المسلمون سيغذون أوروبا العجوز بدماء جديدة

جيل كيبيل: الكثيرون ممن نفذوا الأعمال الإرهابية جاءوا من الضواحي الإسلامية الفقيرة في الغرب

TT

بحسب الاحصائيات الرسمية يوجد الآن في اوروبا ما لا يقل عن خمسة عشر مليون مسلم، اذا ما اضفنا اليهم المهاجرين السريين.

واكبر الجاليات موجودة في فرنسا والمانيا وانجلترا. ولكن توجد اعداد كبيرة ايضا في بلجيكا، وهولندا، واسبانيا وايطاليا والبلدان الاسكندنافية. الخ. في فرنسا يغلب الطابع الشمال افريقي والافريقي الاسود. وفي المانيا الطابع التركي، وفي انجلترا الطابع الهندي ـ الباكستاني.. دون ان يعني ذلك عدم وجود جاليات اخرى.

وهؤلاء المسلمون الذين يعيشون في اوروبا منذ زمن طويل او قصير لا بد وان يتأثروا بالجو المحيط والحداثة السائدة، وبالتالي فإن فهمهم للدين سوف يتجدد بطبيعة الحال اما بشكل مباشر واما بشكل غير مباشر. وعلى عكس ما نظن فإنهم ليسوا جميعهم من الطبقة العاملة او الفقيرة. فالكثيرون استطاعوا ان ينجحوا في الحياة ويصلوا الى اعلى المراتب. فمنهم اطباء كثيرون، ومهندسون، ورجال اعمال، ومثقفون، وكوادر في الشركات المختلفة، وصحفيون، واساتذة جامعات، بل ونواب ووزراء في بعض الدول، وسوف تزداد اهميتهم اكثر فأكثر في المستقبل.

وبالتالي فإن بعض الباحثين يعتقد بأنهم يشكلون حظا لاوروبا، بقدر ما ان اوروبا تشكل حظا بالنسبة لهم. فهؤلاء المسلمون من عرب وغير عرب سوف يغذون «اوروبا العجوز» بدماء جديدة وحيوية لا يستهان بها. واما اوروبا فسوف تغذيهم بالفكر العقلاني وتطبعهم بطابعها الحضاري الحديث.

وسوف يشكلون حظا لبلدانهم الاصلية ايضا! فالكثيرون منهم لا يقطعون علاقتهم بالجزائر، او تونس، او المغرب، او تركيا، او السنغال، هذا اذا لم نذكر بلدان المشرق العربي كالعراق، ومصر، ولبنان، الخ.. فمن المتوقع ان يؤدي احتكاك هذه الجاليات الضخمة بالحداثة الاوروبية كل يوم الى توليد صيغة توفيقية جديدة بين الاسلام والحداثة. وهذه الصيغة يمكن ان تعبر البحر الابيض المتوسط وتصل الى الجهة الاخرى، الى جهتنا لكي تساعدنا على الخروج من الورطة التي نتخبط فيها الآن، نقول ذلك وبخاصة بعد نمو التيار الاصولي المتطرف والعنيف على مدار الثلاثين سنة الماضية.

اقول هذا الكلام على هامش صدور كتاب جديد في باريس عن الموضوع، وقد ساهم فيه العديد من الباحثين المختصين، نذكر من بينهم جيل كيبيل الاستاذ في معهد العلوم السياسية في باريس وصاحب الكتب المعروفة عن الحركات الاصولية وبخاصة كتاب «الجهاد» الكبير (2000).

ونذكر ايضا الباحث اوليفييه روا مدير البحوث في المركز القومي للبحوث العلمية الفرنسية والمختص اساسا بالاسلام الافغاني والباكستاني على عكس كيبيل المختص بالاسلام العربي بمشرقه ومغربه. وآخر كتابين صدرا لاوليفييه روا هما: الاسلام المعولم (او الاسلام المنتشر عالميا، او الاسلام في عصر العولمة»، ثم اوهام (11) سبتمبر.

