صورة العالم العربي عند المثقف الروسي

الباحث العراقي ميثم الجنابي: التواصل الثقافي بين السعودية وروسيا حلقة ناجحة في إحياء الاهتمام الروسي بالثقافة العربية

TT

أعادت زيارة ولي العهد السعودي الامير عبد الله بن عبد العزيز، الى العاصمة الروسية موسكو أخيراً والوفد الكبير الذي رافقه وفيه مجموعة من المثقفين السعوديين الاهتمام من جديد بالدور الروسي في المنطقة العربية، وكذلك فتحت الزيارة انظار المثقفين السعوديين والروس على القواسم المشتركة على الصعيدين الثقافي والحضاري. وقد أدى غياب التواصل بين المثقفين العرب والروس بعد انهيار الاتحاد السوفياتي الى احداث فجوة عميقة في الاهتمام الروسي بقضايا العالم العربي والثقافة العربية تحديداً، وهو الاهتمام الذي عبرت عنه ظاهرة الاستشراق الروسي المبكر في العالم العربي وانعكاس الثقافة العربية في صلب أعمال المثقفين الروس.

نحاور هنا احد الباحثين العرب في الحقل الثقافي الروسي وهو الدكتور ميثم الجنابي المقيم في روسيا منذ أكثر من ثلاثين عاماً وأحد المشتغلين في الحقل الفلسفي، وقد ولد في العراق، وانتقل منها لما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي، وأنهى دراسته الجامعية ثم حصل على شهادتي دكتوراه وعلى لقب بروفيسور في العلوم الفلسفية الاسلامية. وأصدر العديد من الدراسات والأبحاث التي تناولت الشأن الفلسفي.

* ما هي صورة العالم العربي لدى المثقف الروسي؟

ـ من الصعب تقديم اجابة قاطعة عن «صورة ما» ثابتة ومحددة المعالم عن العالم العربي لدى المثقف الروسي، وذلك لاعتبارات عديدة منها الطابع المتغير لهذه الصورة، وكذلك تباينها عن مختلف أقطار العالم العربي. وفي الاطار العام يمكن وصفها بالصورة النمطية. فقد كانت لزمن قريب تندرج ضمن اطار «الأصدقاء» و«الحلفاء». وهي صورة ما زالت سائدة بين أوساط المثقفين ذوي الميول اليسارية والوطنية والقومية، بينما تتسم بالحياد والعداء في حالات نادرة، رغم الدعاية اليهودية الصهيونية المسعورة والمسيطرة في روسيا. الا أن التغيير النسبي الذي طرأ عليها والذي يمكن أن يتغير مع مرور الزمن نحو الأسوأ يتوقف على «النشاط العربي» الذي عادة ما يتسم إما بعدم المبالاة بأوضاع روسيا أو بالاثارة والشكوك والعداء السافر لها خصوصا في الصحافة المرئية والمكتوبة. ولعل هذا «النشاط»، الذي يمتلك تاريخا عريقا في الكثير من دول العالم العربي، هو أحد الأسباب الأكثر اثارة للارتياب والشك والبغض بالنسبة للمثقف والرجل العادي أيضا.

* الى أي حد تضررت هذه الصورة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر؟

ـ لم تتأثر كثيرا! والقضية هنا ليست فقط في أن الروس يشعرون في قرارة أعماقهم بنوع من الارتياب والشك والضغينة تجاه الولايات المتحدة ودورها «التاريخي» في الصراع ضد الاتحاد السوفياتي و(روسيا)، بل ولكثرة المشاكل والمصاعب والمصائب التي عادة ما تنهك الاحساس والمشاعر والرؤية وتكبلها بقيود الارتماء المباشر وغير المباشر في أحضان الهموم اليومية. حقيقة أن ذلك لا يعني عدم تحسس الروسي لقضايا الآخرين. على العكس قد يكون الروس من بين اكثر الشعوب «حماسة» للتفاعل مع الأحداث، الا أنها عادة ما تقف عند هذا الحد. وهو ما حدث بالفعل بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. لقد تضررت صورة العربي بالأحداث المتعلقة بالشيشان مئات المرات اكثر مما تضررت بأحداث الحادي عشر من سبتمبر. وليس مصادفة أن تربط الدعاية اليهودية الصهيونية بين الاثنين وبين ما يجري في فلسطين المحتلة بصورة دائمة. وهو ربط مؤثر وفاعل في الوعي الاجتماعي والجماهيري منه بالأخص.

