كاتب إسرائيلي يحفر من وراء «الجدار الفاصل»

وارشاوسكي يروي سيرة حياته ومعاناته في السجون الإسرائيلية بتهمة «أنه المحرك الأول للانتفاضة الفلسطينية»

TT

لعل السقوط المدوي لجدار برلين، قد أصم آذان العالم برهة من الزمن عن سماع أزير المعاول وضجيج الجرافات والجرارات وهي تمضي لبناء جدران أخرى بين شرق وغرب وشمال وجنوب أو بين أغنياء وفقراء وأسياد وعبيد، أو بعبارة أكثر بساطة وأشد وقعا ووطأة: بين «نحن» و«هم». ولكلا هذين الضميرين ـ اذا ما ظل هناك من حضور للضمير ـ معان وشروح كثيرة تبدأ بالنسبة للأول بشعب الله المختار وتمر بخير أمة أخرجت للناس وصولا الى «من ليسوا معنا فهم ضدنا». أما الثاني أوالثانية أي هذه الـ«هم» الشهيرة فهي لا تقل تبدلا وتلونا في حقول الجغرافيا والتاريخ اذ هي تشمل الآخرين في شتى تنوعاتهم وتشكلاتهم منذ أن شرع الرحالة الأوائل يصفونهم بالبرابرة والمتوحشين، الى أن سواهم سارتر بجهنم وبئس المصير، فالى أن زاد عليهم القرن الواحد والعشرون أوصافا ونعوت ـ ولعل الأصح أن نقول نعوش ـ كثيرة تطلق بصفة عمياء مع الرصاص والقنابل فـ«تحلل» قتل هؤلاء بوصفهم، أو بالأحرى بعد وصفهم بالكفر والزندقة و«تشرع» ردم أولئك تحت أنقاض منازلهم لمجرد أن لهم وجوها وأسماء شبيهة، أو أريد تصويرها ورسمها شبيهة بوجوه وأسماء مجرمين حقيقيين. ولعل الأخطر من كل ذلك ـ اذا كان هناك ما هو أخطر من قتل الأبرياء ودفن الناس وهم أحياء ـ هو أن التهمة الجاهزة التي قد تستخدم لاحقا للنيل من كرامة الجنس البشري أو القضاء عليه تماما وفي كل مكان، هي تلك التي تصفه بـ«الآخر»، أي المختلف والمغاير لونا، عرقا، لغة، دينا أو فكرا لتلك الكتلة الوهمية والدائرة الجنونية التي تسمى «نحن» والتي غدت أكثر من أي وقت مضى توظف كتعلة لمزيد بناء الجدران ورسم الحدود بين بني البشر.

