لويس يعود إلى الإسلام بجهله السابق وجراي يحلل إبن لادن نفسياً

TT

«من قبل كان الصحافيون يتساءلون عن الفكر الاسلامي أو عن الفلسفة والثقافة الاسلامية وعن اللغة»، لكن اليوم عندما يطلبني صحافي على الهاتف فأنا أعرف أنه سيسألني عن منظمة ارهابية اسلامية معينة أو اخرى».

هكذا يقول مايكل باري الاميركي الفرنسي المتخصص في الشأن الايراني، والملحوظة السابقة تشرح نصف المشكلة ونصفها الآخر هو ان المتخصصين البارزين انفسهم استدرجوا لما يمكن وصفه بـ«قولبة» الدراسات الاسلامية وهذه القولبة قد ترفع ارقام المبيعات لتصل الى مئات الالوف من النسخ لكنها في ذات الوقت ذات اثر سلبي على احدى اكبر الديانات في العالم. واحدى ضحايا تلك القولبة هو برنارد لويس الباحث الانجليزي البارز، الذي قدم عدة اعمال قيمة خاصة في الادب والتاريخ والادب الايراني والتركي، ومنذ شهور قليلة نشر لويس مجموعة محاضرات في كتاب حمل اسم «ما الذي كان خطأ؟» وهي عبارة مرهفة الحس اختيرت بعناية للاشارة الى الهجمات الارهابية على الولايات المتحدة الاميركية في سبتمبر (ايلول) 2001.

لكن الكتاب في الحقيقة هو تقييم لمحاولات الامبراطورية العثمانية والامبراطورية الفارسية نحو الحداثة وليس له علاقة بالقاعدة باستثناء فقرة اضيفت على عجل ومقدمة صغيرة.

ولسنا بحاجة لنقول ان الكتاب زادت مبيعاته على ملايين النسخ، الامر الذي دعى الناشر ليطلب من المؤلف دراسة جديدة سماها «ازمة الاسلام» وأقل ما يمكن ان نقوله عنها انها ليست من افضل اعمال لويس. فهناك فصل مخصص لتعريف الاسلام ومن الواضح انه نظرا لعامل السرعة والرغبة في اللحاق بالمطبعة نسي المؤلف ان يقدم للقارئ أي تعريف للاسلام. وهناك فصل آخر خصص لظروف وملابسات وجود القوات العسكرية الاميركية في السعودية وقواعدها العسكرية هناك، والمؤلف لم ير في هذا الامر شيئا غير صراع الحضارات. والمشكلة ان الكتاب وضع قبل قليل من طلب السلطات السعودية من اميركا سحب قواتها من على الاراضي السعودية. وهو ما حدث ببساطة دون أي صراع بين الحضارات ولم تقع اية احداث جسام أو تنتهي الدنيا والحقيقة ان تطبيق المعايير الصحافية على الدراسات الاكاديمية أمر سيئ بالنسبة للطرفين، فالصحافي يستطيع دائما ان يغير القصة التي يكتب عنها ويعيد تحليلها يوما بيوم وساعة بساعة لأنه يتعامل مع الحدث الذي يستغرق صناعته زمنا اقل من التاريخ في حين ان الاكاديمي لا يتعامل مع الاحداث ولكن مع ما وراء الحدث الذي يشكل حياتنا.

وعنوان الكتاب لا صله له بالموضوع لان المؤلف لم يخبرنا ما هي ازمة الاسلام؟

والتفسير الوحيد انه يشير الى المعركة الضاربة التي تدور رحاها في العالم الاسلامي بين الذين يوصفون بالمتعصبين الرجعيين واولئك الذين يطلق عليهم «إصلاحيون عصريون». ولكن وعلى الرغم من بعض الاصوات الدينية الخفيفة فأن المعركة الاساسية هي معركة سياسية حول من الذي يحكم ويصل للسلطة وكيف يحدث هذا.