* أين هي اذن .. كوامن الخلل في التواصل بين العالم العربي والروس؟

ـ ان الأسباب القائمة وراء الخلل الفعلي في العلاقة بين روسيا والعالم العربي متعددة المستويات والجهات وتخص الطرفين بأقدار متساوية. ومن الصعب التطرق الى تاريخها في هذا اللقاء. وفيما لو تجاهلنا التاريخ السابق وتناولنا واقع العلاقة الحالية بعد انحلال الاتحاد السوفياتي وظهور «روسيا المستقلة»، فان العالم العربي لم يع بصورة موضوعية ودقيقة طبيعة التغيرات النوعية التي طرأت على روسيا في كافة الميادين. وترافق ذلك مع ما يمكن دعوته بانعدام الفعل. ونحن نعرف جيدا بان انعدام الفعل هو فعل أيضا. وترتب على ذلك غياب أية رؤية واضحة واستراتيجية محددة من جانب «العالم العربي» تجاه روسيا في مختلف الميادين والاقتصادية منها بالأخص. وفي هذين الجانبين يكمن سر الخلل من جانب العالم العربي تجاه روسيا.

* هل ترون أن الاستشراق الروسي وهو من أقدم أشكال الاستشراق عن العالم العربي رسم صورة نمطية للحضارة العربية والى أي حد يمكن الخروج من هذه الصورة؟

ـ يتميز الاستشراق الروسي بتاريخ عريق وخاص من حيث علاقته بالعالم العربي وبالعالم الاسلامي بشكل خاص. اذ يمتلك تراثا هائلا وغنياً بهذا الصدد. ومن غير الصحيح اتهامه بالنمطية فيما يتعلق بالموقف من الحضارة العربية. واذا كان من الممكن استعمال كلمة النمطية هنا فهي بالمعنى الايجابي فقط. بمعنى أن الاستشراق الروسي يتسم بسمات المدافع والمحب والمخلص أيضا لابداع الحضارة العربية الاسلامية. وهو أمر يمكنني البرهنة عليه على ابداع المئات من المستشرقين والمستعربين الروس. كما انه ليس بامكان أي باحث متخصص ومحترف يمكن أن يؤكد العكس! طبعا ان الاستشراق الروسي لا يخلو، وبالأخص في المرحلة السوفياتية، من صورة نمطية. وهي لا تخص العالم العربي والاسلامي بقدر ما أنها كانت مبنية على مواقف أيديولوجية صرف تجاه «الدين» والمراحل التاريخية السابقة. وهو أمر يميز الاستشراق الحالي أيضا رغم ضعف امكانياته الحالية. ان الصورة النمطية السيئة هي من نصيب الصحافة والمراكز اليهودية الصهيونية التي حاولت أن تشتري «فقراء» المستشرقين والمستعربين، بينما لم تفعل أي من الدول العربية على تقديم أدنى مساعدة جدية بهذا الصدد تخدم استمرار التاريخ والمواقف العلمية للاستشراق الروسي الرصين. وفي موقفي هذا يمكن رؤية البديل.

* كيف ترون مستقبل التواصل العربي مع الروس؟

ـ الاجابة عن هذا السؤال تتوقف على طبيعة الأفعال المشتركة. ان التواصل ضروري ومهم للغاية بين روسيا والعالم العربي في مختلف الميادين وعلى كافة المستويات. غير أن فاعلية وقيمة هذا التواصل تتوقفان على ما اذا كان محكوما برؤية استراتيجية وبعيدة المدى. بعبارة أخرى، من غير السليم بناء العلاقة بروسيا على أسس المصالح العابرة والمصالح السياسية الضيقة والحالات الطارئة وما شابه ذلك. ان روسيا قارة كبرى وحضارة عظمى وتاريخ عريق وأصالة مثيرة. وهي في الأغلب مجهولة للغالبية العظمى من مثقفي العالم العربي دع عنك جمهور العوام.

