تأوهات الرجل المريض في القرن الواحد والعشرين

صار ابن لادن وصدام حسين بطلين حتى في نظر بعض الشيوعيين، وبوش بطلا في نظر بعض المسلمين

TT

في سياق المحاولات الفكرية لفهم ما جرى في المنطقة العربية يأتي الكتيب الذي أصدره الباحث والناقد والروائي «محمد كامل الخطيب» تحت عنوان دال ومثير هو: «آخر أخبار المسألة الشرقية. ما يزال الرجل مريضا»، ليقدم تشخيصا جريئا يحاول اكتناه أسرار الحالة العربية الراهنة التي يتم تداول أوصافها عبر مفردات العجز والتخلف والخروج من التاريخ... الخ.

هذه هي المسألة الشرقية باختصار، ولكن فصولها كانت قد بدأت قبل ذلك بأكثر من قرنين، فمنذ اكتشاف اميركا، واكتشاف طريق الوصول الى الهند عن طريق رأس الرجاء الصالح، دون المرور بالمنطقة العربية. أو بما عرف باسم طريق الحرير، فقدت هذه المنطقة اهميتها الاستراتيجية، مما دفع بها الى المستودع الخلفي للتاريخ والأحداث، والتأثر والتأثير، والتبادل بمختلف أنواعه ومستوياته. وفي المقابل خرج العرب من اسبانيا في الوقت نفسه (اكتشفت اميركا في العام ذاته الذي شهد هذا الخروج 1492). ثم وقعت المنطقة العربية في قبضة العثمانيين وبذلك تكون قد اغلقت الدائرة، ثم احكم اغلاقها بانهيار، وضعف، الامبراطورية العثمانية وكانت النتيجة ان بدأت القوى الاجتماعية العربية تركد وتستنقع وتفقد الدوافع والمحركات والآليات اللازمة للنهوض، بينما كانت اوروبا تكتشف العالم، وتجد مصادر ثروات جديدة، وتتقدم في مجال العلوم، والتقنيات والتنظيمات والافكار الفلسفية والسياسية والاجتماعية، ولقد بقيت الدائرة مغلقة الى سنة 1898 وهو العام الذي شهد حملة نابليون على مصر. ولكن بونابرت لم يكن يقصد المنطقة، بل أراد تهديد سلطة الامبراطورية البريطانية وقطع طريق الهند. غير ان حملته اعادت الاهتمام الى المنطقة، فأدرجت من جديد في التاريخ العالمي، لا كفاعل، بل كمفعول به. وهكذا كسرت الدائرة لأول مرة من خارجها كما تكسر أي دائرة مغلقة، ومفرغة من الهواء. أما الهواء فهو قوى التفاعل الحية داخل المنطقة. وهذه هي المعادلة التي ستتكرر منذ ذلك الحين. فنتيجة هذا الكسر بذرت أولى بذور التحديث. وكانت تجربة محمد علي باشا في مصر هي الرائدة ولكن مشروع محمد علي فشل نظرا لقوة التحديات الخارجية من جهة، ولاتباعه نهجا سياسيا سيغدو من بعده علامة فارقة تسم جميع مشاريع الاحياء والتحديث العربية وهو اللعب على التناقضات بين القوى الكبرى المتصارعة. وقد باءت محاولة محمد علي بالفشل حين تمكنت كل من الامبراطورية الفرنسية والامبراطورية البريطانية ـ التي مال عنها آنذاك ـ من ايجاد تفاهمات ومعاهدات اتفاق في ما بينها، وسرعان ما سقطت المنطقة العربية في قبضة الاستعمار الفرنسي والبريطاني حين استطاعت هاتان الدولتان اقتسام تركة الرجل المريض، حاولت الثورة العربية 1916 من جديد علاج الرجل المريض، ولكن تجربة الحكومة العربية الاولى بقيادة فيصل بن الحسين نهجت مرة ثانية نهج محمد علي، وحاولت اللعب على التناقض الفرنسي البريطاني مع ميل الى بريطانيا هذه المرة، غير ان عمر الحكومة لم يطل من جهة. وتم الاتفاق من جديد بين الامبراطوريتين لاقتسام التركة.

كان العالم يشهد بزوغ امبراطوريتين جديدتين هما اميركا، والاتحاد السوفياتي والطريف ان السوريين طالبوا بانتداب اميركا على سورية بدلا من فرنسا، لكن اللاعب الشاب القوي، كان ما يزال مشغولا باعداد نفسه، وكان مبدأ مونرو آنذاك ينصحه بالانشغال بحديقته الخلفية (اميركا اللاتينية)، ولم تتقدم كلا الامبراطوريتين الى منصة المسرح العالمي إلا بعد الحرب العالمية الثانية، التي دفعت الى الوراء ايضا بالامبراطوريتين الآفلتين فرنسا وبريطانيا.

