الرصافي والملك فيصل... شاعر «وقح» وملك مهذب

TT

يصدر قريبا كتاب «الرصافي يتحدث عن حياته» للدكتور يوسف عز الدين. والكتاب يسجل، من خلال سيرة الرصافي، مراحل مهمة من تاريخ العراق المعاصر في الفترة التي عاش فيها الشاعر، وخاصة علاقته مع السلطة.

هنا مقتطفات من الفصل الاول:

العراقي فردي ومن أكثر شعوب العالم اعتداداً بنفسه، ويرى نفسه خيراً من الجميع، وظهر الاعتداد بوضوح عند الرصافي مع اندفاع عاطفي وقسوة في الهجاء وعدم الشعور بالمسؤولية الاجتماعية والتقيد بأنظمة الحياة الجديدة، التي طرأت على العراق بعد الاحتلال الإنجليزي وتشكيل حكومة من أبناء العراق.

كان الرصافي ملء سمع العالم الإسلامي في الدولة العثمانية، التي تحولت إلى الدولة التركية بظهور جمعية الاتحاد والترقي، وكان نائباً في المجلس النيابي في الاستانة.

وقد عاد الرصافي بدعوة من طالب النقيب، لمقاومة الدعاية للأمير فيصل لعرش العراق، لكن الإنجليز تمكنوا من القضاء على الفكرة، عندما نفي طالب النقيب إلى جزيرة «هنجام». ولما وصل الملك فيصل إلى العراق، كانت إحدى الحفلات التي أقيمت له في دار نقيب الأشراف عبد الرحمن النقيب، الذي كان رئيس الوزراء. وقد ذكرت جريدة «دجلة» هذا الحفل. وقد عقدت الحفلة في دار النقيب، وبحضور الأمير فيصل دعي إليها أبرز رجال العراق، وكان الرصافي منهم، فقد كانت له مكانته المرموقة وشخصيته الاجتماعية البارزة. وتم اللقاء في دار النقيب احتفالاً بالأمير فيصل. وكان الرصافي المتحدث البارز فيه، حيّا الحضور بقصيدة قال فيها:

أما وقد طلع الرجاء يشعّ ألوان السرور وكان يقدم النقيب على المحتفى به بذكاء ومقدرة بارزة:

في دار مولانا النقيب بوجه مولانا الأمير من وجه مولانا النقيب ووجه مولانا الأمير مدّ النقيب إلى الأمير يد المعاضد والنصير وليحيا مولانا النقيب حياة مولانا الأمير وأثنى على النقيب، فقال «لا أعلم رجلاً أجدر من مولانا النقيب، بأن يمثل في أفعاله أهل العراق كافة، كيف لا وهو من قتل الدهر خبراً بتجاربه، وارتدى العز ضافياً بعلمه وأدبه، وارتقى سماء السؤدد والمجد بنسبه، وهل في العراقيين رجل أحرص على مصلحة البلاد من مولانا النقيب.. فيا أيها الأمير، يا صاحب السمو الملكي، إنما تصافحك من مولانا النقيب يد العراقيين كلهم، وإنما تضمك في هذه الليلة هذه الدار العامرة بلاد العراق كلها»، ثم قال عن فيصل: نرجو من الله سبحانه أن يكتب لنا بأيدي أمثالكم من عظماء الرجال، مستقبلاً تحمده عليه أخلافنا وتغبطنا به أحلافنا:

إنما المرء حديث بعده فكن حديثاً حسناً لمن وعى ومن قراءة الكلمات التي ألقاها والأبيات التي نظمها، لا يحسّ القارئ باحترام عميق للضيف، الذي سيكون ملكاً للعراق، بل كان حديثه فيه النصح والإرشاد، بينما كان الشعراء يمدحونه لأنه من الأسرة الهاشمية، وله جهود في سبيل القضية العربية، وكان ملكاً في سورية، وأخرج قسراً منها. ولو درسنا الظروف التي أحاطت بالرجلين وكبرياء الرصافي واعتداده بنفسه، لوجدنا أن الرصافي يجد نفسه نداً لفيصل، وكان في قرارة نفسه والشعور الباطني يغبطه بل يحسده، وله الحق في ذلك. وقد فات الرصافي أن فيصل ليس صغير المكانة أو مجهولاً، وقد بذل جهداً كبيراً في التصدي للدولة العثمانية أو بالأحرى للدولة التركية الطورانية.