ونذكر ايضا عبد الرحيم لمشيشي، استاذ العلوم السياسية في جامعة بيكاردي شمال باريس، وهو من اصل مغربي ومختص بمشاكل الاسلام المعاصر، وله اسهامات مهمة في اضاءة الوضع الراهن. نذكر من بين كتبه الاخيرة: لكي نفهم الاسلام السياسي (2001)، الجغرافيا السياسية للحركات الاصولية (2001)، الاسلام ـ الغرب، الاسلام ـ اوروبا: صدام حضارات أم تعايش سلمي بين الثقافات (2000).

ونذكر ايضا احمد جاب الله، مدير معهد العلوم الانسانية في باريس واستاذ الفقه الاسلامي وعضو المجلس الاوروبي للفتوى والبحوث.

وهناك آخرون عديدون ليس اقلهم كريستيان جامبيه المختص بالفلسفة الاسلامية، محمد اركون الذي لم يعد بحاجة الى تعريف، والباحثة التركية نيلوفر غول، والباحث الايراني فرهاد خوسردخافار، والباحث جان روبير هنري، والباحث ريمي ليثو وآخرون اعتذر عن عدم ذكر اسمائهم لضيق المكان.

منذ بداية مداخلته يطرح جيل كيبيل السؤال التالي: هل الانحراف الارهابي شيء هامشي في الاسلام المعاصر، أم انه يعبر عن تيار قوي ودائم؟

وقد جاء جوابه على النحو التالي: اني ابعد ما اكون عن الفكرة التبسيطية التي تطابق بين المسلمين والارهاب. ولكن لا يمكن ان نتحدث عن شؤون المسلمين العائشين بين ظهرانينا في اوروبا بدون ان نطرح مشكلة الارهاب بكل صراحة. فهذا خير لنا وللمسلمين في آن معا.

فالكثيرون من الذين نفذوا العمليات الارهابية مؤخرا جاءوا من الضواحي الاسلامية الفقيرة في الغرب. ولكنهم لم ينفذوها الا بعد ان تمت عملية غسل دماغ لهم في افغانستان او بعض الاماكن الاخرى. ففي معسكرات «المجاهدين» يتم تدريبهم وحشو رؤوسهم بالافكار الخاطئة التي تدفع بهم الى ارتكاب اعمال العنف كتفجير المحلات التجارية الكبرى في الغرب، او تفجيرات الميترو، الخ. وبالتالي فما يحصل لهم يشبه ما يحصل في اوساط الطوائف الغربية المغلقة على نفسها والشاذة كطائفة «مون» مثلا. وهي طوائف لا علاقة لها بالاسلام، وانما ظهرت في مجتمعات الغرب بسبب الازمة الحضارية او ربما التخمة الحضارية. ومعلوم ان زعيم الطائفة قد يأمر اتباعه بالانتحار الجماعي فينتحرون باعتبار ان يوم القيامة قد أزف او ان هذا العالم شر كله وينبغي الرحيل عنه، وقد حصلت حوادث مدهشة من هذا النوع في سويسرا او اميركا في السنوات الاخيرة.

ويرى جيل كيبيل ان الحركة الاصولية المعاصرة في الاسلام تنقسم الى قسمين. القسم الاول ازداد عنفا وراديكالية في السنوات الاخيرة حتى ادى الى تفجيرات (11) سبتمبر و«بالي» باندونيسيا وبقية العمليات التفجيرية والانتحارية الاخرى. وقسم ينحو باتجاه الاعتدال والعقلانية. واكبر مثال عليه حزب العدالة والتنمية في تركيا. فقد ربح الانتخابات تحت زعامة رجب طيب اردوغان وطرح شعارات التناغم والانسجام بين الحداثة الاوروبية من جهة وبين الاسلام المتجدد من جهة اخرى، بل وكان اول شيء عمله اردوغان هو طلب الانضمام الى الوحدة الاوروبية التي تعيش على قيم مضادة تماما لقيم الاصولية المتزمتة.

