البرابرة صنعوا ثقافة الخوف الشمولية

TT

«في انتظار البرابرة» قصيدة شهيرة وربما الأشهر لكفافي الشاعر اليوناني/المصري المولد. القصيدة محمولة على رؤية شعرية عن سؤال الآخر (البربري، بمعناه الإغريقي، أي الآخر) الغير، من هو ليس بإغريقي، من هو ليس بروماني، ومن هو ليس ابيض، وهكذا.. فالبرابرة اختراع ثقافة الإمبراطوريات الشمولية. ثقافة قلعة الكولونيالية في المستعمرات النائية المعزولة. ثقافة صناعة الخوف ممن هم خارج الأسوار، شيطنتهم، وتجريدهم من معنى وجودهم لتصويرهم فقط كخطر ماثل وتهديد مسلط، لكي تظل الأسوار عالية وتعلو، وتجد الكراهية ما تتطهر به، والعنصرية ما تتذرع به، وتكون القسوة الوحشية ضرورة وجودية مبررة. بينما قد لا يكون ثمة برابرة في الواقع خارج الأسوار. رؤية كفافي الشعرية تحفر عميقا في ما بعد الكولونيالية. الرؤية نفسها مؤسسة روائيا في «قلب الظلام» رواية جوزيف كونراد الرائعة. وليس بغير صلة إن يوصي إدوارد سعيد (ابرز منظري ما بعد الكولونيالية) ابنته نجلاء ان تقرأ على نعشه قصيدة كفافي «في انتظار البرابرة». تلك القصيدة/ الرؤية تظهر لنا متشكلة من مادة تاريخية حية في رواية جون كويتزي الكاتب الجنوب أفريقي، الفائز لتوه بجائزة نوبل للأدب، وهو من سلالة كتاب ما بعد الكولونيالية العظام. فالرواية تتخذ من عنوان قصيدة كفافي عنوانا لها. أما القلعة فهي مستعمرة إمبراطورية (افتراضية) على تخوم جنوب افريقيا.

تحكي الرواية حكاية قاضي المستعمرة الذي كان شاهدا على الأفعال الوحشية للكولونيل جول ضد «البرابرة»، والذي ترسمه الرواية كشخصية مصممة على البحث عن أعداء للإمبراطورية في الأراضي المهجورة التي تحيط بأسوار المستعمرة. انه مصاب بداء العظمة الإمبراطورية، بغطرستها، بنزعتها إلى إثبات وجود أعداء، لو بافتعالهم واختلاقهم، لتبرير عدوانيته وحقها في التفوق على من ليس من جنسها. ولأنه لم يكن للمستعمرة الإمبراطورية من أعداء «برابرة» موضوعيين (فعليين) عدا ما ترسمه مخيلة الكولونيل الذهانية، نجده يختلق أعداء، إذ يقبض على أعداد كبيرة من «البرابرة» المشردين في شوارع المستعمرة ويودعهم السجون بحسبانهم يشكلون خطرا على أمن سكان المستعمرة. فيجري استجوابهم وتعذيبهم على أساس انهم أعداء فعليون! يقف القاضي في مواجهة الكولونيل رافضا أفعاله، لكن لا يبدو للقارئ ان رفضه ناجم عن موقف سياسي أو أخلاقي واضح، إنما هو يتصل بعلاقته بفتاة «بربرية» كانت ضمن السجناء وعندما أطلق سراحها خرجت إلى الشوارع مصابة بالعمى وشلل في القدمين مؤقتين، بسبب التعذيب الوحشي الذي تعرضت له على يد الكولونيل.

صادق القاضي الفتاة وهو يكبرها سنا، دعاها إلى بيته لتنام عنده، فربطتهما علاقة حميمة لم تكن على أساس جنسي، وإنما لحاجة عاطفية مشتركة، فهما يتشاطران في طقس تطهيري مزدوج، حيث يرغب القاضي في جسد الفتاة كموضوع للتطهر من ذاكرة الجرائم الوحشية المرتكبة على يد الكولونيل جول. والفتاة/ الضحية تبحث الأمن في العدالة. وبعدما عاد البصر إليها وأصبحت قادرة بعض الشيء على استعمال قدميها، قرر القاضي أن يعيدها إلى قومها. فمضى بها في رحلة طويلة استغرقت أسابيع حتى أوصلها إلى مضارب أهلها. لكنه عندما عاد وجد نفسه سجين الكولونيل بتهمة الخيانة العظمى، كونه اتصل بـ«البرابرة».

رواية «في انتظار البرابرة» ينظمها تحت سطح حكايتها، في أعماق النص وتضاعيف شعابه، خيط خفي من حنو شاعري مشبع بالحب والغفران في لغة متخففة تماما من السيولة الغنائية مقابل كثافة القسوة المهيمنة على النص. قسوة ما بعد التعذيب العضوي، انها قسوة «قلب الظلام» في قلب الروح البشري الفاسد، فيكون الخيار الإنساني (التراجيدي ربما) أن يرفض كما رفض القاضي أن يُسلم بإنه اقترف إثما لأنه اتصل بـ«الآخر/ الغير» ليتشاطر معه (معها) الحب، ذلك المشترك الإنساني فوق التاريخي/ الثقافي/ الديني... ولا بطولة هنا،عندما يمتحن خياره بالسجن والتعذيب والإهانة، أنه يضحي من أجل ما يؤمن به هو، من دون أن يلعب دور «المخلِّص»!