رحيل ثيسيجر.. نهاية مرحلة في تاريخ الاستكشاف البريطاني

رحالة رفض نمط الحياة الغربية وعشق الصحراء العربية وأهوار العراق

TT

رحيل الرحالة البريطاني الكبير ويلفريد ثيسيجر Wilfred Thesiger اخيرا بعد مرض طويل وعمر مديد هو نهاية مرحلة في تاريخ الاستكشاف البريطاني. وقد ارتبط اسمه اول ما ارتبط بعرب الاهوار في جنوب العراق. وكتابه الشهير «عرب الاهوار» الصادر لاول مرة في عام 1964 هو الكتاب الاشهر بين كتبه العديدة عن المنطقة العربية خاصة، بالاضافة الى «عرب الاهوار»، كتابه «الرمال العربية» الذي يتحدث فيه بالنص والصورة عن رحلة الى شبه الجزيرة العربية و«الربع الخالي» انطلاقا من اليمن.

وقد ارتبطت اهوار العراق بالذاكرة البريطانية والاوروبية والعالمية من خلال رحلات النائبة البريطانية ايما نيكلسون التي زارت المنطقة عدة مرات وانتجت عنها فيلما تلفزيونيا.

ايما نيكلسون طالبت المنظمات العالمية ومنظمات الدفاع عن البيئة التدخل لايقاف النظام العراقي السابق عن العبث بالتركيبة البيئية في الاهوار من خلال اصرار ذلك النظام على تجفيف الاهوار والقضاء على طريقة حياة تمتد الى فترة السومريين، طريقة حياة «بدائية» لم تتغير منذ ما يزيد على خمسة آلاف سنة. النظام العراقي، كما هو معروف اراد ظاهريا ان يشق نهرا ثالثا، والهدف من ذلك ليس القضاء على الاهوار وتجفيفها فقط، وانما القضاء على المعارضة المسلحة التي كانت الاهوار، خلال عدة عقود، موطنا لها، وكانت النتيجة ان عرب الاهوار اضطر عشرات الالوف منهم الى الهجرة، تحت ضغط الارهاب والتصفية الجسدية الى ايران.

الاهوار في الذاكرة الجمعية للبشرية هي بندقية الشرق، نسبة الى مدينة فينسيا الايطالية المشهورة، واليها كان يأتي مئات السياح من مختلف انحاء العالم. وهي وأور القريبة منها معلمان مهمان من تاريخ العراق.

ويلفريد ثيسيجر زارها عدة مرات في الخمسينات، بل انه عاش بين اهلها سبع سنوات تقريبا، وكتابه يحكي بالكلمة والصورة (اذ كان ثيسيجر مصورا بارعا جدا) عن اهل الاهوار، طبيعتها وحياة سكانها الاجتماعية وهي طبيعة وحياة كان النظام العراقي المقبور ينظر اليها على انها حياة متخلفة، واهلها «بهائم» ومتخلفون يجب القضاء عليهم.

تقع الاهوار في جنوب العراق عند ملتقى دجلة والفرات وتبلغ مساحتها ستة آلاف ميل مربع من «المستنقعات». والاهوار جذبت اليها الرحالة الكبير لأنه كان يرى فيها طريقة حياة «فطرية» لم تلوثها الحضارة، وكتابه «عرب الاهوار» من السهل والجدارة مقارنته بأعمال الرحالة الانجليز الذين سبقوه الى المنطقة العربية. وكتابه المذكور غالبا ما يقارن بكتاب لورنس العرب «اعمدة الحكمة السبعة» وكتاب كبير الرحالة الانجليز شارلز داوتي «الصحراء العربية».

لم يتوقف ثيسيجر عن الكتابة عن العرب شعبا وعن الارض العربية جغرافية. في السبعينات بعد صدور كتابه الاشهر «الرمال العربية» و«عرب الاهوار»، صدر له كتابان هما «رؤى البدوي» و«حياة من اختياري» وهما ايضا معززان بالصور الفوتوغرافية التي التقطها بكاميرته العتيدة «لايكا» والتي بقيت معه حتى مماته.

