حين تتمسك أحزاب السلطة بشعاراتها الثورية ويصبح تراث المعارضة هو تراث السلطة

برهان غليون يتحدث عن آفاق التحول الديمقراطي في سورية والاستحقاق القادم أمام المجتمع

TT

* كتاب «الاختيار الديموقراطي في سورية» هو عبارة عن أسئلة وجهها الباحث لؤي حسين، ليحاور بها المفكر برهان غليون، وهي تدخل ضمن مشروع تشارك فيه مجموعة من أهل الرأي في سورية، يكون بمثابة حوار جدي وموضوعي بين أنصار الاتجاهات الديمقراطية التي عبر عنها بعض المثقفين في ربيع عام 2001، من خلال الدعوة لإصلاح سياسي وإحياء هيئات المجتمع المدني من جهة، وأنصار الاتجاهات الاخرى التي تدعو إلى تأجيل الإصلاح السياسي إلى ما بعد الإصلاح الاقتصادي.

وهي بالطبع قضية ليس سورية فقط، وانما عربية ايضا بالنسبة للمجتمعات التى تمر بظروف مماثلة.

* تثير ااسئلة هذا الكتاب موضوعات ذات أهمية كبيرة بالنسبة للنقاش الدائر في سورية لأنها تنطلق من التشكك بالمعارضة والديمقراطية معا، وهي تعكس التشكيك الطبيعي والمشروع لقطاع كبير من الرأي العام السوري الديمقراطي، او النازع نحو الديمقراطية، بجدارة القوى التي تتصدى لمهام التحويل الديمقراطي والمعارضة معا وصدقيتها اكثر مما تعكس التشكيك بمبادئ الديمقراطية والمعارضة ذاتها. من هذا جاءت الاجوبة موسعة بحجم كتاب لمساعدة الرأي العام السوري بجميع قطاعاته وتياراته، بما فيها الرسمية، على التعميق في فهم القضايا النظرية المطروحة، وتحثه بالتالي على اتخاذ موقف اكثر صحة من المطالب الديمقراطية، او على صياغة رأي عام ديمقراطي اكثر وضوحا.

دارت الاسئلة واجوبتها حول، اي خيار نريد: الاشتراكية ام الرأسمالية؟ اين الاشتراكية؟ ضرورة وجود برنامج ديمقراطي اوسع يضم الاشتراكيين وغير الاشتراكيين. ما هي الديمقراطية التي نريدها لسورية؟ العلاقة بين الديمقراطية والرأسمالية، مسؤولية السلطة ومسؤولية المعارضة واصل الخراب الاجتماعي.

ما هو الاستحقاق القادم امام المجتمع السوري؟ هل هو استكمال الدولة الوطنية الدستورية، ام المجتمع المدني، ام الاثنان بالترافق والتزامن؟ هل توجد علاقة بين العلمانية والمواطنة؟ وكذلك قضايا الديمقراطية والاصولية الاسلامية والمسألة الطائفية والحرية والمساواة بين جميع الافراد، والعدالة والتضامن والاخوة الانسانية. هذه القيم جميعا، كما نقرأ في الحوارات، ليست قيم الليبرالية، انها قيم الحداثة، وكما تسعى الليبرالية الى ترجمتها في الواقع العملي حسب مصالحها وتصوراتها، فنحن ايضا نحاول ترجمتها حسب مصالحنا وتصوراتنا، وبالعكس ان الديمقراطية تختلف في تحديد طبيعة التهديدات ذاتها، فلا تنظر الى نقد سياسات الدولة من قبل المواطنين اعتداء على اعراض الدولة والمسؤولين فيها، ولكن حقا مكفولا للجميع، بل واجبا على كل فرد.

يقول غليون: ان احزاب السلطة تقيم شرعيتها على التمسك بالشعارات الثورية، وليس لها مصلحة ان تقوم بنقد ذاتي لنفسها، وتكمن مصلحتها في ان تتظاهر بالاستمرارية والوفاء للشعارات القديمة، حتى عندما تنقلب انقلابا كاملا في سياساتها وتصبح الرأسمالية وجذب الاستثمارات الاجنبية وتشجيع الملكية الخاصة والعودة الى اسعار السوق، هي مطلبها ونموذجها المثالي المتبع، ومن دون ذلك ستضطر الى الاعتراف بالخطأ، وتفقد بالتالي الهالة المقدسة التي اضفتها على نفسها وزعامتها، وتضطر الى ايجاد مبررات شرعية لتشبثها بالسلطة واحتكارها لها، واستمرارها بالضرب بيد من حديد على من ينزع الى مساءلتها، او طلب كشف حساب لانجازاتها. اما احزاب المعارضة، اذا كان من الممكن الحديث بالفعل عن أحزاب، فقد كانت طموحاتها أن تحافظ على نفسها وتلملم جراحها خلال أكثر من ثلاثة عقود، ولم يكن لديها أي قدرة على التفكير أو ممارسة النقد الذاتي، ولم تبدأ بإصدار نشرات وبيانات إلا منذ أشهر معدودة.

