رحلتي مع الكتاب

مالك صقو * : «طبائع الاستبداد..» أصبح بوصلتي

TT

بدأت رحلتي مع الكتاب، قبل أربعين عاماً، وتحديداً عام 1962. كنت في بداية المرحلة الاعدادية، وذات يوم في العطلة الصيفية، وكنت قد انتهيت لتوي من قراءة قصة (ماجدولين، أو تحت ظلال الزيزفون)، سألني والدي: ما الذي أعجبك في هذه القصة؟ كان سؤال والدي مفاجأة لي; فما كنت أعلم أن والدي يهتم بماذا أقرأ. فأجبته بخجل، ودون تفكير (الغرفة الزرقاء). فناولني كتاباً، وقال: يجب أن تنوع كتب المطالعة. كان الكتاب بعنوان (الامام علي ـ صوت العدالة الانسانية)، للأديب والشاعر الكبير جورج جرداق، وقدم للكتاب الأديب الكبير ميخائيل نعيمة. بصراحة، كان الكتاب أكبر من عمري، لكن ميخائيل نعيمة في مقدمته، شدني بقوة مغناطيسية، وأسرني الكتاب من السطر الأول حتى الكلمة الأخيرة فيه. أسرني بلغته العذبة الرقراقة، وأسلوبه الشيق ومضمونه الانساني الشامل، وموضوعاته الغنية المتنوعة. كان هذا الكتاب بالنسبة لي هو المفتاح. لقد فتح لي الطريق الواسعة، ونقلني إلى فضاءات لا متناهية في الأدب والسياسة، والدين، وحقوق الإنسان، والخير والجمال والعدالة الإنسانية برمتها. وجعلني أفتش عن آثار الكتّاب والفلاسفة الذين استشهد بهم المؤلف أمثال: سقراط، وأفلاطون، وفولتير، وغاندي، وبوشكين، وروسّو، وتولستوي، وغوركي وغيرهم.

علمني هذا الكتاب، معنى العفو عند المقدرة، ومعنى التسامح، والثقة بالجانب الخيّر والنيّر بالضمير الإنساني الزاخر بالعطاء، النابض بالحب لعموم البشر حباً لا حدود له. علمني هذا الكتاب كره الشر والفجور، والظلم، والطغيان، والخيانة، والغدر، والنذالة، ونبذ كل أشكال التعصب والعصبية البغيضة. ومعنى استغلال الإنسان لأخيه الإنسان.

في شتاء 1963 «اكتشفتُ» جبران خليل جبران . كانت مؤلفاته تباع بسعر زهيد جداً. فقد اشتريت: «دمعة وابتسامة، والأجنحة المتكسرة، والأرواح المتمردة، وعرائس المروج، والعواصف» بنصف ليرة سورية لكل كتيب، كان بعشرة قروش، وهذا سعر زهيد جداً في عملة تلك الأيام.

جبران خليل جبران ملك حواسي، وسيطر على مشاعري، وأنا في سن المراهقة. قرأته مرات ومرات، وأنا مدين لهذا الإنسان الرائع. لقد علمني معنى الجمال الحقيقي، والحب الحقيقي، علمني معنى الموسيقا الرائعة، ومعنى الأدب، وسمو النفس الإنسانية، ومعنى الدين، والترفع عن كل الدناءات، علمني صفاء الوجدان، ونقاء الضمير، وحرية الفكر، والجرأة في قول الحق والتعبير. وجعلني أنحاز إلى عالم المستضعفين، عالم «مرتا البانية» و« يوحنا المجنون» و«خليل الكافر»... إنه كاتب رائع وكتاباته رائعة تفيض بالإنسانية وبحب الإنسان.