أما الرصافي، فلم يبذل جهداً أو يعاني مشقة في الحصول على عضوية مجلس الأمة، فقد جاءته وهو جالس في اسطنبول بوساطة الماسونية أو بتأثير جماعة أهل بغداد. وكان حرياً بالرصافي، تكريمه ضيفاً.

ومع كل هذا، فلما أصبح الملك فيصل في دست الحكم، وتم له أمر البيعة، لم ينس الرصافي وأراد إزالة ما في نفسه من عداء له، وأراد أن يفتح صفحة جديدة في تاريخ العراق الحديث، لكن الرصافي في قرارة نفسه كان يبغض فيصل بن الحسين، وذهبت محاولات فيصل المتعددة في إرضائه دون جدوى، والمثل العراقي يقول «العين لا تحب الأعلى منها». ويريد الرصافي أن يحوز منزلة رفيعة من دون بذل جهد صادق، وأن يكون شاعراً ومصلحاً يجلس في راحة وتأتيه الوظائف طائعة ويشارك في الحكم مع أنه لم يلتزم بما تفرضه الوظيفة من حدود.

الرصافي عاطفي، والعاطفي دائماً يكون كسلان يريد الوصول من أسهل الطرق، وكان سلبياً وذا شخصية مزدوجة في الوقت نفسه، وقد سانده عبد المحسن السعدون ونوري السعيد كثيراً، لكنه لم يكن صبوراً على العمل ومواصلته.

لا شك أن الوضع الجديد أراد له أنصاراً يعتمد عليهم، ولا بد أن يكون هؤلاء الأنصار ممن يذودون عنه أو يسيرون معه. وقد كان محمد رضا الشبيبي وباقر الشبيبي وعلي الشرقي، من الشعراء الذين لم يحاربوا الوضع الجديد، ولم يهج واحد منهم أرباب الحكم، وهم أولى بالرعاية والاحتواء. أما الرصافي، فقد كان شديد الهجاء لا يريد أن يهادن. وحسب اعترافه بأن نوري السعيد بعد حركة 1941، عرض عليه وظيفة على شرط مهادنة الأمير عبد الإله، الوصي، لكنه رفض هذا العرض. وبعد حركة 1941، أُهمل الشاعر ونُسي ذكره ولم تردد الصحف والجرائد اسمه. ولما رفض عرض نوري السعيد، عيّن إبراهيم صالح شكر مكانه، وحسب قول الرصافي «لأننا نتكاره».

والواقع أن نوري السعيد فضله على غيره، لكن هل أهمل الملك فيصل الرصافي بعد الهجاء اللاذع الذي هجاه به؟. كان الملك فيصل يحاول ارضاءه، ففي المذكرات يعترف أن أكثر من لقاء ومحاولة من الملك تمت لتسوية الأمور معه، لكن الرصافي كان هو الذي يتهرب لأنه في قرارة نفسه لا يريد أن يكون فيصل أكبر منزلة منه وأعلى مكانة منه. انه شعور بالاستعلاء الذي سيطر عليه والسلبية والإحساس بالنقص بالنسبة للملك فيصل. ويظهر ذلك في المقابلة التي جرت بينه وبين الملك فيصل، فهو يعترف بصراحة بأن الملك هو الذي سعى إليه، لكن الرصافي تهرب، قال إنه قابله في قصر شعشوع وهو بيت على ضفاف دجلة، نزله الملك أول وصوله إلى بغداد ما بين الأعظمية وبغداد، ويصف الرصافي الحجرة التي قابله فيها: «وان أثاث الغرفة يتألف من منضدة كبيرة خلفها كرسي جالس عليه الملك فيصل، وأمام المنضدة كرسي واحد لا غير، فلما دخلت الغرفة بادرني الملك بقوله:

أنا الذي أعدّ أياماً وأقبض راتباً؟

فأجبته:

«أسأل الله ألا يكون كذلك»، وجلست على الكرسي دون استئذان..

ثم قال: ليش كل هذا العداء يا معروف؟

فأجبته: يا صاحب الجلالة، لا يوجد ولا شخص واحد في الدنيا يقول إن لي مطمعاً في مقامكم لأجل أن يكون لي عداء معكم، لأن الأغراض هي التي تولد العداء.

فقال: وهذا «بلاط أم ملاط»؟.

