بغداد وطهران والبريطانيون والأميركيون 1925 ـ 2003 .. هل تغير شيء؟

شكل الاستعمار البريطاني الدولة العراقية قبل أن تتشكل أمة في بلاد الرافدين وقنصل أميركي يلجأ لبيت قنصل إيراني

TT

كان الجو ربيعياً منعشاً في بغداد عندما بدأ رجلان أميركيان حديثهما. أحدهما كان رجل أعمال جاء لتوقيع عقد مع مؤسسة محلية تبيع أحشاء الخراف اللازمة لصناعة السجق في شيكاغو، والآخر كاتب متطلع يقوم برحلة للمناطق الملتهبة حول العالم، وكان رجل الأعمال القادم من شيكاغو يشتكي ويتذمر من القيظ الشديد والذباب وأسراب الأطفال المتسولين في الشوارع. ولكنه أيضاً تنبأ بمستقبل رائع للارض التي يزورها حتى انه قال «اعتقد ان بغداد تصلح لأن تكون شيكاغو الشرق»، واستطرد قائلا انه يفكر في شراء قطعة أرض قريبة من محطة السكة الحديد.

والكتاب مكون من 700 صفحة، ويضم رحلات أخرى للكاتب الى دول أميركا اللاتينية وأوروبا وكذلك بعض الأعمال الشعرية له.

وفي رأيي فإن باسوس واحد من أبرز الكتاب الاميركيين في القرن العشرين، لكنه لم ينل الحظ الكافي من التقدير، فهو يقف في مصاف كبار الكتاب مثل آرنست هيمنغواي وويليام فولكنر وجون شتايبنك الذين حذا الروائيون حذوهم في العالم أجمع.

وعشاق الأدب يعرفون اسماء مثل سنسليد لويس، وثيدور دريزيه، وارسكين كولدويل، وادورا ويتلي، وداشيل هاميت وريموند شاندلر، لكن دوس باسوس لم ينل أبداً من الاهتمام بما تستحقه موهبته فثلاثيته «يو اس إيه» معروفة الى حد ما لكنها لم تكن ابدا واحدة من الكتب الأكثر مبيعاً، ورائعته «تهجير مانهاتن» التي تعد أفضل أعماله لم تكن قد طبعت حتى عهد قريب.

وربما يعود ذلك الى أفكار دوس باسوس اليسارية، التي أدت الى ابتعاده عن الأضواء خلال فترة الخمسينيات في ذروة هستيريا المكارثية. وكانت كتاباته مثل ثورة شيوعية، فقد كان يميل الى تصوير حياة الفقراء، وكان لديه وعي كبير بقيم النظام الرأسمالي، وكذلك كان يرفض القيم العنصرية في الولايات المتحدة، وكل هذه العوامل جعلته خطرا كبيرا على ما كان يعرف بالمجتمع المحافظ.

واليوم فإن دوس باسوس يعود لدائرة الضوء في الوقت الذي لم تعد اسماء مثل هيمنغواي وفولكنر ولويس تلمع كالنجوم كما كانت في السابق.

ولكن دعونا نعود للكتاب الذي بين أيدينا، فالجزء الخاص ببغداد يبدو مشوقا جدا في ظل الظروف الحالية، ولكن بغداد 1920 كانت مختلفة جدا عن بغداد اليوم، فخلال رحلتنا مع الكاتب في شوارع بغداد وبازاراتها ننتقل معه من مفاجأة لأخرى، فنحن نجد لدينا مدينة كوزموبوليتانية تعج بالاتراك العثمانيين والاكراد والعرب واليهود الذين كانوا يمثلون 20% من نسبة السكان، الى جانب مجتمع متنام من الغربيين، وبعض الاطفال الذين يتسولون في الشوارع يتحدثون الالمانية ويبيعون زجاجات البيرة المهربة وذلك لان بغداد في ذلك الوقت وخلال الحرب العالمية الأولى، كانت مركزا رئيسيا بالنسبة لاطماع الامبريالية الالمانية في الشرق الاوسط. فقد بنى الالمان أول سكة حديد في بلاد الرافدين وكانوا يخططون لتوسيعها وربطها بامبراطوريتهم حتى الحجاز اعتمادا على مساعدة العثمانيين، الذين كانوا شركاء لهم في تلك الحرب، لكن المانيا هزمت وكانت الامبراطورية العثماية تترنح وتلفظ أنفاسها الأخيرة. فقد قاد البريطانيون الثورة العربية ضد العثمانيين وأصبحوا بعدها ملاك لأرض لايعرفون ماذا سيفعلون بها.