بعد جبران، وقع بين يدي «كليلة ودمنة» سحرني هذا الكتاب. وما زلت أعود إليه بين الحين والآخر، للاستمتاع، والتعلم من العِبَر، والحِكَمْ من حكاياته. ولقد أعُجبت بفكرة تأليف هذا الكتاب، أي ما حدث للفيلسوف بيدبا وتلاميذه، حول كيف يجب ردع الملك الطاغي (دبشليم) عن ظلمه وطغيانه، كذلك الحوار الذي دار بين الفيلسوف والملك. وتحديداً، هنا، يتجلى دور الفيلسوف (المثقف ـ العارف) وتحمله المسؤولية، والتضحية بالنفس من أجل احقاق الحق، وإنصاف المظلومين، وردع الطغيان والظلم عن الرعية، والأمر الذي يستحق الاعجاب أيضاً، فكرة ( سرقة ) الكتاب من خزائن الهند، واهتمام كسرى أنو شروان بالمعرفة، فيوفد أفضل وزير لديه، يزوّده بالمال الكثير ليتمكن من «سرقة» هذا الكتاب القيّم من بلاد الهند إلى بلاد فارس.

إن المرء يجب أن يقتني هذا الكتاب، ليرافقه كل مراحل حياته. يجب أن يرافق التلميذ والطالب، والجميع. ليتعلم منه أولاً: عدم الخنوع للظلم، والجرأة على قول الحق، ومناهضة القمع والطغيان. ثانيا: يجب أن يتعلم منه الحاكم، كيف عليه أن يصغي للناس جميعاً. والأهم من هذا كله، عدم السماح للواشين والنمامين، والمنافقين، والانتهازيين، وللبطانة الشريرة أن توغر صدره تجاه الآخرين، هذا الكتاب كان وما زال وسيبقى كتاباً في الأخلاق، والأدب، والتربية.

بُعيد هزيمة حزيران المشؤومة عام 1967، وكنت هائماً في شوارع طرابلس عثرت على كتاب «طبائع الاستبداد، ومصارع الاستعباد» لعبد الرحمن الكواكبي ، في سوق يسمى «باب التبانة» اشتريته بنصف ليرة لبنانية من ( البسطة )... يا إلهي ! كم تمتعت بقراءة هذا الكتاب. لقد أعدت قراءته مرات، ونصحت زملائي بقراءته، وما زلت حتى هذه الدقيقة، أردد مع الكواكبي: «من أقبح أنواع الاستبداد، هو استبداد الجهل على العلم».

لقد كان هذا الكتاب بالنسبة إلي، وأنا في مقتبل الشباب، وبداية تكويني الثقافي والسياسي بمثابة البوصلة. بلى هذا الكتاب كان البوصلة والدليل لي. علمني هذا الكتاب الكثير: معنى العبودية، معنى الحرية، معنى السياسة، ومعنى العزيمة وأهل العزائم وعدم الاستكانة للخنوع المطلق. ومن يعيد قراءة هذا الكتاب المهم الآن، يعرف لماذا تعيش الأمة العربية الانحطاط بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، في كافة أشكال الانحطاط. وكيف لمن قرأ ويقرأ هذا الكتاب، ويعيش في وطن اسمه الوطن العربي، أن ينسى فصول هذا الكتاب: «ما هو الاستبداد ؟ الاستبداد والمجد، الاستبداد والعلم، الاستبداد والتربية، الاستبداد والتخلص منه». لقد قام الكواكبي، قبل مئة عام، بدور أعظم طبيب، واستطاع أن يشخّص الداء ويصف الدواء، ولكن لا حياة لمن تنادي.

* كاتب سوري

* من مؤلفاته:

ـ بوشكين والقرآن، بحث في الأدب المقارن. (دراسة)

ـ قصص: حبة شجاعة، الجقل، السهم والصدى: أفكار وخواطر، احتفال خاص برأس السنة

ـ ترجمات : الممارسة النقدية: مختارات بيلنسكي، كيف تعلمت الكتابة: غوركي، غيمة في سروال: مايا كوفسكي