الأدب لا يتقدم إلى الأمام بقدر ما يرجع إلى الوراء

مختارات من الشعر الفرنسي تذكرنا بأن الفن أكبر من العلم

TT

في آخر مقدمتها للكتاب تتحدث المؤلفة عن تشظّي الشعر في القرن العشرين، بل بدءاً من رامبو في إشراقاته. والسمة العامة التي تجمع شعراء الحداثة هي التخلي عن القافية، هذه «الجوهرة التافهة» كما كان يدعوها فيرلين، نقول ذلك على الرغم من أنه لم يتخل عنها قط.

ما الجامع بين الطابع الاستهزائي المبتور والعنيف لهنري ميشو، وبين سطوع الصوّان لقصائد رينيه شار التي تشبه جوامع الكلم؟، إنها كالجواهر المنحوتة من الصخر أو من الذهب المصفى.

ما الجامع بين الموجات الكبرى المتموجة وغير المنتظمة لبول كلوديل، وبين الإيقاع المهيب والاستشرافي النبوئيّ لسان جون بيرس؟، لا شيء سوى جوهر الشعر. لكن ما هو جوهر الشعر؟ من يستطيع أن يقبض عليه؟ كلما اقتربنا منه ازداد هروباً. حتى هيدغر عجز عن ذلك، على الرغم من محاولاته «البطولية» مع شعر هولدرلين. نقول ذلك ونحن نعلم أنه اقترب منه أكثر من غيره بكثير، بل وأصبح منه على مسافة قاب قوسين أو أدنى.

مهما يكن من أمر فإن قصيدة النثر، أصبحت تفرض نفسها على شعراء فرنسا، بدءاً من نهاية القرن التاسع عشر من دون أن يعني ذلك أنها الشكل الوحيد للشعر. فرامبو كتب قصائد موزونة، وكذلك ابولينير، ورينيه شار.. الخ، لكنها الشكل الأكثر حرية لتجسيد جوهر الشعر. فإذا ما استطعت أن تتوصل إلى «الشعرية» أو «الشاعرية»، بدون أوزان أو قواف، فهذا يعني أنك شاعر بالفعل! بهذا المعنى فإن ميشيل فوكو كان شاعراً عندما ألّف كتابه «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي». نقول ذلك على الرغم من أنه قال لاستاذه المشرف عندما قدمه كأطروحة في السوربون لنيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة، قال له وهو يرتجف: أين أبيع هذه الأطروحة ببيتين من شعر هولدرلين؟! فرد عليه الاستاذ الكبير: لكنك شاعر يا صديقي، لكنك شاعر.. 1500 صفحة يبيعها ببيتين فقط من شعر ذلك الشخص الذي جنَّنه الشعر.

عندما سألوا الكاتب الفرنسي «روجيه كايوا»، ما هو الشعر؟ أجاب: الشعر هو أن تعتقد بوجود علاقة بين هوميروس ومالارميه! وهو جواب ناجح وذكي جداً.

ولو سألت الناقد جان كوهين لأجابك: الشعر هو المجازات العبقرية، أي القدرة على خلق صور ومجازات لم يسمع بها أحد من قبل، وهي مجازات مستحيلة ومقنعة في آن معاً. إنه عبارة عن اكتشافات لغوية تحصل في غفلة من الزمان أو حتى ضد الزمان، الشعر بهذا المعنى هو عملية «اغتصاب» لصياغات لغوية عجز عنها سواك. على هذا النحو كان يفهم رامبو الشعر. انه مغامرة غير مضمونة العواقب، وقد تضحي بنفسك من دون أن تصل إلى أي شيء. إنه اقتحام للمجهول، وككل عملية اقتحام فقد تفشل وقد تنجح، لكن إذا ما نجحت خرجت بالجواهر التي قد يبلى الدهر ولا تبلى.. قصائد المتنبي لا تبلى، ولا كذلك إشراقات رامبو، أو فصل في الجحيم.