وخلال مدة اقامته في بغداد كون دوس باسوس صداقات مع القادة الاستعماريين البريطانيين في بلاد الرافدين وبشكل خاص جرشرود بيل، وهو يصور البريطانيين في كتاباته بأنهم مرتبكون وفي حيرة من أسباب وجودهم في بغداد، ومحاولاتهم اليائسة لإيجاد إشخاص محليين يكونون دولة خاصة بهم . وسرعان ما ظهرت تناقضات الدولة التي تأسست حديثا وعرفت باسم العراق. وكان تعبير دولة يعني أمة قد تشكلت. لكن في العراق في ذلك الوقت جاءت الدولة أولا، وحلمت الامبراطورية البريطانية بأمة تأتي بعد الدولة التي استجلب فيها كل شيء من الخارج بما فيه الدستور والملك، وليس من الغريب شعور العديدين بأنهم غرباء في أوطانهم، وهو الشعور الذي تحول سريعا الى ثورة ومن المتناقضات انه عبر هذا الشعور الثوري المعادي للاستعمار، بدأت الشخصية العراقية في التشكل.

ويصور دوس باسوس هذا التوتر السياسي الناشئ لدى القوى المهتمة والذي شكل الدولة الجديدة «العراق». فبريطانيا أرادت تحويلها الى ملكية استعمارية دون ان تتحمل تكلفة، فقد كان البريطانيون ينظرون للعراق بأنه قاعدة جديدة لحماية وجودهم في الخليج الفارسي وشبه القارة الهندية، وفي الوقت نفسه كانوايعدون لمد نفوذهم الى ايران، وكانوا ينظرون عن كثب الى الفرنسيين الذين أطاحوا بالملك، الذي عينته بريطانيا في دمشق، والذين يحلمون بالاستيلاء على العراق. وكانوا يراقبون أيضا تركيا التي كانت تضع أعينها على كركوك والموصل رغم الضعف الذي تعانيه ومشاكلها الداخلية، وكذلك كان البلاشفة في روسيا مصدرا لقلق الامبراطورية البريطانية رغم انهم أيضا كانوا يعانون من مشاكل داخلية طاحنة، لكن هذا لايعني أنهم لم يكونوا طامعين في موطئ قدم لهم في بلاد الرافدين.

كان هناك أيضا سببان لقلق بريطانيا: أولهما الايرانيون، الذين يضعون أعينهم نصب الطائفة الشيعية في العراق، وثانيهما فتيل الصراعات والحروب بين الدويلات العربية الذي قد يمتد لداخل العراق.

ودوس باسوس بالطبع لم يكن مؤرخا أو صحافيا سياسيا ولذلك جاءت ملاحظاته عن الأحوال السياسية في بلاد الرافدين انطباعية، وكان اهتمامه منصبا على الشؤون الانسانية العميقة وتوجساتها. وليس هناك شك ان باسوس كون صداقات مع أهل بغداد لدرجة انه كان حزينا على فراقهم عندما كان راحلا في طريقه الى دمشق.

ويتضمن الكتاب أيضاً رحلة طويلة قام بها باسوس أخذته إلى تفليس عاصمة جورجيا وإلى آرمينيا ومن هناك إلى طهران عبر تبريزي وزنجان.

وكانت تلك فترة عصيبة في تاريخ ايران، فالثورة البلشفية أطاحت بأحد أعداء ايران التقليديين على الأقل في ذلك الوقت، وكانت القوى السوفيتية الجديدة متورطة في حرب أهلية دامية لم تنته بعد واستمرت هكذا حتى عام 1924. والغياب الروسي قدم لبريطانيا عدواً تقليدياً آخر يمثل ايران، وفرصة غير مسبوقة لتضعها تحت الوصاية في اتفاقية فريدة من نوعها وقعت عام 1919.