ان قوى اليسار ما تزال فعلاً تحمل نفسية وعقلية وايديولوجية ما قبل انهيار الاتحاد السوفيتي وما تزال في حيرة من أمرها، وربما غير مستعدة لقبول الحقائق الجديدة، وهذا الأمر هو السبب الرئيسي في العزلة التي يعيش فيها القادة والرأي العام السوري معاً، والتي تمنع الجميع من معرفة المعطيات التاريخية المتغيرة، ومن التفاعل مع الأفكار والمناقشات الدائرة في العالم الخارجي الذي شهد تحولات فكرية وسياسية استثنائية في العقود الثلاثة الماضية، وكما يذهب غليون، بقينا في معزل تام عنها، فنحن نعيش في الواقع في حلقة مغلقة منذ أكثر من أربعين عاماً ولا نزال غارقين إلى الرأس في لجة المنطق الدعوي والإيديولوجي القديم.

الدولة عموما تستخدم التعليم والإعلام والشارع والاحزاب لبث عقيدتها وأطروحاتها ولإقناع الناس بها، من دون نقاش ولا تساؤل ممكن ولا اعتراض، والمعارضة تدافع عن وجودها الرمزي من خلال التأكيد على قيمها وأفكارها الايديولوجية الخاصة ورموزها، وبالتشبث ايضا بتراثها العقائدي الذي هو تراث السلطة ذاتها. ليس هناك نقاش موضوعي ولا حوار ولا مناظرة. وفي ظروف غياب اي ممارسة سياسية وحسم السلطة ابديا، بالدستور، لصالح الحزب الحاكم، لم يعد هناك معنى ولا سبب لتطور أو تطوير اي مناقشة نظرية موضوعية وعقلية جدية في المجتمع ولدى النخبة السياسية، وفي مثل هذا المناخ الذي يلغي حرية التعبير ويفرض الرقابة على الضمير، ويحرك كل أشكال التفكير والبحث والحوار والتواصل وتبادل الرأي الحر والصادق في البلاد، لا يختفي اي فكر نقدي أو اصلاحي أو عقلاني فحسب، ولكن يزول الشعور بالمسؤولية الأدبية عند القيادة الفكرية والسياسية معاً. لقد عشنا ولا نزال في مجتمع الاستقالات الشاملة: السياسية والاقتصادية والفكرية والروحية الجماعية والفردية، أي مجتمع التسيب الكامل ايضا. وما يحقق المناخ السياسي العام في الوصول اليه في هذا المجال، يحققه النظام التربوي السائد، الذي فقد أهدافه العلمية والتأهيلية ليتحول الى كابح للشبيبة، أو وسيلة لتكوين أشباه المواطنين وأشباه الرجال، الذين لا رأي لهم ولا كيان ولا عقيدة، وهم يتنازعون على كسب بعض العلامات الإضافية بالتحايلات السياسية، ولا يهمهم سوى الوصول الى هدفهم مهما كانت الوسيلة، وهذا ما يسميه المؤلف الانتحار العقلي الجماعي، إنه يجمع بين الاختلاط الفكري والخراب الأخلاقي والتخبط الروحي، وغياب الأمل والتفكير في المستقبل.

هذا هو العمق الحقيقي للأزمة التي نعيشها، وما لم ننتبه الى ذلك فجميع الاصلاحات التي نتحدث عنها سوف تكون حبراً على ورق، اذا كان الإنسان ليس إنساناً والسياسة ليست سياسة والفكر ليس فكراً، فلن يكون هناك اقتصاد ولا دولة ولا ثقافة.

ويبقى، كي نخرج بالمجتمع من العصبيات التقليدية أن نضع الأفراد جميعاً في شروط ممارسة المواطنية، ونساعدهم على السلوك كمواطنين، وشروط المواطنية هي: الحرية والمساواة القانونية والسيادة أي المشاركة في القرارات العامة، ثم العدالة وآخرها الثقافة المدنية التي ينجم عنها تقديس الحياة البشرية والسعي الى تجنب الصراعات والحروب والعنف للحصول على المنافع الخاصة، وهذا هو الذي ينمي مشاعر الولاء والانتماء للجماعة (المواطنين الأحرار) المتساوين المتضامنين المتكافلين الأسياد المتعاقدين في إطار الدولة على تبادل المنافع المادية منها والمعنوية، وفي مقدمتها حماية حرية الأفراد وحقوقهم، وحماية هذه الحريات الفردية، وتلك الحقوق الانسانية هي مصدر شرعية وجود الدولة. وما من شك ايضاً ان حرمان المثقفين والمعارضة الديمقراطية من القيام بمسؤولياتها في هذا الميدان سوف يؤثر كثيراً على امكانيات تعزيز الانتماء الوطني والشعور بالمسؤولية الجماعية، ويزيد من احتمال الوقوع في شرك الصراعات العصبوية والنزاعات المرتبطة بها.