فأجبته: إن هذا لم يكن موجهاً لشخصكم الكريم، إنما لمقامكم، والمقصود هو حاشيتكم الذين أساءوا للبلاد.

فأجاب: إن إساءة بعض الحاشية لا نبرر هذا القول.

فقال الرصافي في مذكراته: «ولما وجدت الملك لا يريد المفاهمة، قمت من مجلسي ولوحت بالسلام وانصرفت»!.

يقف الدارس على هذا اللقاء الذي تم بين الرصافي والملك، فيجد ان الرصافي هو الخاسر في هذا اللقاء، فقد كان ضعيف الحجة فيه تملّص من الحديث وإيذاء في القول، فالملك هو الذي طلب لقاء الرصافي، وكان الرصافي خاسراً، فليس من المجاملة في النقاش أن يساوي نفسه بالملك، ويقول له إنه ليس له مطمع في مقامكم. إن الملك لم يفكر بهذا، وإلا لما أرسل في طلبه، لكن الرصافي تمنى أن يكون مساوياً للملك في المقام لذلك ذكر بأنه ليس طامعاً في العرش، وما كان له أن يقول مثل هذا القول، لكن اللاشعور المتمكن في أعماقه في رغبته بالمناصب والوظائف، هو الذي ظهر في الاعتذار المؤلم.

هل الملك حقيقة «يعد أياماً ويقبض راتباً؟»، إنها صفات الرصافي الذي كان كثيراً ما يعين في الوظائف دون عمل ويرضى لنفسه هذا، ولو أنه تبرم بذلك لا للراتب، إنما للبطالة والسأم. ورده فيه تجن على الحقيقة وافتراء على الواقع بالنسبة للملك فيصل، وما قاساه في حياته وما يقاسيه في العراق. فقد عانى فيصل في حياته وهو يعيش بين موجتين عارمتين في دفة الحكم ليرسي دعائم دولة جديدة على أنقاض ولاية مخربة مفلسة قد تفشى فيها الجهل والمرض والفقر. بين الإنجليز أصحاب السيطرة والقوة والحق لأنهم دخلوا البلاد بقوة السلاح وبدماء جيوشهم، وما زالت نشوة النصر والاعتداد والفتح تلعب في رؤوسهم، وقد سيطرت جنودهم على العراق سيطرة تامة، وأهل العراق الذين قال عنهم معاوية لابنه: «لو طلبوا منك أن تعزل كل يوم والياً فافعل لتمردهم وكراهيتهم للحكام»!.

جاء الملك فيصل ليسوس هذا البلد، فهم يطلبون ما لا يقدرون عليه، يقولون كثيراً حتى اضطر عبد المحسن السعدون للانتحار، تخلصاً من الإنجليز واتهام أهل العراق له بالخيانة، لأنهم يريدون الاستقلال التام وليس لهم مقومات الدولة الجديدة، إنما هي ولاية مفككة الروابط متمزقة الجنبات لم يكن فيها نظام إداري أو هيكل سياسي أو اقتصاد متين، والملك فيصل يبذل جهده بين هاتين القوتين العارمتين لخلق مقومات دولة لها كيان سياسي وإداري واقتصادي. جاء العراق فوجد شعباً جاهلاً يعيش على أساطير وخرافات وتقاليد بالية وليس لهم من الدين إلا مظاهره وشعائره من دون عمق روحي وفهم لهذا الدين، الذي لم يرق للرصافي حال المسلمين لأنه يعرفهم معرفة عميقة، فقد درس في المسجد واختلط بالناس في الصلاة وفي الشارع وساءه هذا الحال، فإن المسلم يصلي ويصوم ويحج من دون أن يتأثر سلوكه الفردي وحياته الاجتماعية بتعاليم الدين، فهو يسمع الخطب في المساجد التي تحث إلى الصدق ومساعدة أخيه المسلم وأن يكون صادق القول أميناً، وينسى كل ذلك عندما يخرج من المسجد بعد الصلاة! ـ كان أكثر العراقيين لا يصلون ولا يصومون شهر رمضان ـ ولا يؤثر فيهم الوازع الديني، فالعراقي يغش ويكذب ويغتاب!.

وقد وجدت بعضهم في الوطن العربي ممن يصر على مخالفة الدين ويرتكب الخطايا، ويقول إن الله يغفر لي عندما أحج وأعتمر. فلم يعد الدين مغلفاً في التقوى، فضاعت الوحدة الخلقية بين الواقع والدين الإسلامي عند العراقيين الذين لا يعرفون من الدين إلا الاسم من دون أن يلتزموا بالتعاليم العالية في حياتهم اليومية، كالصدق والحب ومؤازرة الضعيف وإكرام المحتاج والفقير ومساعدة كل ذي حاجة.

