صقر أبو فخر يريد فلسطين المستقبل على شاكلة مقبرة شهدائها

TT

الجهد التأريخي العربي العلمي ما يزال متواضعاً، وإلا فكيف تفتقر المكتبة العربية، لغاية اليوم، إلى مرجع «كرونولوجي» يسرد بدقة الوقائع الفلسطينية بحسب التواريخ الصحيحة لوقوعها. وكيف للبحاثة العرب ان يعملوا بأمان، على واحد من المواضيع المحورية التي تشغل الأمة وتستنزفها، من دون وجود جدول واضح ومفصل يبيّن تتابع الأحداث وتسلسلها. بالطبع، لا يمكن لقارئ يرى فيض المؤلفات والمقالات عن فلسطين ان يخطر له وجود هذا النقص الفادح، لكن الباحث صقر أبو فخر في كتابه الجديد «الحركة الوطنية الفلسطينية من النضال المسلح إلى دولة منزوعة السلاح» الصادر مؤخراً عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» يؤكد أنه أمضى خمس سنوات نبشاً في المصادر والمراجع، كي يتمكن من سد الثغرة وإنجاز ما يسميه «مسرداً حدثياً زمنياً وافيا» بالإمكان الوثوق به. ومما يذكره المؤلّف ان الكتب تذكر تواريخ متضاربة للحدث الواحد، ولا يستثني من نقده «الموسوعة الفلسطينية» التي وجدها مملوءة بالأخطاء. وكتاب أبو فخر الجديد مهم لأكثر من سبب، إذ ان الجدول الكرونولوجي هو مجرد جزء صغير من مؤلّف يحاول عبر فصوله الستة ان يشرح بعلمية ووضوح حيثيات القضية الفلسطينية منذ بناء المستعمرة الأولى «ريشون لتسيون» في قرية عيون قارة عام 1882 إلى اليوم. وما يلفت نظر القارئ المتتبع للأحداث هو بطء ردود الفعل الفلسطينية والعربية، عموماً، على المشروع الصهيوني الذي بدا منظماً ومحبوك الخطط منذ نهاية القرن التاسع عشر، ويتجلى ذلك من خلال تأسيس المنظمات اليهودية والأحزاب والمعاهد والمستعمرات في فلسطين، بحيث وصل عددها إلى 47 مستعمرة عام 1914، فيما كان بعض العرب ينظر إلى هذه التطورات الخطيرة على انها قد تكون مفيدة للاقتصاد الفلسطيني، ولم تصبح الأمور جلية تماماً إلا مع وعد بلفور، حين وقع الفأس بالرأس عام 1917. مع العلم بأن العديد من الكتّاب كانوا قد لفتوا، ومنذ عام 1905 إلى خطر الهجرة اليهودية باتجاه فلسطين، ومن بين هؤلاء نجيب عازوري ونجيب نصار وسليمان التاجي الفاروقي ومحمد روحي الخالدي. وكذلك حذرت صحف بيروتية ودمشقية من النشاط الصهيوني المتزايد ومن بيع الأراضي للمستوطنين. وهنا يلفت الكتاب ـ ربما رداً على الذين يتهمون الفلسطينيين ببيع أرضهم ـ إلى ان «تسعة أعشار الأراضي التي اشتراها اليهود حتى عام 1929 جاءت من مالكين غير فلسطينيين»، وهم في غالبيتهم من السوريين واللبنانيين الذين يذكر عائلاتهم بالاسم. صقر أبو فخر يعي تماماً وهو يكتب الرواية الفلسطينية، انه يسجّل تجربة استثنائية في التاريخ، لشعب استثنائي في ظروفه ومحنته وآلامه وقدره: «جميع شعوب الأرض تعيش في مكان محدد إلا الفلسطينيون، فالمكان يعيش فيهم». وبناء عليه فإن مكان الرواية هو دنيا الشتات، وأبطالها يتنقلون في البلدان. وما بين العروبة والوطنية يدخل الفلسطينيون في تيه كبير. فبعد خروجهم من أرضهم عام 1948 بدل تأسيس أحزاب فلسطينية أو هيئات تجمعهم راحوا ينضوون تحت لواء أحزاب عروبية في البلدان التي ذهبوا إليها، أو يسعون لتأسيس أحزاب ذات طابع جامع على غرار «حركة القوميين العرب» إيماناً منهم بأن روح التضامن العروبي ستعيدهم إلى فلسطين، لكن الوقائع كانت تثبت عكس ذلك. وبلغ يأس الفلسطينيين من العرب مبلغه مع انهيار الوحدة السورية ـ المصرية ومن ثم الخيبة من الأحزاب الإسلامية التي انتمى إليها فلسطينيون كثر. فالبعض انخرط في جماعة الإخوان المسلمين، لكن هذا الحزب كان غير مشغول بمسألة الجهاد، واعتقد أتباعه بأولوية انتزاع السلطة وإعلان الخلافة في قطر عربي واحد على الأقل قبل إعلان الحرب على العدو، تحت سلطة وراية أمير المؤمنين. ومن منتصف الخمسينات بدأ الفلسطينيون العمل بمبدأ «ما حك جلدك مثل ظفرك»، وفي اليوم الأول من عام1965 كان الإعلان عن أول عملية فدائية في فلسطين قامت بها قوات «العاصفة»، وهو التاريخ الذي يؤرخ به لبداية العمل الفلسطيني المسلح ضد إسرائيل. ومن دون الدخول في تفاصيل تأسيس وعمل وأهداف التنظيمات الفلسطينية التي يؤرخ لها الكتاب، فقد كانت أشبه بالدرجات التي لا بد من صعودها لبلوغ مرحلة من النضج والوعي الوطنيين. ولعل واحداً من أجمل فصول الكتاب هو ذاك المعنون «الحركة الإسلامية في فلسطين من القعود إلى القيام»، الذي يشير من خلاله الكاتب إلى ان عدداً من مؤسسي حركة «فتح» مثل صلاح خلف (أبو إياد) ومحمد يوسف النجار وكمال عدوان وعبد الفتاح حمود وسليم الزعنون، جاءوا جميعهم من حركة الإخوان المسلمين، أما ياسر عرفات فقد كان احد المقربين من الحركة. لكن هؤلاء خيبهم تقاعس الحركة عن الانخراط في النضال الوطني، فتركوها وراحوا ليؤسسوا مجموعاتهم القتالية. ويؤكد أبو فخر ان الحالة الفلسطينية كانت تحول باستمرار دون قيام حركات إسلامية قوية ذات طابع ديني، إذ ان هذه الحركات، عربياً، كانت تضع من بين أهدافها الأولى الاستيلاء على السلطة، بينما لم تكن ثمة سلطة في فلسطين للاستيلاء عليها. وهموم الفلسطينيين كانت دائماً، وبسبب أوضاعهم الخاصة، وطنية، وزعاماتهم قبلية وعشائرية . ولذلك لم يكن غريباً ان نعثر بين مقاتلي الشيخ عز الدين القسام، مثلاً على قبطي مسيحي يدعى حنا شنودة. وحتى الذين التحقوا بحركة الإخوان لم يجدوا ضالتهم مع جماعة تتخلف عن العمل الوطني بحجة أولوية أسلمة المجتمع. ولكن ما حدث هو انه في غمرة انهماك الحركة الوطنية الفلسطينية بالعمل التعبوي العسكري منذ هزيمة 1967 كانت الحركات الإسلامية تركز اهتمامها على الخدمات الاجتماعية والمدارس والجمعيات، مما أعطاها زخماً شعبياً.