إن استكمال الدولة الوطنية الدستورية لا يتحقق من دون وجود المجتمع المدني، اذا كان المقصود بالدولة الوطنية، ودولة المواطنية والمواطنين لا دولة التماهي الجماعي في الايديولوجية والحزب الحاكمين باسم القومية، ولا ينبغي ان ننتظر من الدولة المطلقة ان تقبل بوجود مجتمع مدني او ان تتساهل معه كما بينت التجربة بصورة واضحة، وبالتالي لا يمكن لهذا المجتمع أن ينجح في تقييد السلطة المستبدة أو أن تمنع الاستبداد، فالمدنية لا تعيش في مناخ الاستبداد، والدولة التي تبنى على الاجهزة الأمنية ومن حولها تبقى دولة رجال الأمن ومن يدور في فلكهم، ولا يمكن لها ان تتحول الى دولة دستورية أو مدنية ولا ان تنتج قيما مواطنية، بل ولا أي شكل من أشكال القيم الانسانية، مهما وضعت على وجهها من حجب ومناديل. لا يوجد مجتمع مدني من دون دولة ديموقراطية ولا توجد دولة ديموقراطية من دون مجتمع مدني، وبالمقابل لا توجد ديموقراطية من دون جمعيات وتنظيمات وأحزاب أهلية، والعكس صحيح.

ويناقش د. غليون في مكان آخر الالتباس في كثير من المفاهيم المطروحة والذي يعود إلى رفض التفكير أو تقنينه ومنع الحوار والتعايش الوطني العلني والحر، والمجتمع السوري محروم رسمياً وقانونياً بمراسيم مكتوبة ووسائل مادية من ذلك. فالصحف ووسائل الإعلام لا تزال منذ أربعة عقود حكراً على رأي واحد، من هنا يصبح من الضروري العودة الى أصول المبادئ والمصطلحات والتذكير بها في سبيل بناء فكر موحد ومرجعيات واحدة، وهذا هو دور المثقفين والصحافيين والكتاب، فعليهم تقع مسؤولية السعي الى التغلب على هذه العقبات التي تعيق المناقشة الجمعية والتفاعل الذهني وتداول الأفكار من أجل التوصل إلى تفاهمات وأنماط مشتركة من النظر والمقاربة، وبالتالي إلى رؤية مشتركة أيضا وجماعية، وهذا هو المفهوم الحقيقي للثقافة. إن الانتقال الساعي أقل خطراً بكثير من الانتقال العنيف الذي يمكن ان يفرض أو ستفرضه الأحداث علينا، إنه أهون بكثير من أن نترك الآخرين من الأميركيين والأوروبيين والأمم المتحدة يفرضون ما شاؤوا منها علينا، عندما يجدون في ذلك وسيلة لتحقيق مصالح خاصة بهم، باسم محاربة الإرهاب أو ضبطه، وهذه سابقة ينبغي ان تحثنا على التفكير حتى نشرع في التخلص من بعض مظاهر الحكم التعسفي والسيطرة بالقوة العسكرية ومحاربة الاعتقالات اللاقانونية ومحاكمة المختلفين في الرأي.

ما هو الطريق الأسهل والأسلم الى ذلك ؟ يجيب غليون: إذا آمنت جميع القوى، داخل السلطة وخارجها بحتمية الانتقال للديمقراطية بشكل سلمي، يكون حينها لمفهوم العقدين السلطة والشعب معنى وجدوى ويكون قاعدة لميثاق سياسي، ليتم الاتفاق على تحديد شكل التعاون للانتقال الى الديموقراطية، خلال مدة معقولة، عبر تعددية حزبية وحرية رأي واحترام متبادل، واحترام الأقلية السياسية وغير السياسية، والاتفاق حول كيفية الوصول للانتخابات الحرة خلال سنتين أو ثلاث، بين جميع القوى، لا احد يدافع الآن عن شرعية السلطة المطلقة أو النظام الشمولي أو نظام الحزب الواحد، إن ما يجب مناقشته الآن: كيف يمكننا التحول نحو نظام آخر يتماشى مع المصالح الوطنية للمجتمع السوري، بضرورة التحديث والإصلاح.

من جانب آخر، علينا رفع مستوى التعليم ليمتلك أبناؤنا التفكير العقلاني والنقدي الحر، والعمل على رفع سوية حياتنا السياسية والعناية بالتربية المدنية، وواجبنا الضروري ايضا رفع مستوى أدائنا الأخلاقي والسياسي والثقافي والعلمي والاداري، وهذا الإدراك الواضح للمهمات التاريخية المحددة التي تنتظرنا، هو الذي ينبغي ان يميز تفكيرنا ورؤيتنا، نحن جيل الإصلاح والتغيير، عن الشعارات الفضفاضة والغائمة والسحرية التي يستخدمها محترفو الايديولوجيات.