* ما هي الأسس التي يقوم عليها مثل هذا الحوار؟

ـ ان «الحوار» بين روسيا والعالم العربي يتصف بالقدم والتميز أيضا، وبالأخص الحوار السياسي والعسكري والاقتصادي. وبدرجة اقل الثقافي. وهي قضية مرتبطة بطبيعة الأنظمة السياسية في كلا الجانبين التي لم تشجع الاتصال المباشر والتأثير المتبادل بين شعوبها لفترة طويلة من الزمن. بينما اختلفت الحالة الآن. من هنا فانه من الضروري العمل على وضع أسس جديدة للحوار تأخذ بنظر الاعتبار طبيعة التغيرات السياسية والفكرية والثقافية التي طرأت على العالم ككل وفي روسيا بالأخص. ومن خلالها السعي لرسم رؤية استراتيجية للحوار مهمتها تمتين العلاقات على كافة المستويات من اجل تفعيل الحوار بما يخدم المصالح الجوهرية المتبادلة. بعبارة أخرى ينبغي في البدء تحديد ملامح العلاقة الضرورية بين العالم العربي أو هذه الدولة العربية أو تلك وبين روسيا وبعد ذلك القيام بمسح فعلي لامكانياتها. وعليها فقط يمكن وضع أسس الحوار الجديد.

* ماذا يستطيع العرب أن يقدموه في تواصلهم مع الروس؟ وماذا ينبغي أن يتخلوا عنه؟

ـ ان «التواصل» هنا يفترض أولا وقبل كل شيء البدء في العمل! فالتواصل يفترض وجود علاقة منظمة، بينما لا تتسم العلاقة بين العالم العربي وروسيا بطابع منظومي. إن المهمة كما أراها لا تقوم في أن نعطي أو نتخلى، بل في رسم صورة عما نريده وما نقدر على القيام به. ان هذا مرتبط بما سميته قبل قليل ضرورة وضع رؤية استراتيجية عن العلاقة بروسيا، أو على الأقل رؤية تتسم بالواقعية والعقلانية. وقد تكون الأولوية فيها الآن للعلاقات الاقتصادية والتبادل التجاري وعدم التدخل في شؤون روسيا الداخلية والعمل من اجل صيانة وحدة الأراضي الروسية والعمل المباشر وغير المباشر من اجل ذلك.

* كيف هي الصورة السعودية تحديداً؟

ـ مع أن المملكة العربية السعودية اكثر من قدم مساعدات وقروضاً لروسيا من بين دول العالم العربي، الا أن صورتها تأثرت سلبياً للغاية! وهي مفارقة يمكن رؤية جذورها المثيرة وأعصابها المستفزة في «القضية الشيشانية». طبعا أن القضية اكثر تعقيدا من ذلك، الا أن بواعثها الظاهرية عادة ما كانت ترتبط «بالعامل الاسلامي» وتأثيره في الحياة السياسية في روسيا بشكل عام وفي منطقة القوقاز بشكل خاص. وهي ظاهرة ما زالت مغروسة في الوعي السياسي الروسي عن الدور الذي كانت تلعبه في علاقتها بالولايات المتحدة وأفغانستان وغيرها من القضايا. وهو تاريخ لا يخلو من اشكاليات. والمهمة تقوم بالنسبة للمملكة العربية السعودية ليس فقط في اعادة النظر الجدية بهذه الجوانب انطلاقا من رؤية عقلانية وواقعية تأخذ بنظر الاعتبار جملة المتغيرات التي حدثت بعد 11 سبتمبر، بل وبصياغة بديل منظومي قادر على تفعيل هذه الرؤية أولا وقبل كل شيء داخليا. فهو الأسلوب الأمثل لاستثمار العلاقات الخارجية أيضا بما في ذلك تجاه روسيا.

* الى أي حد نجحت زيارة الأمير عبد الله والوفد الكبير الذي رافقه والنشاط الثقافي المصاحب في التواصل مع الروس؟

ـ لقد كان للزيارة صدى كبير من الناحية السياسية والدعائية. وبهذا المعنى يمكن اعتبارها نجاحا كبيرا بالنسبة للعلاقة بين الطرفين. الا أن فاعليتها «التاريخية» تتوقف على مدى جعلها حلقة في سلسلة تتكون من حلقات متواصلة للعمل المشترك في كافة الميادين. وقد وضعت اللبنات الأولى. والمهمة الآن تقوم بترسيخ وتوسيع مدى هذه الحلقات. ومن المناسب هنا الاشارة هنا الى الدور الذي لعبه الوفد الثقافي، الذي ضم لفيفاً من الأساتذة الأفاضل مثل الاخوان فيصل بن معمر وعبد الله العبيد وعبد الرحمن الأنصاري وأبي بكر باقادر والبازعي والخثلان وسليمان الجار الله وزياد الدريس، الذين ساهموا بجدية في الحوار السعودي - الروسي في مختلف الندوات والمهرجانات. وهي حالة فريدة والأولى من نوعها كما اعلم . وقد كان الانطباع عن الوفد الثقافي جيدا للغاية. =