وإذا أضفنا إلى ذلك صعود اليمين المتطرف في إسرائيل، وتصاعد دور الإخوان في مصر أثناء رئاسة أنور السادات، دفعت كلها حركة الإخوان المسلمين في فلسطين إلى الانتقال من «المرحلة المكية» أو الدعوة والتهيئة إلى «المرحلة المدنية» التي تسبق الفتح. وواحد من دوافع الإخوان الإضافية لتأسيس ما يعرف اليوم بحركة «حماس» والخوض في الكفاح المسلح والعمليات الاستشهادية، هو ولادة حركة الجهاد الإسلامي لمؤسسها فتحي الشقاقي الذي كان فلسطينياً ناصري الهوى، لكنه سرعان ما شعر بالقلق وضرورة التحرك بطريقة مختلفة بعد هزيمة 1967. وفي عام 1980 تألفت النواة الأولى للحركة لتضم قوميين سابقين وناصريين تائبين. وقد خطط هؤلاء لعمليات استخدموا فيها السكاكين والأسلحة البسيطة والفتاكة.

وبنتيجة ازدياد نفوذ الحركات الإسلامية لأول مرة في تاريخ فلسطين الحديث، فإن مشروع الدستور الفلسطيني الذي أعلن عام 2003 ينص على ان «الإسلام هو الدين الرسمي للدولة ومبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع»، ويعتبر مؤلف الكتاب ان هذه العبارة تشكل انقلاباً مدوياً على التاريخ المتألق للحركة الوطنية الفلسطينية وتوجهاتها الديمقراطية والعلمانية التي لازمتها، وتراجعاً عن خطاب ياسر عرفات في الأمم المتحدة في 13 نوفمبر عام 1974، وكذلك تتعارض مع ما عرضته حركة «فتح» في بيانها المشهور على الأمم المتحدة عام 1968.

ويتساءل صقر أبو فخر: لماذا تصبح هذه الأرض، التي عاشت فيها الديانات ومختلف الأقليات من سامريين وأحمديين وبهائيين ودروز، دولة لا يتساوى فيها المواطنون أمام القانون بسبب انتماءاتهم؟ أليست فلسطين بلد المسيح والمسيحية معاً! ويعلق الكاتب قائلاً: «في المقابر الطائفية، لا يدفن ميت من هذه الجماعة إلى جانب ميت من الجماعة الأخرى. لكن في مقبرة شهداء فلسطين عند مستديرة شاتيلا في بيروت يرقد كمال خير بك العلوي، وكمال ناصر المسيحي، وغسان كنفاني المسلم، ومعهم المفتي الحاج أمين الحسيني بالطبع. هؤلاء استشهدوا في سبيل فلسطين العلمانية التي يجد فيها الشعب الفلسطيني حريته فعلاً. وللأسف فإن البعض يصر اليوم على رسم صورة لفلسطين المستقبل أدنى بكثير من صورة مقبرة شهدائها. وليس غريباً هذا الأمر، فللهزائم والانكسارات شأن في هذا التردي».