركت في اعماقهم جرحا لا يندمل. ويستنتج جاك لوغوف من ذلك ان التعصب هو الموقف الطبيعي للانسان وليس التسامح، التسامح شيء مكتسب ولا يحصل الا بعد تثقيف وتعليم وجهد هائل تقوم بها الذات على ذاتها. فالشيء الطبيعي هو ان احب ابناء ديني، او مذهبي، او طائفتي، او حتى قبيلتي وعشيرتي على المستوى العرقي الدموي. والشيء الطبيعي هو ان اكره كل من عاداهم.. وبالتالي فلا ينبغي ان نزاود على بعضنا البعض ونقول نحن متسامحون. ولكن الآخرين هم المتعصبون! ولا ينبغي ان نلقي مواعظ اخلاقية في التسامح ونتحدث عن فضائله ومزاياه ونقول انتهى الامر.. فالمواعظ لا تحل المشكلة، تحلها المصارحة الفكرية وتشكيل دولة حديثة وترسيخ مفهوم المساواة بين جميع المواطنين في مؤسساتها.

هذا هو التسامح الفعلي. ولكن ينبغي ان يسبقه بالطبع تفكيك فكر التعصب لكي يبدو عاريا على حقيقته ويفقد مشروعيته بالتالي. وهذا ما فعله فلاسفة اوروبا.

اما رينيه ريمون فيركز على نقطة اساسية تهمنا جدا هي: كيف قبل المذهب الكاثوليكي فكرة التسامح والمساواة مع البروتستانتيين لاول مرة؟ يقول العميد السابق لمعهد العلوم السياسية في باريس بالحرف الواحد:

ان الاديان الكبرى مفعمة باليقين التالي: وهي انها تمتلك الحقيقة المطلقة. وبالتالي فلا يمكن ان تقبل بأي اختلاف في مجال العقيدة والدين لماذا؟ لأن قبولها بالاختلاف يعني تخليها عن الحقيقة المطلقة او مساواتها بالخطأ، والانحراف، والزندقة. لهذا السبب ما كانت الكنيسة الكاثوليكية في الماضي بقادرة على هضم مفهوم التسامح او التعددية العقائدية. اذ كيف يمكن لي، انا الكاثوليكي المسيحي الصحيح، ان اساوي نفسي بالزنديق البروتستانتي؟ معاذ الله! ثم بعد التنوير والثورة الفرنسية حصل تشنج اكثر لدى الكاثوليكيين وذلك كرد فعل على هذه الحركة التاريخية التي تريد ان تساويهم بالآخرين، او ان تساوي الآخرين بهم بالاحرى. عندئذ رفض البابا الفلسفة الليبرالية، اي فلسفة العصور الحديثة، واصدر فتوى بادانتها باعتبارها بدعة مضادة للدين، وراح الكاثوليكيون المتزمتون يتهمون عصر النهضة وعصر الاصلاح الديني البروتستانتي وعصر الثورة الفرنسية بأنها السبب في خراب فرنسا، وتشكل تيار اليمين المتطرف لمقاومة مسيرة التاريخ او حركة العصور الحديثة.

ولكن حركة العصور الحديثة كانت جارفة ولا تسمح لهم باتخاذ موقف آخر او بالبقاء على مواقفهم العتيقة السابقة. كان عليهم ان يتغيروا او ان يتطوروا والا فإنهم سوف ينقرضون بكل بساطة. فقد اخذت جماهير الشعب الفرنسي تنصرف عنهم وعن عقائدهم المتكلسة وعقليتهم الغابرة. اصبحت اغلبية الشعب خارج الدين التقليدي، اصبحت تعتنق دينا جديدا: هو دين العقل والحداثة والفلسفة الكونية.

