هافيل : كنت متردداً.. خائفاً..وفقدت الثقة في نفسي!

الرؤساء الآخرون يبتهجون في كل فرصة يقابلون بعضهم أو أشخاصاً آخرين مهمين أو يظهرون في التلفاز أو يلقون خطبا، فإن كل هذه الأمور تجعلني أكثر خوفا

TT

* ولد الكاتب المسرحي فاتسلاف هافيل، الرئيس السابق لجمهورية تشيكيا، في براغ عام 1936. عرضت مسرحيته الأولى «حفل الحديقة» التي سخر فيها من النظام الشيوعي الشمولي في 1963. منعه القادة الشيوعيون عام 1969 من ممارسة عمله ككاتب ومحرر بعد قمع إصلاحات ربيع براغ عام 1968، وأُضطر للعمل كعامل يدوي في مصنع بيرة. قاد حركة سلميّة عُرفت بالثورة المخملية ضد الحزب الشيوعي،وسُجن لعدة سنوات. أنتخب رئيسا لتشيكوسلوفاكيا في 1989 بعد إنهيار النظام الشيوعي رغم أنه لم يكن سياسيا مخضرما بل رجل أدب وفن. أنتخب رئيسا لجمهورية تشيكيا في 1993 بعد تقسيم تشيكوسلوفاكيا ثم أعيد أنتخابه مرة أخرى في 1998. انتهت مدة رئاسته الثانية والأخيرة في فبراير 2003، وتقاعد عن العمل السياسي. هنا ترجمة لكلمته التي يودع فيها السياسة. وفيما يلي نص كلمة هافيل:

* مازلت أذكر جيدا الحفل التكريمي الذي أقيم لدى وصولي إلى نيويورك في فبراير 1990 بصفتي رئيس تشيكوسلوفاكيا المنتخب حديثا آنذاك. بالطبع، لم يكن ذلك الحفل لتكريم شخصي فقط،ولكن كان تكريماً من خلالي لكل المواطنين في بلدي الذين تمكنوا بواسطة ثورة سلمية من إسقاط نظام حكم مستبد،وكان تكريماً لكل الذين قاوموا معي أو قبلي هذا النظام بوسائل سلميّة. الكثير من محبي الحرية في العالم إعتبروا إنتصار الثورة المخملية التشيكوسلوفاكية أمل رائد من أجل عالم أكثر إنسانية، عالم يمكن أن يكون للشعراء فيه صوت مسموع مثل صوت أصحاب البنوك. إجتماعُنا اليوم، الذي لا يقل حميمية، يقودني إلى تساؤل منطقي: هل تغيرتُ بسبب الرئاسة خلال ثلاثة عشر عاما تقريبا؟ وهل غيرتني التجارب الهائلة التي عشتها خلال فترة رئاستي التي تزامنت مع إضطرابات عالمية كبرى؟

وعند محاولة الإجابة على هذا التساؤل إكتشفتُ شيئا مذهلا. رغم أنه من المتوقع أن تكون هذه التجربة الغنية قد أعطتني الكثير من الثقة بالنفس، فإن العكس هو الصحيح. في فترة رئاستي هذه أصبحت أقل ثقة في نفسي بصورة كبيرة، ومتواضع أكثر من ذي قبل. قد لا تصدقون ذلك، ولكن كل يوم يمر كنت أعاني من رهبة الجماهير، كل يوم أصبح أكثر خوفا أن لا أكون أهلا لعملي، أو أني سوف أشوه صورة الرئاسة. كل يوم تصبح كتابة خطبي أكثر صعوبة، وعندما أكتبها أكون خائفا جدا من تكرار نفسي. كنت خائفاً من الفشل الذريع في تحقيق التوقعات، ومن أن أكشف عدم وجود خبرة لدي للرئاسة،ومن أني ـ رغم نيتي الحسنة ـ سوف أرتكب أخطاء لا مثيل لها،ومن أن أصبح غير جدير بالثقة وبالتالي أفقد الحق في ممارسة الرئاسة. وبينما الرؤساء الآخرون يبتهجون في كل فرصة يقابلون بعضهم أو أشخاصاً آخرين مهمين أو يظهرون في التلفاز أو يلقون خطبا، فإن كل هذه الأمور تجعلني أكثر خوفا. في بعض الأحيان كنت أتفادى عمدا ذات الفرصة التي ينبغي أن أرحب بها بسبب الخوف غير المنطقي من أني سوف أُفسد هذه الفرصة وربما أضر القضية التي أسعى من أجلها. بإختصار، أصبحت متردداً أكثروأكثر حتى في أموري الشخصية. وكلما زاد عدد أعدائي، كلما أصبحت في صفهم أكثر داخل عقلي، وبذلك أصبحت أسوأ عدو لنفسي.