هو ذا واقع الحال بين الفلسطينيين والاسرائيليين كما يصفه الكاتب وناشط السلام الاسرائيلي ميشال وارشاوسكي في كتاب صدر له حديثا تحت عنوان : «على الحدود». والحدود التي يقصدها «ميكادو» ـ كما يكنى لدى من يعرفه من الاسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء ـ هي ليست تلك التي تفصل بين الشعبين المذكورين فحسب، وانما هي أيضا تلك التي تفرق بين الاسرائيليين واليهود أو بين هؤلاء والصهاينة، ثم بين اليمين واليسار، بل وبين اليمين واليمين واليسار واليسار. ان هناك حدودا في كل اتجاه وعلى كل المستويات، كما يبين الكاتب، الى حد يجعله يخلص ضمنا الى أن الفكرة الرئيسية المؤسسة للدولة الاسرائيلية انما هي تتلخص في الحدود، حيث نقرأ ذلك في قوله: «ان تلك الطبيعة المزدوجة للحدود كجدران تعتمد للحماية وللانفصال في آن، انما هي عين الحقيقة الصارخة التي تعيشها اسرائيل وشعبها منذ أكثر من نصف قرن. هذه الدولة المنغلقة على نفسها والمحاطة بعالم عربي غير معترف بشرعيتها، ظلت ترفض دائما ترسيم الحدود بوضوح، بل انها استمرت تغيرها وتوسعها الى ما لا نهاية». ثم يضيف قائلا في موضع آخر: «تمثل الحدود فكرة محورية في حياة كل اسرائيلي. بل انها قاسم مشترك لحياتنا جميعا، اذ هي تحدد آفاقنا ورؤانا، كما تساعد على رسم الخط الفاصل بين احساسنا بالخطر وبالاطمئنان وبين وعينا بالاخوة وبالأعداء. ان وجودنا في بلد هو أشبه ما يكون بالغيتو، قد جعلنا نصطدم بالحدود بين كل خطوة وأخرى. نعم ان الحدود لا توجد فحسب في قلب كل جندي كما تقول الأغنية ولكنها توجد في قلب كل مواطن اسرائيلي، اذ هي من مكونات شخصيته وكيانه». غير أن وارشاوسكي لا يصنف الحدود كلها ضمن «محور الشر»، بل هو يعتقد بأن هناك حدودا لا بد منها، وهي التي يدافع عنها في هذا الكتاب بل واستمر يدافع عنها طوال حياته صحبة زوجته «ليا» المحامية التي يصفها بعض الاسرائيليين بـ«عاهرة عرفات» لا لشيء الا لأنها اختصت في الدفاع عن الفلسطينيين أمام المحاكم الاسرائيلية. أما عن هذه الحدود التي ظل يدافع عنها الكاتب فهي تلك التي لا تعدو أن تكون الا بوابات للعبور وجسورا للتواصل بين شعبين متجاورين أو متعايشين في فضاء لا بد أن يتسع لكرامتهما معا والا فان الجميع سيفقد الكرامة بشكل أو بآخر. يقول في هذا السياق: «إن السنوات الخمس والثلاثين الأخيرة من عمري قد قضيتها كلها على الحدود، أو بالأحرى عند نقاط التقاطع بين دولة اسرائيل والعالم العربي ـ الاسلامي، وبين الاسرائيليين والفلسطينيين، ثم أيضا بين اليهود والاسرائيليين، والمتدينين والعلمانيين، ويهود أوروبا ويهود الشرق... ولقد اخترت أن ألعب دائما دور الوسيط، ذلك الذي لا يكتفي بالمرور أو بالعبور كما الآخرين، بل ذلك الذي يتكفل بتمرير قيمة الآخر والتعبير عنها بكل صدق لدى الطرف المقابل». لقد كانت هذه مهمة وارشاوسكي التي يحاول أن يقدمها في هذا الكتاب في شكل سيرة ذاتية يسرد عبرها فصولا من معاناته في السجون الاسرائيلية، ومن قطيعته شبه التامة مع المجتمع الاسرائيلي بشكل عام، ثم ومع الصفة الغالبة من يساره بصفة اخص. كما يقف الكاتب عند محطات وعلاقات كثيرة جمعته ببعص أعلام الحركة الفلسطينية والعربية من أمثال عصام سرطاوي وتيسير قبعة واميل حبيبي وحنان عشراوي وفيصل الحسيني وليلى شهيد وأبراهام سرفاتي وغيرهم. في اطار هذه المساندة يروي الكاتب قصة سجنه بتهمة مساعدة احد فصائل المقاومة الفلسطينية، وكيف أوقفه أعوان الشين ـ بيت ووضعوه في زنزانة انفرادية. «لقد كنت خائفا، يقر الكاتب، غير أن زوجتي طمأنتني قائلة بأنهم لا يعذبون اليهود. أما عن التهمة التي وجهها اليَّ القاضي فهي أني السبب والمحرك الأول للانتفاضة ـ المقصود هنا الانتقاضة الأولى ـ. ولم يكن القصد من هذه التهمة، يوضح وارشاوسكي، انزال عقوبة كبيرة بي كجان وكخائن، بقدر ما كان القصد هوجعل هذا الحدث الذي هز العالم يبدو بأن الشخص الذي يقف وراءه هو يهودي وليس فلسطينيا». ويصبح أسلوب الكاتب تحليليا وتشريحيا أكثر عندما ينتقل للحديث عن مواقف اليسار الاسرائيلي من القضية الفلسطينية ومن العداء للسامية ومن عدد من المواضيع ذات العلاقة بأزمة الشرق الأوسط. يرى وارشاوسكي بأن اليسار المذكور يعتبر أقل وضوحا وأكثر تعسفا في مواقفه من اليمين، والسبب حسب رأيه هو أنه يعاني من انفصام تاريخي في الشخصية ومرد ذلك يعود بالأساس الى أن اليساري الاسرائيلي يتغذى عادة من ثقافتين متناقضتين، أي الثقافة الغربية ضمن توجهاتها الاشتراكية القائمة على قيم المساواة والحرية والديمقراطية من ناحية، والثقافة الصهيونية بما تستبطنه من أفكار لاهوتية وشوفينية، من ناحية أخرى: «ان الصهيوني اليساري، يضيف وارشاوسكي، يبدي استماتة في التشبث بالغرب على الرغم من أن أجداده الأوائل كانوا قد قرروا معالجة المسألة اليهودية في الشرق... ان مكة الصهيوني اليساري هي نيويورك وهذا في حد ذاته يطرح أمامه مفارقة عجيبة، بل ويجعله لا يفهم لماذا لا يتورع أصدقاؤه من اليسار الأوروبي عن وصفه بالامبريالي في حين أنه يكن لهم كل الاحترام والتقدير. اذن فلمواجهة هذا التناقض يعمد الصهيوني اليساري الى اللجوء الى مسألة العداء للسامية وهكذا يصبح وراء كل نقد لاسرائيل نوع من العداء للسامية». ولمزيد توضيح هذه المسألة يبين الكاتب بأن مسألة العداء للسامية يمكن اعتبارها أيضا من أسس بناء الدولة الاسرائيلية، وذلك ليس فقط لأنها عجلت بايجاد وطن لليهود، ولكن لأنها استمرت تبرر هجرة اليهود من كل أصقاع العالم الى هذا الوطن. وللتدليل على ذلك يستشهد الكاتب بقولة لغولدا مائير حيث نجدها تطالب بضرورة ايجاد نوع من الحل الوسط في ما يتعلق بالعداء للسامية: «ان كثيرا من هذا العداء، توضح الزعيمة الاسرائيلية، يعتبر أمرا غير جيد لأنه يزيد من أعمال الابادة بحق اليهود، وان قليلا منه هو أمر غير جيد أيضا لأنه سينقص من عدد المهاجرين الى اسرائيل، ان ما نحن بحاجة اليه هولا سامية معتدلة».