والحقيقة ان هناك بعض المتعصبين الرجعيين الذين يريدون الاستئثار بالسلطة باسم الاسلام لكن هذا لا يغير طبيعة المعركة.

والمشكلة ان لويس لم ير غير المتعصبين الرجعيين. وحتى هؤلاء فلم يقدمهم بالشكل الصحيح ولم يركز سوى على اربعة اشخاص هم الصحافي والمجاهد الباكستاني الراحل أبو الاعلى المودودي والقائد الثوري الايراني الراحل آية الله روح الله الخميني والناشط المصري الراحل سيد قطب وزعيم القاعدة الراحل ربما اسامة بن لادن.

ومن بين الاربعة السابق ذكرهم استحوذ قطب وبن لادن على اكبر الاهتمام رغم انه لا يمكن وصف اي منهما بأنه فيلسوف أو مفكر ويدعي لويس ان العالم الاسلامي يحترق بالتعصب والحنين للخلافة وكراهية الغرب لانه دمر مؤسسة الخلافة، ويذهب إلى ابعد من هذا بافتراض ان بن لادن والذي ربما يكون ميتا الآن كان ابرز المرشحين للخلافة.

ولكن هل المسلمين حقا غاضبون لعدم وجود خليفة لهم؟ وهل كان السلطان العثماني الذي كان يلقب نفسه بالخليفة «أمير مؤمنين» حقيقي أم كان مجرد امبراطور يستخدم لقباً دينياً؟

وعلى كل حال فالغرب لم يسقط الخلافة العثمانية ولكنها سقطت على يد ضباط الجيش التركي بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، وكانت الثورة العربية سببا مباشرا في قصم ظهر الخلافة العثمانية، رغم انها كانت بقيادة جاسوس بريطاني هو تي إي لورانس لكنها كانت ثورة حقيقية ضد الاستعمار قام بها العرب.

واما بالنسبة لابن لادن ففكرة انه كان الابرز للخلافة فقد تصلح لتكون نكتة تقال في شوارع القاهرة أو بيروت أو اسطنبول وطهران .

العنوان الفرعي للكتاب يثير أيضاً الاستغراب، فلا بد ان لويس يعلم ان تعبير «الحرب المقدسة» دخيل على الاسلام الذي لا يقدس غير الله، وهذا التعبير لم يذكر مرة في القرآن أو السنة أو اعمال كبار المفكرين الاسلاميين ولم يصف الفلاسفة أو دارسي التاريخ ابدا الحرب بأنها «مقدسة» فهذا التعبير ابتكار مسيحي اطلق مع الحرب الصليبية الثانية.

وكتاب لويس مليء بالافتراضات غير الضرورية التي تضر بسمعته الجيدة التي اكتسبها كباحث بارز، فهو مثلا يبني الكثير من افتراضاته على مقولة منسوبة للخليفة عمر بن الخطاب عن ضرورة عدم السماح لغير المسلمين بدخول شبه الجزيرة العربية. وحتى وان كانت هذه المقولة صحيحة النسب، تبقى الحقيقة ان رأي فرد لا يمكن ان يتحول الى تشريع وعلى أي حال فأن شبه الجزيرة العربية كانت تمتلئ دائما بغير المسلمين، فاليمن كان به جالية يهودية كبيرة العدد، حتى اوائل الخمسينيات «واغلبهم غادر بارادته طمعا في الاستقرار في دولة اسرائيل الجديدة». واليوم فهناك عدد كبير من المسيحيين واغلبهم من العمال الاجانب في دول الخليج العربي اكثر منهم في مصر.

ويوقع لويس نفسه في مشكلة ثانية بطريقة تعرضه للهجمات الانتحارية، فالانتحار خطيئة في الاسلام ولا يمكن ان تغتفر على أي نطاق. والذين ينتحرون لا يدفنون في مدافن المسلمين، وهناك حديث صحيح عن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول فيه ما معناه، ان من يقتل نفسه بأية طريقة على الارض يحاسب على عمله يوم القيامة.

