فقر وبطالة وتأنّق في لبنان

كتاب يفضح الصورة المزيفة عن لبنان التي تصدّر عبر الإعلانات والبرامج التلفزيونية

TT

دراسة حديثة لمنظمة العمل الدولية تؤكد ان 50 في المائة من سكان لبنان يعيشون في حالة من الفقر بدرجة أو بأخرى. وفي آخر إحصائية لبنانية متاحة، وتعود إلى عام 1997 تبين الأرقام أن17 في المائة من اللبنانيين يعيشون بأقل من دولارين في اليوم، أي ان مظاهر الترف والتأنق والتألق ليست سوى قشرة مخادعة تغلف الوطن الجريح الذي يعاني من نزف اقتصادي يتم تجاهله بدل ان يعالج، وينصب الاهتمام على قضايا لا تغني ولا تسمن من جوع بدل ان ينكب الجميع على العمل لتفادي الكارثة. والصورة المزيفة عن لبنان التي تصدّر عبر الإعلانات والبرامج التلفزيونية يفضحها كتاب «الفقر والبطالة والتنمية في لبنان» الصادر مؤخراً عن «جامعة سيدة اللويزة»، وهو عبارة عن أعمال مؤتمر أقامته «كلية إدارة الأعمال والعلوم الاقتصادية»، شاركت فيه صفوة من الباحثين والخبراء في مجال المجتمع والتنمية. يعتبر الباحث أنطوان كرم ان ما يسمى بـ«الإنماء المتوازن» بين المناطق ما يزال من زمن الاستقلال إلى اليوم شعاراً فارغاً من أي مضمون يذكر. لا بل ان حكومات لبنان المتعاقبة لم تعط أبداً أي قيمة حقيقية لمفهوم التنمية الاقتصادية والاجتماعية على مستوى البلد ككل. وإن كان البعض ما يزال يتغنى ببحبوحة الخمسينات والستينات من القرن الماضي، فما تحقق حينها من إنجازات لا يستحق كل هذا الاحتفاء، لأنه عبارة عن نمو كمي استفادت منه أحياء معينة من بيروت ورقعة صغيرة من الجبل المجاور لها. ولكن هل هناك نية فعلية من المسؤولين لحل المعضلة الاقتصادية؟ هذا سؤال يجيب عليه بـ«لا» قاطعه رئيس الوزراء السابق سليم الحص حينما يعتبر ان أدوات العمل التشخصية الأساسية لم يعن أحد بتوفيرها بعد. إذ كيف يمكن تصور الحلول «في بلد يحظّر فيه إحصاء السكان» ويغيب أي مؤشر علمي دقيق يقيس مستوى البطالة أو حتى عدد المهاجرين وهم بعشرات الآلاف. وهذه جميعها من الأولويات لبناء سياسة نقدية تضمن الاستقرار للنشاط الاقتصادي. وبما ان المعطيات الإحصائية هي إما صادرة عن منظمات دولية أو هيئات مدنية أو بحاثة مستقلين فإن الأخذ ببحث إبراهيم مارون، أستاذ العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية يرى بوضوح التدهور الاقتصادي المتسارع الذي يعصف بالأسر اللبنانية. إذ ان نسبة الأسر المنتمية إلى ما يسمى طبقة الدخل الدنيا كانت تشكل عام 1974 حوالي 20 في المائة، وارتفعت النسبة إلى 54 في المائة عام 1992 لتصل إلى 62 في المائة من مجموع الأسر عام 1999. وتراجعت نسبة الأسر المنتمية إلى طبقة الدخل المتوسط من 60 في المائة من مجموع الأسر عام 1974 إلى 40 في المائة عام 1992 إلى 29 في المائة عام 1999. ويتمفصل هذا التردي في مستوى الدخل مع بطالة حادة يصعب التكلم عنها بدقة بسبب تعاظم ظاهرة ما يسمى بالبطالة المقنعة حيث يلجأ الناس إلى قبول أعمال صغيرة لا تتناسب ومهاراتهم أو اختصاصاتهم مقابل أجور هزيلة. لكن البعض يعتقد ان البطالة بين المواطنين القادرين على العمل تناهز ثلث اليد العاملة. وهو رقم مرشح للتزايد بسبب تقليص حجم القطاع العام وإقفال العديد من المؤسسات. يلقي البحاثة، الذين شاركوا في المؤتمر ـ وشكلت نشاطاته مادة هذا الكتاب - باللوم على السياسات المتبعة والتي فشلت منذ العام 1993 في إخراج البلد من محنته. فالدولة دورها ضعيف، وذهنية الصفقات وتنمية القطاعات الخدماتية والتجارية طغت واكتسحت بدل تشجيع الزراعة والدفع بالقدرات الصناعية الى الأمام. وبالتالي بقي الاقتصاد اللبناني ريعياً بدلاً من ان يتحول إلى إنتاجي. وزاد الطين بله الاهتمام بالمدن على حساب الضواحي والأرياف، وفقدان أسواق العمل العربية، وتحديداً الخليجية، التي استبدلت المهارات اللبنانية بأخرى أرخص واقل تكلفة.

ويعتقد الباحث إيلي يشوعي ان الخطأ الفادح الأساسي الذي أدى إلى توسع رقعة الفقر وتعميق البطالة في لبنان، وبالتالي اليأس في نفوس الشباب هي تلك العلاقة الاقتصادية التي بنتها الحكومات المتوالية بعد الحرب، بطريقة خارجة على الأصول والقوانين الاقتصادية، حين ربطت بين الفوائد وسعر صرف الليرة. إذ انه من الخطأ، في بلد مثل لبنان، ان يقال إذا تم رفع سعر الفوائد يمكن جذب الرساميل من الخارج، وهذا الجذب يؤثر إيجاباً على سعر الصرف (عملاً بما تتبعه الدول الأوروبية). والدليل ان الودائع لم تزد بين آخر سنة 2001 و2002 سوى 600 مليون دولار، وبالتالي فإنه من أصل 42 مليار دولار في البنوك، 6 مليارات منها فقط هي لغير المقيمين.

وفي الكتاب إشارة إلى ان الدول النامية التي نجحت في تخفيض معدلات الفقر بشكل ملموس هي التي أنفقت بشكل سخي في مجال الصحة والتعليم، وفي التركيز على التنمية الريفية من خلال تقديم قروض صغيرة وميسرة للمؤسسات الصغيرة ومتوسطة الحجم. ولكن في غياب كل ذلك يقول أنطوان كرم «فإن اقتصادنا ليس اقتصاد خدمات، أي في خدمة المواطن والقطاعات الإنتاجية وإنما هو في خدمة اقتصاديات الدول الأخرى، المجاورة والبعيدة، هو اقتصاد يصدر الكفاءات البشرية ولا يصدر منتجاتها. ويمكن القول ان كل اقتصاد تكون فيه وزارة المال كل شيء ووزارة الاقتصاد مغيبة (كما الحال في لبنان) هو اقتصاد ريعي فاشل يدفع بأبنائه على الهجرة في بحر الظلمات».