التربية وخطر تفكيك مسؤوليات الدولة الاجتماعية

د. حامد عمار يصف أنصار الحداثة والداعين إلى العودة الى الماضي بالاتباعية

TT

يصف الباحث الاجتماعي والتربوي د. حامد عمار أنصار الحداثة وأنصار العودة الى تراث السلف بأن كليهما مقلد ومتبع وليس مجددا في الأغلب الأعم، مشيرا الى ان أنصار الحداثة يسعون للاقتداء بنماذج حضارات أهل الشمال وقيمها متجاهلين أن مظاهر الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها افراز ونتاج لواقع مغاير في مكوناته المادية والثقافية والحياتية، كما انهم يتجاهلون أن صور الحداثة ذاتها في تغير وتجدد مستمر وليست معطيات ثابتة مستقرة.

ويرى د. عمار في كتاب أصدره حديثا عن «مكتبة الدار العربية للكتاب» بعنوان «دراسات في التربية والثقافة.. مقالات في التنمية البشرية العربية» ان زعم أنصار الحداثة أن حضارات الغرب ترتكز مسيرتها على العلوم ونتاجها ينطوي على كثير من استعارة نتاج الغير دون وعي وسوف يقود ذلك الى الجمود والتبعية واستمرار الاعتماد على الغير وبذلك تنعدم الحاجة الى التنمية الذاتية وما تستدعيه من تجديد وابداع ذاتي ويصبح النقل من منجزات الغير نوعا من الحفنة التي تدخل الكيان الثقافي العربي، ولا تتفاعل مع أسبابه المرضية وقد لا تعدو أن تكون أثرا ومسكنا مرحليا.

والمطلوب هو اكساب الكيان العربي حيوية ذاتية للفكر والفعل معا بالاضافة الى الوعي الناقد بما يمكن توظيفه من الانتاج والابداع النافع من منجزات غيرنا، حتى يكتسب الجسم المجتمعي العربي المناعة والقدرة النافذة في تعامله مع متغيرات العصر وتحدياته ويمهد السبيل الى انتاج زاده المعرفي وقدراته التكنولوجية.

وأشار د. عمار الى ان أنصار العودة الى الماضي يتساوون مع أنصار الحداثة في التقليد والاتباع، وهم يحاولون اسقاط حلول الماضي على ظروف الحاضر وعلى مستقبل مغاير في مكوناته وديناميكياته وعلاقاته، وهو ما يؤدي الى انعدام التجديد والابداع.

ان أنصار العودة الى الماضي، كما يقول، يختزلون التراث في صور التزمت والانغلاق، وقد يؤدي ذلك الى نشوء قراءات أخرى تناقض تلك الرؤى المنغلقة، مشيراً إلى أن المرأة كانت أكثر عنصر في المجتمعات العربية والاسلامية أصابه التحريم رغم أهمية دورها.

وذكر الباحث ان هذه الرؤى والاحكام التي استند اليها أنصار العودة الى الماضي ناشئة من تجاهلهم مفهوم السببية واغفالهم حركة الواقع واحداث التاريخ.

واشار د. عمار الى ان التنمية في جوهرها يجب ان تتجه الى كل انسان في المجتمع العربي، وان تستهدف طاقاته البدنية والعقلية والروحية والاجتماعية والانتاجية الى أقصى حد وتوفر الموارد الطبيعية للثروة، التي يجب ان تستفيد منها أقطار الوطن العربي كلها في اتجاه التنمية التكاملية بين هذه الاقطار، مستفيدة من عوامل التاريخ والجغرافيا والثقافة دون ان تغفل المصالح التي تستند إلى تلك العوامل. وهذا هو ما يجعلنا قادرين على مواجهة الكوكبية والتوجهات والمؤثرات الثقافية والقيمية لمنتجات أفكار الدول الغربية والتي تؤدي الى تسرب قيم الاقتداء بنموذج الحضارات المهيمنة وما تروج له من مظاهر الاستهلاك وفقدان الثقة بالمنتجات المحلية مادية كانت أو فكرية.

وهو يرى ان اخطر ما في عصر العولمة والكوكبية فك الاشتباك بين المسؤوليات الاجتماعية والاقتصادية للدولة من أجل ما تطرحه من الدور المبالغ فيه للقطاع الخاص، وما يسمى بالمنظمات غير الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني في جهود التنمية بعامة والتنمية البشرية بخاصة.