وحتى قبل دخول ايران كان دوس باسوس مدركاً للمزاج الثوري المختمر في طهران، وخلال رحلاته يتعرف المؤلف على طبيب ايراني تلقى تدريباً في فرنسا وكان عائداً لبلاده ليشارك في الثورة ضد بريطانيا . ويشير دوس باسوس لرفيقه الايراني باسم «سيد» وجاء وصف الرحالة له مليئاً بالعديد من المتناقضات تسترعي انتباه المثقفين الايرانيين الحاليين.

فسيد يكن اعجاباً كبيراً بالتقدم الأوروبي، ويحلم باليوم الذي تغطي أرض ايران المصانع والسكك الحديدية .وفي نفس الوقت فهو لديه ارتباط ديني عميق بأرض بلاده ذات الطبيعة الجبلية. وبينما كان يتباهى بأن ايران هي أم الحضارات، كان يشعر بالخزي من أسراب الأطفال الذين يتسولون مهرولين نحو القطار عندما يمر عبر القرى ذات المنازل المصنوعة من الطين. وهو يمتدح حياة التقشف رغم اصراره على تناول وجبات فاخرة حتى في ذروة المجاعة .وهو باحث دائم عن النساء السهلات المنال .. ولكن عادته الأسوأ هي ميله الدائم لحشو جمله بكلمات فرنسية حتى عندما يتحدث للفلاحين أو الملالي . وفي أحد المشاهد نرى «سيد» مشتبكاً في جدل ديني مع رجل ما في أحد المقاهي وحتى يؤكد صحة كلامه ويكسب المناظرة يزعم أنه أحد أتباع أحد الأئمة . عن طريق شخصية «سيد» تتعرف على معلوماتنا الأولى في الكتاب عن النظريات السياسية التي ألهمت الثورة ضد أحمد شاه ملك كجار الموالي لبريطانيا في طهران، وهو ماقاد الى استيلاء رضا خان على السلطة، وتأسيسه فيما بعد حكم أسرة رضا شاه في ايران.

وفي هذا الجزء من الكتاب يرافق باسوس القنصل الأميركي شبه الرسمي في رحلة الى بغداد على متن سيارة القنصل د، لكنهما يضلان الطريق في الصحراء . ويطلب القنصل الأميركي من دوس باسوس البحث عن مساعدة فيما يبقى هو إلى جانب السيارة لحراستها من قطاع الطرق. وبعد عدة ساعات من البحث يصل دي باسوس ومرافقه الى أحدى ضواحي بغداد ويطرقان باب أحد الأبنية الفخمة التي يتضح فيما بعد أنها مقر اقامة القنصل الايراني. ورغم أن الوقت كان منتصف الليل تقريباً إلا أن القنصل الايراني يوافق على اصطحابهما في سيارته الخاصة لانقاذ القنصل الأميركي (فهل من الممكن أن يحدث شيء مثل هذا اليوم).

ورغم ان الاجزاء المتعلقة بايران والعراق وسوريا كانت محور اهتمامنا للأسباب السالفة الذكر، إلا ان افضل اجزاء الكتاب كانت هي تلك المتعلقة بملابسات الثورة الروسية والحرب الاهلية.

فاتجاهات باسوس اليسارية جعلته متعاطفا مع البلاشفة وأسباب اطاحتهم بحكومة القيصر واستبدالها بحكومة من الطبقة العاملة، ولكنه في نفس الوقت كاتب وليس ايديولوجياً، ولذلك سرعان ما أدرك ان مساوئ الثورة البلشفية اكثر من منافعها، وان نبل الاهداف لايبرر تحولها المقيت الى حقيقة واقعة.

رحلات باسوس هي نموذج لنوع من الأدب اختفى تماما على الاقل من الادب الغربي، فاليوم ليس لدينا سوى كتب الرحلات التي تتعامل مع الاراضي الأجنبية وتقدم نصائح عملية لكيفية الوصول الى هناك، وما يسترعي النظر في تلك البلدان، وما ينقص هذا النوع من الأدب هو عين الكاتب الصادق الذي يستطيع ان يعرف الشخصيات ويصور المواقف والتوترات المثيرة ويقدم لنا نظرة متعمقة عن الثقافات، وكل ذلك بأسلوب حاد مثل الموسى.