ما قرأت هذا المقطع من شعر رامبو إلا وشعرت بأني اتصلت بأزمان سحرية لا عمر لها، أزمان قديمة، سحيقة في القدم، ومع ذلك بهيجة وحزينة. ما قرأتها إلا وشعرت بأن نياط القلب تكاد تتقطع، لنستمع إليها في الترجمة العربية التي لم استطع أن أتوصل إلى أفضل منها:

«شبابْ عاطل لكل شيء مُسخَّرْ لياقةً ضيعتُ حياتي آه لو يرجع الزمن حيث تشتعلُ القلوبْ»! سمعت أخيراً أو قرأت في بعض الصحف، بأن كلود ليفي ستروس يقرأ الآن روايات بلزاك للمرة الأربعين! تعجبت واعتبرت الخبر أهم من قصيدة شعر. فهذا الرجل الذي يعتبر أكبر عالم انثربولوجيا في العصور الحديثة، هذا الرجل الذي اخترع نظرية مشهورة باسمه هي البنيوية، يشعر بأنه صغير أمام روايات بلزاك، ولا يكاد يشبع منها.

هل يعني ذلك ان الأدب أكبر من العلم؟ بدون شك، العلم يشيخ والأدب لا يشيخ. النظريات العلمية تتوالى وراء بعضها بعضا، وتلغي بعضها بعضا، لكن من يستطيع أن يلغي هوميروس أو شكسبير أو دوستويفسكي أو رسالة الغفران للمعري؟ من يستطيع أن يلغي «الكوميديا الالهية» لدانتي؟ الأدب لا يتقدم إلى الأمام بقدر ما يرجع إلى الوراء. أو قل إن اكتشافاته اللاحقة لا تلغي اكتشافاته السابقة، إنما تنضاف إليها في السماء المقمرة للفن. الأدب هو تلك الشهقة التي نطلقها قبل أن نموت لكي نترك أثراً يدل على مرورنا في هذا العالم.

لنستمع إلى هذه الأبيات الخطيرة جداً لشارل بودلير:

«ذلك انه فعلاً، يا ربّ، فإن افضل شهادة يمكن أن نقدمها عن كرامتنا هي تلك الشهقة التي تتدحرج من عصر إلى عصر والتي تجيء لكي تتلاشى على حافّة أبديّتك!» ما قرأت هذه الأبيات إلا وشعرت بأن جسمي يكاد يرتجف من الرعب، إنها من أعمق وأخطر ما قرأته من شعر. انها تلخص مسيرة البشرية منذ بدايتها وحتى يرث الله الارض ومن عليها. أجيال متلاحقة لا تعد ولا تحصى. أجيال أحبت وكرهت وعاشت ثم شهقت آخر شهقة، لكي تنصرف قبل أن تحل محلها أجيال جديدة.. وهكذا دواليك، فلا الشهقات تنتهي ولا خيط البشرية ينقطع.

من المعلوم ان بودلير اهدى ديوانه «أزهار الشر»، إلى أستاذه وصديقه تيوفيل غوتييه مبتدئاً بهذه الكلمات: «إلى الشاعر المطلق، إلى ساحر الكلمات والآداب»..

تقول سوزان جوليار: هذا الإهداء ينطبق على بودلير نفسه أكثر مما ينطبق على غوتييه، الذي كان من الحجم الصغير إذا ما قسناه بصاحب أزهار الشر. في الواقع ان بودلير كثيراً ما شبَّه الشاعر بالكيميائي أو الساحر الذي يستطيع تحويل العناصر الرديئة إلى ذهب.

فالشاعر هو شخص يجد الكلمات العادية أمامه مثله في ذلك مثل أي شخص آخر، لكنه يعرف كيف يتلاعب بها أو يستخدمها من خلال تركيبة معينة لا يقدر عليها الآخرون. وعن طريق هذه التركيبة الكيميائية شبه المعجزة، تنبثق الشحنة الشعرية.