ويحاول المؤلف الوصول الى معالجة علمية لمستويات تنمية طاقات الانسان العربي واقعا وصيرورة. وتعكس أبحاثه السبعة التي تضمنها الكتاب ما طرأ على مفاهيم التنمية البشرية من تطور ووضوح وعلى مؤشراتها من بلورة وتنوع مؤسساتها من تجديد ومراجعة وعلى شروط تحقيقها من موارد وامكانيات، وذلك كله في اطار سياق مرجعي يلتزم بالتنمية المتواصلة في وتائر نموها واتساق أنشطتها وبرامجها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والروحية. وقد حاول د. عمار خلال بحثه في تلك القضايا تتبع التحولات في المسيرة الحياتية للانسان العربي منذ 1960 وانتهاء بعامي 1993 ـ 1995 في معظم الأحوال.

وأشار المؤلف الى الابعاد الثقافية للتنمية البشرية في الوطن العربي ومؤشرات التنمية البشرية في مصر وأساليب صياغتها والمتغيرات الاجتماعية المؤثرة في علاقة التعليم بالعمل في الوطن العربي والتي قام بدراستها عبر منطلقات عديدة أهمها ان التنمية البشرية يجب ان تحقق انسانية المواطن العربي، كما يجب ان تراعي حقه في التعليم والعمل وانه ذاته أداة التنمية والتقدم ومن هنا يجب ان تنظر إليه باعتباره من بين أهم الموارد العربية في حركة الانتاج.

ان الجناح الأول للتنمية البشرية في مفهومه يرتكز على تكوين وتنمية قدرات الانسان واشباع حاجاته وتحسين مستوى ونوعية حياته، والجناح الثاني هو الانتفاع الأمثل بقدراته في العمل والانشطة الاجتماعية والثقافية والسياسية أو حتى في وقت الفراغ.

وقيمة العلاقة بين جناحي التنمية تتحقق في سياق النموذج الكلي للتنمية وما تتأثر به العلاقة بين التعليم في مفهومه الواسع وبين مجالات العمل والانشطة الانسانية في إطارها الاجتماعي العام، وهي هكذا تقتضي استقلالية القرار الوطني العربي والتلاحم القومي تنسيقا وتضامنا وتعاونا وتكاملا، كما تقتضي توسيع فرص المشاركة ومجالاتها وترسيخ المنهج العلمي اطارا وأداة للقرار والفعل وسعيا لتنمية هوية حضارية تتفاعل بندية وثقة مع الحضارات الأخرى.

وأشار الباحث الى ان فهم وقائع التعليم وسياساته وحركته واتجاهاته وفهم مواقع العمل وفرصه وهياكل الأجور وسياساتها والعلاقة الدنيامية بينهما لا تستقيم إلا من خلال السياقات المجمعية التي تجسدت عبر التطور التاريخي في البنية الاجتماعية والاقتصاد السياسي ومراكز السلطة المهيمنة على علاقات القوى والشرائح الاجتماعية والطبقية.

أما الاختلال والقصور والتشوه في عناصر قطاعي التعليم والعمل وعلاقتهما فيعودان الى اختلالات وتشوهات في الأطر والقوى المجتمعية المهيمنة والمؤثرة سواء داخل المجتمع أو خارجه، من هنا دعا د. حامد الى ادراك التشابكات والتقاطعات المتعددة المؤثرة في تكوين القطاعين وفي العلاقة بينهما من أجل فهم ودراسة وتحليل وقائع التعليم وسياسته ومواقع العمل وفرصته وهياكل أجوره.

وحدد د. حامد عمار بعضا من العوامل والمتغيرات المؤثرة في تشكيل صورة التعليم ووظائفه ودور العمل وسياساته في السياقين المجتمعي والعالمي، مشيرا الى انها تتركز في نماذج التنمية وخططها ونمط الانتاج وعلاقاته وتوزيع الدخول والسياسات الضريبية وتحصيل الضرائب وسياسات الاسعار والأجور والديون الخارجية والداخلية ونمط الاستثمار ومواقعه ومجالاته ونقل التكنولوجيا ومصادرها ونوعياتها وكثافتها وسياسات التصدير والاستيراد وشروط المساعدات والقروض الأجنبية، مضافا إليها مجموعة من القيم المرتبطة بأفضليات العمل وحوافزه ومستويات الطموح وفرصه وقيم التعليم وعوائده المادية والاجتماعية وقيم الحرية والمواطنة والانتماء والاقتران بين الحقوق والواجبات وقيم الأمانة نحو حقوق الأجيال الجديدة، ومكانة المرأة واحترام مختلف أدوارها ومساواتها انسانة ومواطنة بالرجل.