والمنطق وراء رفض الاسلام المطلق للانتحار واضح جدا فالحياة هبة آلهية ولا يمكن لصاحبها التصرف فيها. ويبدو ايضا ان لويس لديه صعوبة في استيعاب بعض الدروس من الحروب الصليبية التي تضمنت عددا من الحروب السياسية كان اغلبها بين حكام المسلمين الاتراك وبين امراء الفرنجة المسيحيين، وان وصف تلك الحرب بأنها حرب دينية مقدسة كان من الجانب المسيحي وليس العكس ولم يكن هناك معنى لكلمة «الصليبية» في اي لغة من لغات المسلمين من عربية أو فارسية أو تركية حتى تواصل الباحثون المسلمين مع الادباء الغربيين حول هذا الموضوع. وبدأ الشيوعيون العرب والايرانيون والاتراك في استخدام الكلمة منذ بداية الخمسينيات كجزء من الدعايا المضادة للضرب والمؤيدة للاتحاد السوفياتي.

والكتاب يعج بافتراضات وادعاءات وقرائن نادرا ما دعمت بالوقائع. احد هذه الافتراضات التي يسوقها لويس هو انه من بين الدول الاسلامية ليس هناك سوى العراق وايران قادرين على ان يصبحا مجتمعين ديمقراطيين عصريين. والسؤال هو ولماذا العراق وايران فقط؟! كذلك هناك كتاب ثان لجون جراي يتعلق بالسؤال عن الاسلام والحداثة. وجراي يؤكد ان القاعدة هي اهم تيار اسلامي سائد حاليا، وعلى الاقل بسبب اعلانها العنيف عن نفسها. وهو ايضا يخصص جزءا لا بأس به من كتابه لسيد قطب وكبته الجنسي وشغفه بفكرة البنات اللاتي يفقدن بكارتهن قبل الزواج. وجراي يرى ان القاعدة هي محاولة لتطبيق فكر قطب عبر العنف المتطرف ولكن ليس هناك أية دلائل على أن قطب الذي شنقه عبد الناصر عام 1960 أجاز استراتيجية القاعدة.

وهو كذلك يركز على الفترة القصيرة التي قضاها اسامة بن لادن في بيروت والتي يقال انه كان خلالها يقود السيارات بسرعة جنونية ويطارد الفتيات حتى ادرك لاحقا ان الحضارة الغربية فاسدة. ويرسم جراي بورتريه نفسي لابن لادن ويعطي مساحة كبيرة من كتابه للحديث عن والدة بن لادن السورية ذات الاصل المتواضع الذي جعل بعض افراد عائلة بن لادن يسيئون لاسامه بسببه، وانه كان السبب في تعاسته. لكن الكاتب يتجاهل ان عائلة بن لادن في الاساس ذات اصل متواضع، فالوالد كان عامل بناء من حضرموت وسار على قدميه 2000 كم ليصل الى السعودية حيث وجد عملا واستطاع بالكد والحظ ان يحقق ثروة طائلة وليس هناك أي دليل على اساءة معاملة الاسرة لاسامة.

والطرح الاساسي لجراي شيق جدا فهو يؤكد ان الدول على اختلافها لديها ديانات وثقافات مختلفة ولابد من السماح لها باللحاق بركب الحداثة من خلال تقاليدها الخاصة وهو يعارض العولمة التي يراها محاولة لفرض النموذج الاميركي على العالم، وان الارهاب الذي مارسته القاعدة هو رد فعل عكسي ضد الأمركة. وهو يفترض ان القاعدة وقعت في تناقض فهي أمركة نفسها لكي تقف في وجه الأمركة. فالارهابيون الذين قاموا بهجمات 11 سبتمبر كانوا يتحدثون الانجليزية، وهم حليقو اللحى ويرتدون الجينز والتي شيرت، وتعلموا الطيران في المدارس الاميركية. فابن لادن ورفاقه عرفوا كيفية استخدام الانترنت وغسيل الاموال. وباختصار عرفوا كيف يلعبون مع العالم الحديث وفقا لاحكام ذلك العالم نفسه وبمعنى آخر فان ارهابيي القاعدة آمركوا انفسهم لانقاذ المسلمين من الأمركة.