في الجوانب التي يتفرغ فيها للحديث عن علاقاته وصداقاته مع بعض أعلام الحركة الفلسطينية، يتخذ الكاتب أسلوبا آخر يجعلنا نتشوق عبره الى عصر تخلو فيه منطقة الشرق الأوسط من الضغائن والأحقاد ومن القتل والتشريد ومن مزيد تفتيت الأراضي وتشتيت الناس... عصر تسقط فيه كل الجدران وتتشابك فيه الأيادي لا خصاما وازدحاما بل عناقا ووئاما. انه عصر يبدو وكأننا نستوحي ملامحه من أدبيات أفلاطون ومدينته الفاضلة، غير أنه بالنسبة لوارشاوسكي، لفيصل الحسيني، لحنان عشراوي ولأمثالهم من محبي السلام، يعتبر عصرا كائنا وممكنا بل وقادما لا محالة. لاعادة انعاش هذا التفاؤل لدى الطرفين المتصارعين منذ أكثر من نصف قرن، يعرض الكاتب لأمثلة كثيرة من أنشطة وملتقيات نضالية وفكرية نظمها مع مثقفين وسياسيين فلسطينيين، بل انه يؤكد على علاقات حميمية متينة ربطته ببعضهم. من ذلك مثلا علاقته بوزيرة السلطة الفلسطينية حنان عشراوي التي يقول إنها أرضعت ابنته طليلة جنبا الى جنب مع ابنتها زينة. أما عن علاقته بفيصل الحسيني فانه يسترجعها عبر لقاء نضالي جمعهما معا في كنيس يهودي حيث انبرت الصحف الاسرائيلية تعلق في دهشة واستغراب عن لقاء نادر في معبد يهودي بين ابن مفتي القدس الخارج لتوه من السجن وميكادو المنتمي بدوره الى عائلة يهودية متدينة والذاهب توا الى السجن لقضاء العقوبة المنجرة عن اتهامه بمساعدة احد الفصائل الفلسطينية.

*جامعي تونسي مقيم في كندا