أود أن أعود إلى الوراء قليلاً لكي أتوقف عند المرحلة الرومانطيقية، عند الفريد دو موسيه وجيرار دونيرفال. وقد أعجبني التعريف الذي افتتحت به المؤلفة الفصل المخصص لموسيه. يقول بما معناه: «الرومانطيقية هي النجمة التي تبكي، هي الريح التي تصفر، هي الليلة التي ترتعش، هي العصفور الذي ينطلق، هي الزهرة التي تفوح بالعطر. الرومانطيقية هي التدفق الفوار، النشوة الواهنة، الأمل القرمزي وحبه اللانهائي. انها الملاك واللؤلؤة، انها الرداء الأبيض لشجر الصفصاف. آه، يا للشيء الجميل! الرومانطيقية هي اللانهائيّ والمقمر، الحار، والمتطوع.. انها العلم الجديد!..».

ويبدو أن هذا التعريف ينطبق على شاعر الرومانطيقية بامتياز في اللغة الفرنسية الفريد دو موسيه. ومشهورة قصة غرامه مع الكاتبة جورج صاند التي ذهبت معه في رحلة رومانطيقية جداً إلى فينيسيا بإيطاليا، لكنها خانته هناك مع الطبيب الإيطالي، الذي جاء لكي يداويه بعد أن سقط مريضاً لبضعة أيام. وهكذا كان ينتظرها طول الليل لكي تعود من مواعيدها الغرامية في مطلع الفجر، وكانت الليالي المشهورة باسم «ليالي موسيه». وهي قصائد مطولة يتفجع فيها على حبه المغدور، لكن لنتوقف هنا عند قصيدة قصيرة مستقلة بعنوان «حزن».

* حزن I فقدت قوتي وحياتي وأصدقائي وبهجتي فقدت حتى مفخرتي التي كانت توهم الآخرين بعبقريتي

*** II عندما تعرفت على الحقيقة اعتقدت انها صديقة ولكن عندما فهمتها جيداً تقززت منها

*** III ومع ذلك، فهي أبدية، الحقيقة وكل أولئك الذين تخلوا عنها لم يفهموا شيئاً على هذه الأرض

*** أما جيرار دونيرفال فهو أكثر أهمية من موسيه، ولا يمكن حصره بالمرحلة الرومانطيقية بالمعنى الضيق للكلمة. جيرار كان يفتح الأبواب الكتيمة التي تفصل عالمنا هذا عن عالم آخر يقف فوقه أو وراءه. جيرار هو صاحب التجربة الصوفية الأكثر عمقاً وصفاء في الشعر الفرنسي. والواقع انه كان يعيش على حافة العالم الآخر باستمرار، ثم سرعان ما التحق به عندما قرر أن يضع حداً لحياته. فالعالم الآخر كان يناديه، وأمه التي ماتت وهو رضيع كانت تناديه من خلف الستار. كانت تقول له: أنا هنا يا جيرار، إني انتظرك.. وسوف ترى وجهي لأول مرة! جيرار دونيرفال ما كان يشك البتة بوجود عالم آخر مليء بالملائكة بقدر ما هذا العالم مليء بالشياطين!.. لذلك قرر اختصار حياته والالتحاق بالسماء الزرقاء والأفق اللازوردي.

لا صباح الخير ولا مساء الخير تنويع على لحن إغريقي الصباح لم يعد! والمساء لم يخيّم بعد! ومع ذلك فإن النور في عيوننا شَحَبْ

*** لكن المساء القرمزي يشبه الفجر والليلة في ما بعد ستجيء بالنسيان! أما أبولينير فلا يمكن الاستهانة به، فهو من كبار شعراء فرنسا في الفترة القصيرة الفاصلة بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين. وعلى الرغم من أنه لم يعش أكثر من ثمانية وثلاثين عاماً، إلا انه ترك بصماته على الشعر الفرنسي، لنستمع إلى هذه الأبيات:

* الوداع الأخير

* قطفت هذا الغصن من زهر البنفسج الخريف مات، هل تتذكرين؟

سوف لن نرى بعضنا بعد اليوم على سطح الأرض آه يا عطر الزمن من عطر البنفسج وتذكري أني انتظرك!