ومع معرفة الرصافي بالملك فيصل وما يقاسيه في رفع مستوى المجتمع العراقي المتأخر، فقد تجنى عليه وأنكر جهوده الكبيرة وسعيه المستمر في سبيل الشعب العراقي وتقدمه عندما صوره بأنه إنسان لا يعمل وليس له من هدف غير تسلم الراتب شهرياً، واتهمه بإخلاصه بصورة مؤلمة.

ثانيا كان جواب الرصافي للملك حاداً ومؤلماً، فهو اتهام واضح وإصرار على الاتهام، بينما كان الملك يعاتبه برقة، والعتاب فرصة إلى مسح الآلام من النفوس، لكن إصرار الرصافي على عدم المصالحة، أبعده عن قصد الملك فيصل في محاولته ارضاء الشاعر والتقرب منه.

ثالثا ان حرص الملك فيصل على اللقاء الفردي قصد الملك فيه عدم احراج الشاعر وليكون اللقاء بسيطاً وهادئاً ومنفرداً في غرفة فيها منضدة وكرسيان، فهي غرفة بسيطة ليس فيها الرياش الفاخر والأثاث المترف. وهذه البساطة كانت تشمل حياة الملك والأسرة المالكة حتى نهاية حياتهم في العراق، فلم يشيدوا القصور ولم يعيشوا في ترف طوال حياتهم. وقد سكن الملك فيصل بيوت العراقيين القديمة مثل قصر شعشوع وانتقل إلى بناية قديمة كانت من بنايات العهد العثماني بعد ذلك.

وكان حرياً بالشاعر اغتنام هذا اللقاء والتقرب منه بالاعتذار الذي كان فيصل يريده، وقد نسيه الملك ونسي هجاءه المقذع له ولوالده، مع انه تقرب من مَن هم أقل شأناً ومنزلة من الملك، بل أنه مدح هربر صموئيل المندوب السامي اليهودي في فلسطين، عندما حضر دعوة راغب النشاشيبي رئيس بلدية القدس عندما قال:

خطاب يهودا قد دعانا إلى الفكر وذكرنا ما نحن منه على ذكر لدى محفل في القدس بالقوم حافل تبوأ هربر صموئيل في الصدر قاموا وفي ليل المحاق اجتماعهم يحفون من هربر صموئيل بالبدر فهل نسي الرصافي لماذا أرسل هذا المندوب السامي؟..

ومن القصيدة:

ولسنا كما قال الألى يتهموننا نعادي إسرائيل في السر والجهر حتى الوزراء ووجهاء البلد لا يمكن أن يصلوا إلى مكانة فيصل، انه ملك البلاد وهو الذي يمنح رضاه عليهم. فقد مدح نوري السعيد، ومدح عبد المحسن السعدون بعدة قصائد حياً وميتاً، ومدح آل الجميل، ومدح الأمير خزعل، اضافة الى عدد من الأدباء والكتّاب.

والرصافي كان يذهب إليه إلى البصرة من أجل عطاياه ومنحه بعد أن كان عبد المحسن السعدون يرعاه ويرفده:

أبا ماجد إني رأيتك مبصرا خفايا أمور أعجزت كل مبصر فهل أخفيت حالي عليك وقد بدا لكل صديق أنها حال مقتر أتيتك من بغداد لم أدر ما الذي أتى بي إلا أنني في تحيّر يقف الدارس مع ذكريات الشاعر وحياته المتناقضة في استغراب، لكن دارس علم النفس يعرف أن الإنسان العاطفي يكون كسلان الطبع اتكالياً، على الرغم من ذكائه الواسع. جاء إلى العراق وكان في الاستانة نائباً وموظفاً تأتيه الأموال هنية سهلة، فوجد العراق في حركة دائبة واستعجال في سبيل تكوين الدولة الجديدة، لكنه لم يندمج في هذه الحركة، لذلك لم يجد الأمور ميسرة له. انكفأ على نفسه وصاحب الخمرة ولعب القمار، لأنه يريد أن ينسى، وهذه الصراحة هي التي دعته للحديث عن الحسناء الأرمنية.