والآن لننتقل الى جهتنا نحن، اقصد الجهة الاسلامية، ولنتوقف قليلا عند مداخلة محمد طالبي أولاً، ثم مداخلة محمد اركون ثانياً. هنا نلاحظ البون الشاسع بين الوضع عندنا، والوضع عند الاوروبيين. فالواقع ان ما واجهوه قبل مائة سنة أو أكثر ابتدأنا نحن بالكاد نواجهه الآن. ذلك اننا اصبحنا على مشارف أزمة الحقيقة المطلقة، هذا في حين انهم حلوها وتجاوزوها. مداخلة طالبي هي بعنوان: «التسامح والتعصب في التراث الاسلامي». طالبي لمن لا يعرفه هو مؤرخ وعميد سابق لكلية الآداب في تونس. كما انه مختص بالعلاقات بين أوروبا والعالم الاسلامي وما يدعونه بالحوار الاسلامي ـ المسيحي. يقول في مداخلته بما معناه ومنذ البداية تقريبا: الانسان بطبيعته كائن متعصب. انه حيوان عدواني في جوهره كما نبه الى ذلك ابن خلدون. الانسان ذئب لأخيه الانسان كما قال الفيلسوف الانجليزي هوبز. وبالتالي فحكاية «البدائي الطيب» العزيزة جدا على جان جاك روسو هي مجرد اسطورة.

ثم يردف طالبي قائلاً:

ولكن الانسان يصبح متسامحا بالضرورة اولا ثم عن طريق الذكاء والعقل ثانيا. فهو مضطر للعيش في المجتمع والتعامل مع الآخرين يوميا، وبالتالي فلا بد من تدجين مشاعره العدوانية لأنه لا يستطيع ان يعيش في حالة حرب كل يوم.

هذا من الناحية الانثروبولوجية، على الانسانية العامة التي تنطبق على كل البشر مسلمين كانوا أم غير مسلمين. واما فيما يخص المسلمين تحديدا فيرى المفكر التونسي ان هناك تيارين في الاسلام القديم والمعاصر: تيار علماء دين كانوا فقهاء السلطة سابقا، وتيار الاصوليين المتشددين حاليا. وكلاهما معاد لحرية الفكر ومتعصب بالتالي. وهم الذين انتصروا تاريخيا في ارض الاسلام ولذلك شاعت في الغرب تلك الفكرة القائلة بأن الاسلام متعصب في جوهره. وهذا غير صحيح لأنه يوجد تيار آخر سوف نذكره بعد قليل، فالتيار المتعصب مضاد لروح النص القرآني. واكبر دليل على ذلك الآيات التالية:

«لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم» (البقرة ،الآية 256).

«وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر..» (الكهف، 29) «وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منهم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون» (المائدة، 48).

وبالتالي فالتعددية العقائدية واردة في القرآن الكريم ومسموح بها، وكذلك حرية الاعتقاد أو عدم الاعتقاد و لكن طبقة فقهاء السلطان هي التي حرفت هذه الآيات عن معناها الصحيح وفسرت القرآن بشكل خاطئ: اي في اتجاه الانغلاق العقائدي والتضييق على حرية الفكر والتعصب ضد ابناء الاديان الأخرى.

هذا هو التيار الغالب الذي انتصر تاريخيا للاسف الشديد، ولهذا السبب فإنه تصعب علينا محاربة التيار المتزمت حاليا لأن له جذورا عميقة في الماضي. ولكن التيار المنفتح والمتسامح وجد ايضا في التراث الاسلامي، وان كان أقلية. نضرب على ذلك مثلا موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه (581 ـ 644)م الذي سمح لليهود بالعودة الى القدس بعد الفتح العربي الاسلامي. وكانوا قد طردوا منها سابقا. ونضرب على ذلك مثلا ذلك التعاون الذي حصل في كل المجالات بين المسلمين والمسيحيين واليهود في قرطبة، والقيروان، وبغداد، وغيرها من حواضر العالم الاسلامي، وكانوا يجلسون مع بعضهم بعضا في حلقات المناظرات ومجالس العلم ويتناقشون بكل حرية في شتى القضايا العقائدية والفكرية. بل وكانوا يسمحون حتى للملاحدة بحضور مجالسهم والمشاركة في النقاش! وهذا ما أثار حفيظة الفقيه الاندلسي ابن سعدي واستنكاره الشديد. والغريب العجيب ان اهل الكتاب من يهود ومسيحيين كانوا يشترطون على المسلمين قبل بدء المناظرة عدم الاستشهاد بالقرآن والحديث والاكتفاء بالمحاججات المنطقية. وكان المسلمون يقبلون بذلك نظرا لثقتهم بأنفسهم وتبحرهم في العلم والفلسفة. فمن يصدق ذلك الآن؟ هذا الشيء حصل قبل حوالي الألف سنة، ولكن يستحيل حصوله الآن في البيئات الاسلامية المعاصرة بسبب سيطرة التقليد والتحجر العقلي والانغلاق المزمن والطويل.