كيف يمكن أن أشرح هذا التغير، الذي كان غير محتمل، في شخصيتي؟ ربما أفكر في الجواب بعمق أكثر عندما لا أصبح رئيسا، وهذا سيحدث في فبراير 2003، عندما يكون عندي وقت بعد إنسحابي وإبتعادي عن السياسة والحياة العامة، وأصبح إنسانا حرا تماما مرة أخرى، عندها سأكتب شيئا غير الخطب السياسية. أما الآن، أسمحوا لي أن أقترح سببا من أسباب عديدة لهذا التغير في شخصيتي. عندما أتقدم في العمر وأصبح أكثر نضجا وأكتسب خبرة وفكرا أعمق، بدأت أفهم تدريجيا مقدار مسؤوليتي والإلتزامات الغريبة المصاحبة للعمل الذي قبلته. وكذلك فإن الوقت يقترب بدون رحمة من اللحظة التي لا يقوم فيها العالم والذين حولي وـ الأسوأ ـ ضميري بسؤالي عن أهدافي ومبادئي، وماذا أريد أن أحقق، وكيف أريد أن يتغير العالم، بل سيبدأون بسؤالي ماذا فعلت عمليّا، وأي من خططي حققت وماذا كانت النتائج، وماذا أريد أن يكون ميراثي السياسي، وما هي طبيعة العالم الذي سأتركه خلفي. وهكذا أجد نفس الإضطراب الروحي والفكري اللذين أجبراني على تحدي النظام الشمولي السابق ودخول السجن يتسببان في أن يكون عندي شكوك قوية في قيمة عملي الذاتي، أو إنجازات الأشخاص الذين عينتهم وجعلت نفوذهم ممكنا.

كنت عندما أستلم شهادات دكتواره فخرية في الماضي وأستمع إلى الخطب التي تمجدني في هذه المناسبات أضحك داخل نفسي على كوني في أكثر هذه المناسبات أصبحت مثل بطل قصة أسطورية، مثل شاب يضرب، بإسم الحق والخير، برأسه حائط قلعة يسكن فيها ملك شرير حتى يسقط الحائط ويصبح هو بدوره ملك عادل لسنوات طويلة. لست أستهين بهذه المناسبات، فأنا أقدّر جميع شهادات الدكتوراه الفخرية التي حصلت عليها وشعرت بتأثر شديد في كل مناسبة. ذكرت هذا التشبيه الطريف نوعا ما لهذه الأشياء لأني بدأت أفهم الآن كيف أن كل شيء كان فخا شيطانيا نصبه القدر لي. لقد نُقلت بين يوم وليلة إلى عالم الأساطير، ثم في السنوات التي تلت ذلك أُضطررت للعودة إلى الواقع وإلى فضيلة معرفة أن عالم الأساطير هو مجرد وهم إنساني وأن العالم ليس مشيدا على نمطها. وهكذا بدون أن أحاول أن أكون ملكاً أسطورياً، وبالرغم من أني وجدت نفسي مجبرا عمليا على منصبي من خلال مصادفة تاريخية كذلك، لم أمنح أية حصانة دبلوماسية من السقوط الموجع على أرض الواقع الصلب.. سقطت من عالم المتعة الثورية الأسطوري إلى عالم الرتابة «البيروقراطية» الواقعي. أرجو أن تفهموني جيدا: أنا لا أعني مطلقا أني خسرت المعركة، وأن كل شيء كان عقيما. على العكس، العالموالإنسانية والحضارة يمرون في أهم تقاطع في تاريخهم. لدينا فرصة أكبر من أي وقت مضى لفهم وضعنا وتناقضاتنا، وأخذ قرار في مصلحة العقل والسلام والعدل وليس لمصلحة تدمير أنفسنا. لكي نسير في طريق العقل والسلام والعدل نحتاج إلى الكثير من التأمل والمعرفة والعمل الشاق وإنكار الذات والصبر والإستعداد لمخاطرة سوء الفهم من الآخرين. وفي نفس الوقت نحتاج أن يعرف كل شخص طاقته ويعمل بمقتضاها، متوقعا أن قوته ستزيد أو تنقص بموجب المهام الجديدة التي وضعها لنفسه. بعبارة أخرى، لن يكون هناك إعتماد على الأساطير، ولن يكون هناك إعتماد على مصادفات التاريخ التي ترفع الشعراء إلى أماكن إمبراطوريات وجيوش سقطت وزالت. أصوات الشعراء التحذيرية ينبغي أن يُصغى إليها بعناية وجديّة.. ربما بجديّة أكبر من أصوات أصحاب البنوك وسماسرة الأسهم. ولكن في نفس الوقت، لا يجب أن نتوقع أن العالم عندما يحكمه الشعراء سوف يتحول إلى قصيدة. ورغم كل ما ذِكرته، فإن هناك شيئا واحدا أنا متأكد منه بدون ريب: بصرف النظر عن أدائي للدور الذي أُعطي لي، وبصرف النظر عن كوني أُريده في المقام الأول أو حتى أستحقه أم لا، وبصرف النظر عن النظر عن مقدار رضاي الشخصي، أنا أعتقد أن رئاستي كانت هبة رائعة من القدر. على الأقل، حصلت على فرصة لأساهم في أحداث تاريخية خلال متغيرات عالمية كبرى. وهذه الفرصة العظيمة كانت ـ بدون شك ـ تستحق كل الفِخَاخ المنصوبة بخفية داخلها.

