ثقافتنا أم ثقافاتنا؟

فاضل السلطاني

TT

في لقاء معها عام 1996، استغربت عميدة الاستشراق الألمانية الراحلة آن ماري شيمل بما يشبه الاستنكار من جهل معظم المثقفين العرب بآداب جيراننا الاقرب الايرانيين والأتراك، الذين تجمعنا واياهم سمات اجتماعية وثقافية كثيرة، وكنا ذات يوم امبراطورية واحدة.

وبالطبع، هي محقة في استغرابها، وهي تعرف ايضا الاسباب التاريخية والسياسية التي حالت دون ذلك، وتدرك اننا مصابون بعقدة الخواجة التي جعلتنا نتجه كل التوجه غربا من دون ان نتوقف قليلا عند جيراننا، وهي العوامل نفسها المتحكمة بهؤلاء الجيران الذين يجهلوننا ايضا الى حد كبير. ولكننا قد لا نعرف ان قصورنا غير مقتصر على جيراننا فقط، وان هذه العوامل لا تصح لتفسير جهلنا بثقافات عريقة نبتت في تربتنا، وتنفست هواءنا، وكبرت ونضجت بين ظهرانينا من دون ان نعيرها أي اهتمام، وحين انتبهنا لوجودها، حاولنا وأدها هي وأهلها بالنكران التام وكأنها شيء لم يكن. وحين لم يفلح ذلك استعنا بالدبابة على مدى قرن كامل، مرتكبين واحدة من اكبر جرائم التطهير العرقي والثقافي في عصرنا.

ولا يبدو لحد الآن اننا منتبهون لهول ما فعلنا لنستدرك الخطأ، ونرفع بعض الضرر الذي الحقناه بهذه الثقافات، وبثقافتنا الأم ايضا.

ان ثقافة الاقليات مصطلح لم يدخل بعد في التداول الثقافي العربي، ولم تهضمه بعد ذهنية ثقافية مغلقة على نفسها، مكتفية بعناصرها التي تبدو لها انها العناصر الوحيدة المحركة للثقافة الاجتماعية، متجاهلة ان هناك بشرا آخرين لهم نسبتهم غير الضئيلة في تشكيل هذه الثقافة، لسبب بسيط هو انهم موجودون على ارضنا نفسها ومنذ قرون، وربما قبلنا، وانتجوا ثقافاتهم كأي شعب على هذه الارض. لكن الفكر «القومي» ما زال يرفض الاعتراف بهذه الثقافات. وكيف يعترف وهو ينكر اصلا حتى وجود أهلها المادي؟

الأكراد، هم اكبر ضحايا انغلاق هذا الفكر، لسبب واضح، هو انهم اقلية كبيرة موزعة على اكثر من بلد عربي، وبالتالي ثقافتها منتشرة اكثر، ومع ذلك لم تنل الاعتراف المطلوب بها عربيا. ونتيجة لذلك، وللالتفاف على الحصار الرهيب المفروض، اضطر كثير من الكتاب الأكراد الى نفي انفسهم لغويا، «فاختاروا» العربية لنيل مثل هذا الاعتراف. وقسم منهم يجهل حتى لغته الكردية بسبب الاضطهاد الثقافي واللغوي الطويل، وكأنهم يعيدون انتاج ما مر به كتاب المغرب العربي، وعذابهم الوجداني واللغوي المرير، على يد اجنبية هذه المرة.

وفي الفرصة الذهبية التي توفرت للأكراد بعد عام 1991، ازدهرت هذه الثقافة الكردية، ابداعا ونشرا، لكن ظلت محصورة في اطارها الجغرافي الضيق بعد ان اغلقت امامهما الحدود التي يحرسها المثقفون «القوميون»، الذين، في الحقيقة، برعوا في ذلك، غافلين، بسبب آيديولوجيتهم الضيقة.

ان هذه الثقافة لا تأتي من وراء حدود مفترضة، وانما موجودة وسطنا، وينتجها يوميا بشر هم جزء اساسي من تراثنا وتاريخنا، وان تفتحنا على ثقافاتهم ليس فقط شرطا اساسيا من شروط وجودنا المشترك، وانما اغناء لثقافتنا العربية ذاتها كما حصل في فترات ازدهارنا الحضاري قبل ان يزدهر ضيق الأفق القومي الذي انتجه ثقافات تتهاوى الآن امام اعيننا بحكم منطقها ذاته بالدرجة الأولى، قبل ان تكون بفعل عوامل خارجية من وراء الحدود.

ولعل تجربة العراق الجديد، اذا احسن العرب والأكراد معا، ادارة العملية الثقافية، تعيد الاعتبار لثقافات الاقليات المطرودة طويلا من مجالنا الثقافي، فقط كحق دستوري واخلاقي وانساني ايضا، ولكن عبر الاعتراف بأن هذه الثقافات هي جزء جوهري من الثقافة الوطنية، وتفتحتها وتلاقحها مع بعضها البعض هو اغناء لهذه الثقافة، وعنصر قوة اضافية لها، وليس تهديدا او شرا امبرياليا مستطيرا كما يتصور حراس الثقافات «القوميون»، الذين لم يحرسوا شيئا سوى اوهامهم.