لكن تحليل جراي مبني على خلل رهيب، فهو لا يفهم ان ازمة الاسلام ليست مع الحداثة ولكن مع الحرية وسيادة القانون والفرص الاقتصادية المتساوية. إن نظريته تقوم على ان الغرب لابد ان يترك الشعوب الاسلامية للتذوق صنيع ايديها. فاذا كانوا راغبين في العيش تحت منصة النظم الاستبدادية، وضرب زوجاتهم وإمتلاك الجواري، وتضييع ثرواتهم الطبيعية، وعدم تقبل أي شخص يعارضهم في الرأي فهذا هو اختيارهم.

وجراي يفضل العالم الجماعي الذي تعيش فيه الثقافات المختلفة والحضارات جنبا الى جنب حتى اشدها بغضا. فالعولمة هي الوجه الاخير لعقيدة «حملة التحديث» التي قادت الحملات الاوروبية الاستعمارية في القرنين الثامن والتاسع عشر أو بكلمات اخرى هي امبريالية مرتدة.

ولكن هل يرفض المسلمون عرضا يتيح لهم فرصة اختيار حكوماتهم عبر الانتخابات الحرة والعادلة؟ وهل يصر المسلمون على البقاء عرضه للاعدام أو السجن لمجرد انهم قالوا شيئا معارضا للسلطة؟ وهل يفضلون الاعلام الذي لا يقدم لهم سوى الاكاذيب والدعاية ويرفضون اعلاما يقدم لهم الحقيقة؟ وهل هم مستمتعون بالحياة بدولار واحد يوميا بعد ان دمرت امكانياتهم الاقتصادية ونهبت ثرواتهم؟

جراي مخطئ كثيراً. فالمسلمون لا يرفضون الحداثة، وإذا تذوقوها تحمسوا لها اكثر من غيرهم.

كما انه ليس مخطئا فقط في فكرته عن الاسلام، ولكن أيضاً عن الحضارات والثقافات اللاغربية الاخرى. فالمسافر الى الهند والصين واليابان لا يجد صعوبة كبيرة في ملاحظة تأثر تلك المجتمعات بالتكنولوجيا والاقتصاد والعلوم والثقافة والنظم السياسية الغربية. إن الافكار لا تعرف الحدود ، وان الانسان في أي مكان يأخذ كل ما يخدم مصلحته من أي مكان آخر والكثير مما يقدم على انه «أميركي» جاء من اوروبا، وكم من التقاليد الاوروبية جاء مما نقلته اليونان عن العالم الاسلامي، وكم من الثقافة اليونانية تأثر بالمصريين القدماء وحضارة بلاد الرافدين ودول آسيا. وهل يستوعب جراي انه مع وجود 25 مليون مسلم حاليا في المجتمعات الديمقراطية الغربية في اوروبا واميركا ان الاسلام اصبح دينا غربيا ايضا؟

الامبرياليون التقليديون تعاملوا مع الامم، غير الغربية على انهم اطفال تائهون لابد من ارجاعهم الى طريق التقدم. والامبريالية المضادة التي يمثلها جراي تنظر للدول غير الغربية على انها حالات ميئوس منها، والافضل تركها على هامش العالم. وبتجاهلهما لحقيقة المعركة السياسية التي تدور رحاها عبر العالم الاسلامي يفتقد كتابا لويس وجراي لنقطة مهمة جدا. فجراي يقترح الحياد الغربي ولويس يعرض الحرب ضد الارهاب ولم يفكر أحد منهما في ضرورة وقوف الديمقراطيات الغربية الى جانب الاصلاحيين الحداثيين في المجتمعات الاسلامية في معركتهم ضد التعصب الرجعي.