و الآن، إسمحوا لي أن أحاول أن أبتعد عن نفسي وأقدم صياغة لثلاثة من يقين ياتي القديمة التي تأكدتُ منها خلال فترة رئاستي:

أولا: لكي تنجو الإنسانية وتتجنب كوارث جديدة، فإن النظام السياسي العالمي يجب أن يصاحبه إحترام صادق ومتبادل بين جميع الحضارات والثقافات والدول، وأن يصاحبه جهود صادقة من الجميع للبحث عن والعثور على المبادئ الأخلاقية الأساسية المشتركة، وبالتالي مزجها في قواعد عامة تحكم تعايشهم في هذا العالم الوثيق الإتصال.

ثانيا: يجب مواجهة الشر في مهده،ويجب إستعمال القوة إذا لم يكن هناك خيار آخر. وإذا كان لا بد من إستعمال الأسلحة المتطورة والمكلفة جدا، فيجب أن تستعمل بطريقة لا تضر بالسكان المدنيين، وإذا كان ذلك غير ممكن، فإن المليارات التي صرفت على هذه الأسلحة تكون قد ضاعت هدرا.

ثالثا: إذا فحصنا كل المشاكل التي تواجه العالم اليوم، سواء كانت إقتصادية أو إجتماعية أو بيئية أو حضارية فإننا سوف نواجه ـ شئنا أم أبينا ـ إشكالية تتعلق بالعمل الواجب إتخاذه، هل هو مناسب ومسؤول من وجهة النظر العالمية البعيدة المدى أم لا؟ للجواب على هذا السؤال لا بد من مراعاة المحاور الأساسية والعالمية التالية: النظام الأخلاقي، وحقوق الإنسان والضمير الإنساني والفكر المنبثق عن هذه المحاور والذي لا يمكن إخفاؤه خلف ستار من الكلمات المنمقة والنبيلة. أصدقائي الأعزاء: عندما أنظر حولي وأرى أشخاصاً كثيرين مشهورين يبدون كأنهم هبطوا من مكان ما في السماء العالية، لا أستطيع مقاومة الشعور أني في نهاية سقوطي الطويل من عالم قصة أسطورية إلى الواقع الصلب، أجد نفسي مرة أخرى داخل قصة أسطورية. ربما الفارق الوحيد هو أني أدرك هذا الشعور أكثر مما كنت أقدر عليه في ظروف مشابهة قبل ثلاثة عشر عاما.

* ترجمة: حمد عبد العزيز حمد العيسى / كاتب من السعودية [email protected]