نصف قرن من الترحال والاشتياق الى الروعة البربرية، من يد وعين هذا الرحالة الذي كان يعيش في كوخ بسيط في افريقيا. هذا الرحالة الذي رفض الحضارة الغربية المعقدة التي تخنق الانسان وهي التي تدعي انها تريد له ان يتنفس بحرية. ثيسيجر صرح اكثر من مرة بأنه يفضل العيش في كينيا وانه لا يزور بريطانيا الا في حالات الضرورة، بل انه قبل عدة سنوات صرح بأن زيارته الى بريطانيا ستكون الاخيرة، الا ان المرض اجبره على البقاء فيها.

ونعرف بأن له شقة متواضعة في لندن يحتفظ بها بذكرياته وما مجموعه 65 البوما من الصور. الا انه لم يكن يستطيع ان يبقى في بلد متحضر وفضل حياة الترحال والبداوة في صحارى العالم العربي والآسيوي، حياة لا مثيل لها، حياة التقشف التام والابتعاد الكامل عن مغريات المجتمع الاستهلاكي، وهذا التفرد جعل منه شخصية اسطورية لا مثيل لها في التاريخ الحديث.

ويروى ان الشخصيات الكبيرة من السياسيين والصحافيين ومحبي الاسفار عندما كانوا يزورونه في كوخه المتواضع في كينيا يفاجأون به وهو يقدم لهم حليب الماعز والتمر بدلا من وليمة تليق بمقامهم العالي.

ومعروف عن ثيسيجر انه عزوف عن النشر وكتابه الاول «الرمال العربية» لم يصدر الا بعد سنوات من تأليفه. وهذا الكتاب جعل منه واحدا من كبار كتّاب أدب الاسفار الكلاسيكية.

ولد ثيسيجر في اوائل القرن الحالي في الحبشة، حيث كان ابوه موظفا في وزارة الخارجية البريطانية. عاش صباه هناك ونما في نفسه الاعجاب العميق بالامبراطور الراحل هيلا سيلاسي وشخصيته الزاهدة والصارمة. وبدأ ثيسيجر يكتب ويصور في الثلاثينات من القرن الماضي، الثلاثينات التي شهدت تتويج الامبراطور الراحل.

الا ان غرام الرحالة بالكاميرا لم يتوطد ويتعمق الا عندما زار عرب الاهوار واقام بينهم فترة طويلة. ومعها سافر الى ايران وافغانستان ومعظم رحلاته كانت على ظهور الجمال، وكان خلال رحلاته يتعرض للجوع ولفحات الشمس القاتلة والرياح الرملية التي تكاد تعمي الابصار.

ولثيسيجر تلميذ تعلم على يديه واصابه هو الآخر حب الاهوار والاعجاب بسكانها هو غافن يونغ Gavin Young الذي التقى ثيسيجر في البصرة في الستينات واراد ان يرافقه في رحلاته. الا انه في السبعينات ذهب الى الاهوار مع مصور بريطاني ممتاز هو نيكولاس ويلر، وألف عنهم كتابه «العودة الى الاهوار». ولم يقتصر المؤلف المذكور على تصوير الحياة الاجتماعية لعرب الاهوار، بل تطرق ايضا الى الجانب التاريخي والسياسي لهم.

والكتابان «عرب الاهوار» و«العودة الى الاهوار» يكمل احدهما الآخر. وهما يشكلان صورة كاملة التفاصيل عن جنوب العراق، مهد الحضارة الاولى، و«جنة عدن». ومن المفارقات ان رحيل ثيسيجر يعود بنا الى فترة من تاريخ العراق الحديث وعلى وجهنا دمعة وابتسامة.