كتب أعود إليها

نجوى شعبان: «الهروب من الحرية» لإريك فروم دلني على خبيئة التاريخ

TT

قبل هذا الكتاب، «الهروب من الحرية»، كانت قراءاتي تتخذ شكل المتاهة، ثمة طريق واحد للخروج، لكن كان يجدر بي أن اكون حاذقة أكثر. استسلمت لكسل الاستمتاع بالقراءة، فملحمة «الحرافيش» لنجيب محفوظ تجوب بي ـ لدى انتهائي من قراءتها في كل مرة ـ في فضاءات النشوة الصوفية، كتلك التي اتخيلها في التكية، ذلك المكان الغامض المكتنز بالمعرفة، معرفة المجاهدة والوصال. الى جانب إحساس حدسي من جانبي لدى قراءة فرويد أن نظرياته مثل عتبة مليئة بالفخاخ، ثمة تسرع ما، وانحياز واضح ضد المرأة والحضارة مستعينا ومعززا المأثور التوراتي وقد دثره بغلالات كثيفة. لاحظت أن صديقي وأبي الروحي الكاتب الراحل مصطفى طيبة قد اشار غير مرة في مقالاته الى مقتبسات من نصوص عالم النفس الشهير ايريك فروم، وعلمت منه ان هذا الرجل ذو نزعة إنسانية رفيعة، بحثت عن كتب مترجمة له، غير ان ما وقع في يدي لم يشعرني بالراحة، كانت الترجمة بها بعض مشاكل، وكان لا بد ان أحصل على كتبه باللغة الانجليزية، التي أعتقد ان فروم ـ الألماني ـ كتب غالبية اعماله بها بعد ان هاجر إلى الولايات المتحدة. ووجدت كتبه بمكتبة الجامعة الاميركية بالقاهرة، وكان أول كتاب قرأته هو «الهروب من الحرية» الصادر عام 1934 متتبعا الإنسان الاوروبي في العصور الوسطى ومد وعيه بالحرية التي يتنازل عنها طواعية لصالح الكنيسة أو جماعة قريته، ثم يحدد فروم نوع الشخصية الإنسانية بمدى قربها أو ابتعادها عن ممارسة «حريتها». وقد نشر هذا الكتاب بعد ذلك في طبعة شعبية مختصرة بعنوان «الخوف من الحرية». حقيقة بهرتني طريقته ومنهجه واضافته لعلم النفس، واذا كان يونج اضاف جزئية اللاوعي الجمعي، فقد اضاف فروم دور المجتمع في تشكيل الشخصية، وهو دور رئيسي.

على مدى العام ونصف العام قرأت انجازات ايريك فروم التي طالت نحو نصف قرن، فمن كتاب: «الرموز والاحلام، فن المحبة، المجتمع السوي، مهمة فرويد، الدين والتحليل النفسي وعن البوذية» وغيرها، حتى نصل الى كتاب «أن تملك أو أن تكون». في هذه القراءات تتبعت النمو والنضج النفسي والروحي لفروم، ففي بداياته كان متشككا في الدين وانتهت به تأملاته وممارسته للطب والتحليل النفسي الى ان الصحة النفسية قرينة بأن يكون للمرء ايمان، ايمان ما. محاولة استيعاب آراء فروم على نحو افضل، كان لا بد لي من أن اعرف الكثير عن اساطير الشعوب، ومقارنة الاديان، والفلكلور والانتروبولوجية والفلسفة، وايضا الفن التشكيلي.

تنبهت انني اجد اجابات واشباعا بقراءة روايات تعد تاريخية، كثلاثية «غرناطة» لرضوى عاشور، أو «تاريخ حصار لشبونة» لخوسيه ساراماجو وروايات أمين معلوف، يمكن لرواية من هذا النوع ان تقدم قراءة مغايرة للتاريخ دون اللجوء للتسجيلية التي تدفع السرد عادة الى السكون فالموت. قدوتي ايضا هي توني موريسون الحائزة جائزة نوبل في الادب عام 1993، هذه الكاتبة مشغولة بالكتابة عن قومها منذ جاءوا كعبيد مختطفين الى السواحل الاميركية، وتتناول مسائل جوهرية تماما للسود الاميركيين، وهي في هذا كله تقدمه بشكل فني راق وممتع ومركب دون استخدام وثيقة واحدة. لاننا جميعا لدينا تساؤلات، بخاصة في اللحظة الراهنة، فلا بد من مساءلة التاريخ القابض على اجابات للحصول عليها نزيهة صادقة، يختبر الروائي صدق المؤرخين الرسميين وذوي المصلحة، وفي الاخير سيختار ان يكتب عن الناس العاديين، وهذا مكمن الصعوبة والدأب والاصرار على الحقيقة المغايرة للثابت والمستقر في اذهاننا.