وبدأ كلا العملاقين الشابين وراثة العالم: اميركا بإرثها الكبير من التركة الاوروبية، ومشروعها لتجديد الرأسمالية، والاتحاد السوفياتي بمشروعه النقيض لبناء الاشتراكية. تكررت القصة بالنسبة للمنطقة العربية، كسرت الدائرة المغلقة من الخارج واضطرت فرنسا وبريطانيا للانسحاب بسبب نتائج الحرب، وظهرت دول الاستقلال ولكن الرئيس الاميركي ايزنهاور بدأ يتحدث عن ملء الفراغ، وسعى الاتحاد السوفياتي بالمقابل لملئه. برزت حركة التحرر الوطني، وبدأت المحاولة الثالثة لعلاج الرجل المريض بأدوية محلية، وقوى «وطنية» وفي هذا الفاصل التاريخي تغيرت بعض ابنية المجتمع، وظهرت قوى اجتماعية جديدة، ولكن المنطقة كلها انقسمت هذه المرة، أو استقطبت من قبل الامبراطوريتين الكبيرتين، أما نهج الاحياء والتحديث فلم يتغير، وبدا كأن المنطقة صارت بين فكي كماشة، فالدول المسماة «راديكالية» مالت الى الاتحاد السوفياتي، والدول المسماة «محافظة» مالت الى الولايات المتحدة، ومضى الجميع، وخاصة الدول الراديكالية يلعبُ على التناقضات، وتم اختراع موضوع «الحياد» وفيما اعتقد العرب انهم موجودون في المناطق المحايدة لصراع الامبراطوريتين كانوا في الحقيقة معرضين للنيران المتقاطعة المتبادلة بينهما.

حاولت الدول الراديكالية الشروع في التحديث والتنمية من خلال قوى جديدة من عمال وفلاحين وحرفيين وجيوش تجمعوا في أحزاب سميت ناصرية، وبعثية وقومية وشيوعية. ووصلت الى الحكم جميعا بالطريق السحري المسمى (انقلاب عسكري) وصاغت مشروعا ثلاثيا هو (الحرية والوحدة والاشتراكية) بخلاف وحيد هو ترتيب هذه الأولويات، لكن ما اتضح في نهاية المسيرة هو انه بدلا من الحرية، كان هناك مزيد من القمع والاستبداد، وبدل الاشتراكية كان هناك نهب يبدو النهب الرأسمالي بجانبه عاديا ومشروعا، وبدل الوحدة كانت القطرية. أما الدول المحافظة فقد رفعت شعارات محاربة الشيوعية والالحاد والقومية والماسونية والمادية والمسيحية والغرب عموما. ولكن الجميع اعاد نهج القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين: اللعب على التناقضات بين الامبراطوريتين.

هكذا رفضت حركة التحرر العربي المشروع الرأسمالي، دون ان تستطيع انجاز ما انجزه المشروع السوفياتي، بينما رفضت الاقطار المحافظة مشروع حركة التحرر، وسارت في الركب الاميركي، دون ان تحقق الرأسمالية واللبرلة والتحديث. وتلاقى الجميع في «الخصوصية العربية» ولتسويغ ذلك بدأت تتوحد اللغة السياسية لكلا الطرفين، لغة قامت على مفردات ومصطلحات متناقضة: دولة العلم والايمان، الاصالة والمعاصرة، الاشتراكية العربية أو الاسلامية، الاسلام هو الحل، الشورى بدل الديموقراطية، اضافة الى مفاهيم: الجهاد، العطاء، الخلافة، الاسرة المالكة، الهجرة، التكفير، الخالد، وصار الحاكم ـ الرمز غير قابل للتأويل. وهذا كله عكس حالة العجز الشامل عن علاج حالة الرجل المريض. ولم تكن حالة المعارضة أفضل، فالماركسيون، والقوميون، والديمقراطيون والاسلاميون، بل ودعاة المجتمع المدني يعلنون جميعا انهم ضد الديمقراطية، لأن الديمقراطية اميركية! يقفون مع الطغيان والديكتاتورية بحجة الموقف الوطني ضد «العدو الخارجي». والأدهى من ذلك ان خمسا من جمهوريات التحرر الوطني تحولت الى مشروعات انظمة ملكية وراثية. وهكذا انغلقت الدائرة مرة أخرى، وبات كسرها من الداخل مستحيلا بعد ان تم تفريغها من الداخل، أو من قواها الحية. ووئدت قوى التحديث من افكار ومؤسسات وتطلعات وبشر، وعادت البنى الاجتماعية الى ما قبل الرأسمالية. وأتت الحرب على العراق 2003، فسقط حزب البعث، بعد ان كانت الناصرية سقطت عمليا عام 1970، وبعدما سقطت الشيوعية في اليمن أوائل التسعينات. وصار ابن لادن، وصدام حسين بطلين في هذه المنطقة المهزومة، حتى في عيون بعض الشيوعيين والقوميين بينما صار جورج بوش محررا في نظر بعض الاسلاميين الاتقياء، وعدنا أوائل القرن الواحد والعشرين نسمع تأوهات الرجل المريض، بينما لم يعد من متصارعين في المنطقة ـ بعد انهيار وسقوط الامبراطورية السوفياتية ـ فثمة وارث وحيد في العالم اليوم هو الامبراطورية الاميركية.