ثم يختتم طالبي كلامه بالقول:

ان التيار المتزمت انتشر حاليا في ارض الاسلام يدعو للعودة الى تلك الاصولية الراديكالية القديمة التي اسست التعصب والعنف في تاريخنا. انه يدعو للعودة الى عقيدة فقهاء السلطان. ولكن التيار التحديثي والليبرالي في الاسلام المعاصر يدعو للعودة الى القرآن الذي اسس التسامح والتعايش السلمي بين مختلف الاديان والاقوام والشعوب. كما اعترف بالتعددية العقائدية والدينية. وبالتالي فالنصر سوف يكون لهذا التيار الاخير وعندئذ يتجدد الفكر الاسلامي فعلا ويستطيع المشاركة في حل أزمة القيم التي تعاني منها الحضارة المعاصرة.

اما محمد اركون فيذهب الى ابعد من ذلك بالطبع فيما يخص نقد العقل الديني. هنا يلتقي اركون ببول ريكور ورينيه ديمون. وبالتالي فإن اسقاط مفهوم الحرية الدينية على العصور القديمة كما يفعل طالبي يعتبر مغالطة تاريخية. لا ريب في ان القرآن الكريم كان أكثر انفتاحا وكونية من تلك العقيدة التي بلورها الفقهاء لاحقا باسم «الاسلام» ولكن القراءة التاريخية اصبحت تفرض نفسها لكي نستطيع حل المشاكل العالقة والآيات «الحربية» ونجد حلا جذريا لمشكلة التعصب في التراث الاسلامي.

ويرى اركون هنا انه ينبغي تفكيك جميع الانظمة اللاهوتية السابقة من يهودية، أو مسيحية، أو اسلامية، وهي الانظمة التي تستبعد بعضها بعضا، أو تنبذ بعضها بعضا، أو تكفر بعضها بعضا بحجة امتلاك الحقيقة المطلقة، وكانت قد شكلت اثناء فترة العصور الوسطى ثم ترسخت في الوعي الجماعي على مدار القرون فكل نظام لاهوتي ـ أو فقهي ـ من هذه الأنظمة الثلاثة يدعي احتكار الحقيقة المطلقة لنفسه دون غيره. وما دام هذا الاعتقاد سائدا ويهيمن على عقلية الملايين من المؤمنين التقليديين فلا حل ولا خلاص. وسوف تستمر الحروب الطائفية الى ما لا نهاية تحت اسم الجهاد، أو الحرب المقدسة والصليبية... الخ. وحدها المسيحية الاوروبية استطاعت ان تخرج من سجن اللاهوت الطائفي القديم كما ذكرنا. وقد أجبرت على هذا الخروج اجبارا بسبب الصعود الذي لا يقاوم للعقل العلمي والفلسفي في أوروبا منذ القرن السادس عشر. ومع ذلك فلم تستسلم لمنطق العصر الا عام (1962)! ولم تتخلَّ عن احتكار مفهوم الحقيقة المطلقة لنفسها الا في ذلك التاريخ. وهذا دليل على مدى صعوبة المسألة ومدى حساسيتها وخطورتها.