رئيس منح بلده دورا أكبر من قوته

شارل ديغول.. المتناقض .. البارد.. المزاجي.. الناكر للجميل في سيرة جديدة

TT

اغلب كتاب سيرته يطلقون عليه اسم «البطل القومي» او «البطل الاسطوري»، اما المؤرخ جوليان جاكسون مؤلف سيرة حياة «شارل ديغول» الجديدة، فإنه يقول ان اسطورة ديغول بدأت حتى قبل ان يبدأ ارساله الاذاعي «لهيب المقاومة الفرنسية» الى الشعب الفرنسي من العاصمة البريطانية لندن في الثامن عشر من يونيو (حزيران) عام 1940 حينما كانت فرنسا ترزح تحت ظل الاحتلال الالماني النازي، حيث اطلق عبارته الشهيرة «فرنسا الحرة». وبعد خمس سنوات على ذلك تحررت فرنسا فعلا واسترجعت موقعها مرة اخرى بين القوى العظمى وسيطرت على قطاع من المانيا واكتسبت عضوية مجلس الامن في الامم المتحدة.

عام 1945 انقذ ديغول فرنسا من حرب اهلية وفي عام 1958 منع وقوع حرب اهلية مرة اخرى تتعلق بموضوع فرنسا في الجزائر. وكان تأسيس الجمهورية الفرنسية الخامسة على يده ان منح فرنسا مكانة سمحت لها بالتحديث وامدت حكومتها بأهمية متجددة في ما يتعلق بالشؤون الاوروبية.

وحسب اعتقاد جاكسون ان اسطورة ديغول هذه وانجازاته المهمة انتجت الفلسفة السياسية الديغولية التي لا يمكن بدونها من فهم السياسة الخارجية الفرنسية التي قد تبدو مناقضة لها اليوم، وان الديغولية ما هي الا عملية تحويل الاعتداد بالنفس والاصرار الى برنامج سياسي يقف في وجه الحقائق الجيو ـ سياسية. فحينما كانت ايطاليا والمانيا تقادان بعد الحرب من قبل الحلفاء، اصرت فرنسا ان تحكم نفسها بنفسها. ويعرض المؤلف كيف ان ديغول بإصراره وثبات موقفه حقق هذه الاستقلالية وبشكل فردي واستمر على موقفه هذا حتى نهاية حكمه.

ولا يخفي ديغول هذا الاعتداد بالنفس والشعور بـ «الفخر المصحوب بالقلق» في فرنسا حيث كان يفصح عنه في كثير من المناسبات، ولا يبدو ان ذلك «القلق» غريب على بلد عانى كثيرا خلال حربين عالميتين، وكان ديغول يعتقد ان فرنسا بحاجة الى الشعور بالعظمة والرفعة لاجل ان تبقى شامخة، وأصر على نهجه هذا رغم ما كانت عليه حقيقة الوضع الاقتصادي والاستراتيجي في فرنسا. الدبلوماسي البريطاني لورد كلادوين يعلق على ذلك ويشير بوضوح الى هفوة الجنرال ديغول الرئيسية في انه «منح بلده دورا اكبر من قوته» وفي ما بعد ورث هذا الدور الديغولي جاك شيراك رئيس الجمهورية الفرنسية الحالي. ثم يأتي الكاتب بعد ذلك ليشرح كيف ان ديغول قد طور من الصلة الدقيقة بين عقدة النقص الدنيا والعليا التي تكونت منها الديغولية. «ليست هناك فلسفة سياسية ارتبطت بهذا الشكل الجوهري مع شخصية مخترعها مثل الفلسفة الديغولية»، يقول المؤلف ثم يورد صفات مثل «مشاكس»، «منعزل»، «مزاجي»، «جاف»، «بارد»، «متحفظ»، «فظ»، «غامض»، ويجد بأنها تطلق على الديغوليين كما على ديغول نفسه. وعند ذكره للعناصر المكونة لشخصية ديغول يقول المؤلف بأنها مستمدة من مصادر مختلفة ومتعددة منها عائلته شبه الارستقراطية الشمال فرنسية، قراءاته الشوفينية المتطرفة للتاريخ الفرنسي، دراسته العسكرية في اكاديمية سانت كير العسكرية، ثم ما عانته فرنسا من اذلال على ايدي الالمان بين 1870 و 1940.

يلاحظ ان موضوع نكران ديغول للجميل الذي اسدته له انجلترا حينما كان ضيفا لديها عام 1940 وبث ارساله الاذاعي منها يتكرر بانتظام خلال صفحات الكتاب. ويذكر الكاتب بهذا الصدد ما قاله ديغول لضابط ارتباطه البريطاني الجنرال سبيرز «انت تعتقد بأنني اهتم بموضوع كسب انجلترا للحرب» قال ديغول ذلك، ثم اضاف «كلا» فأنا لا اهتم بذلك اطلاقا.. انني اهتم وحسب، بموضوع انتصار فرنسا»، وعندما ابدى سبيرز ملاحظته المنطقية «انتصار كلا البلدين»، اجاب ديغول «كلا، على الاطلاق، اطلاقا»، ويعقب الكاتب على ذلك بقوله ان «ديغول عض اليد التي اطعمته لانه لم يكن يريد الا ان يبين ان فرنسا ما زالت لديها اسنان».

وحتى قبل نزول اي من القوات الفرنسية في النورمندي اثناء الحرب العالمية الثانية. اعلن ديغول بأن هذه هي «معركة فرنسا» واحجم عن الاشارة الى مساهمة الحلفاء الآخرين.

من هنا، يشير الكاتب جاكسون الى ان متناقضات ديغول الكثيرة هي جزء اساسي من اسطورته: فقد كان جنديا، لكنه امضى اغلب حياته العسكرية في معارضة الجيش، محافظا يغتنم الفرص، رجلا مفرط الطموح، لكنه تخلى عن السلطة مرتين بشكل اختياري، ويمكن ايضا اضافة انه كان امبرياليا، لكنه سحب فرنسا من الجزائر، ومحافظا نبيلا، لكنه أمم المصارف. وباختصار يمكن تلخيص كل هذه المتناقضات بمفردة واحدة هي: الديغولية.

غير ان هذه الظاهرة «الديغولية» لم يزل لها وجود حتى الآن ولم تزل تستخدم كتعبير سياسي في المحيط السياسي الفرنسي. ويجد كاتب هذه البيلوغرافيا ان الاسلوب الذي تصرف به الرئيس الفرنسي جاك شيراك ازاء التحالف الانكلو ـ اميركي اثناء الأزمة العراقية وما اعقب ذلك من حرب هو اسلوب «مبرمج» مسبقا، يدخل ضمن المفهوم السياسي الديغولي.