وبالتالي فالسؤال المطروح هو التالي: هل ستحصل المصالحة التاريخية المنشودة بين الاسلام والحداثة؟ نقول ذلك ونحن نعلم انها اذا ما حصلت فسوف تؤدي الى تهميش التيار الراديكالي العنيف الذي يملأ الساحة ضجيجا وعجيجا.

يعتقد جيل كيبيل انه من السابق لأوانه البت في الموضوع. فالساحة الاسلامية لا تزال تغلي وتحفل بشتى انواع التفاعلات وبالتالي فهي مفتوحة على كافة الاحتمالات.

ولا نستطيع القول بأن التيار العقلاني المعتدل على طريقة اردوغان وعبد الله غول ومحمد خاتمي وجمال البنا وسواهم قد ربح المعركة ضد التيار المتطرف على طريقة بن لادن والظواهري واشكالهما. فالمعركة لا تزال طويلة ولن تحسم في الامد المنظور. على الاقل هذا هو اعتقادي وتعليقي ايضا على كلام جيل كيبيل. ثم يشير هذا الباحث الى حقيقة خطيرة كنا قد نبهنا اليها اكثر من مرة، هنا على صفحات «الشرق الاوسط»: وهي انه في ما يخص فهم الدين وتفسيره فإن فكر التقليديين والكتب الصفراء هو المنتشر في شتى انحاء العالم العربي وليس فكر المحدثين او المجددين. والواقع ان الكتب الحديثة عن الدين لا تصل الا الى قلة قليلة من النخبة، وبالتالي فكيف يمكن للتيار العقلاني ان يتغلب على التيار المتطرف؟ ثم يشير جيل كيبيل الى حقيقة اخرى لا تقل خطورة ان لم تزد: وهي ان الفضائيات العربية، وبخاصة «الجزيرة»، تبث الفكر التقليدي والطائفي العتيق على مدار الساعة وان بقالب فني حديث! وهكذا لا يأخذ العالم العربي من الحداثة الا قشورها، ويرفض مضمونها وجوهرها، المضمون رجعي بالمعنى الحرفي للكلمة، والشكل مغر جذاب. فضيحة حقيقية! وبما ان هذه الفضائيات هي «الغذاء» اليومي للمشاهد العربي من اطراف المغرب الاقصى وحتى شمال سوريا والعراق، فإن بامكانك ان تتخيل حجم الاضرار الناتجة عن ابواقها.. فهي تدعو الى افكار العنف والتطرف علنا وعلى رؤوس الاشهاد وبشكل مباشر او غير مباشر. وربما اعتبرت مقتل ممثل الامم المتحدة او السيدة عقيلة الهاشمي عملا من اعمال المقاومة! ان غضبي على هذه الفضائيات التعيسة اكبر من غضب جيل كيبيل، ولكن ما العمل؟ فهي تعكس، شئنا ام ابينا، حالة قسم كبير من الرأي العام في العالم العربي والاسلامي الذي لم يتحرر بعد من رواسب عصر الانحطاط الطويل.

انها تعكس حساسية اليمين العربي المتطرف الذي لم يتجرأ احد حتى اليوم على تفكيك قناعاته العدوانية المتخلفة او ايديولوجيته المضادة لروح العصور الحديثة، ولكن لا ينبغي ان ندين هذه الفضائيات بشكل مطلق، فأحيانا تعطي حق الكلام لممثلي التيار المستنير والعقلاني في الساحة الثقافية العربية.

يختتم جيل كيبيل مداخلته باقتراح عملي فاجأني وسرني في آن معا. نقول ذلك وبخاصة ان صوته مسموع في فرنسا ويصل فورا الى المراجع العليا، فهو يقترح تحقيق السلام العادل في منطقة الشرق الاوسط. ولكن قد يقول قائل: وما الجديد في هذا؟ كل الناس يقترحون ذلك. واجيب الجديد فيه هو انه يدعو النخبة المثقفة في اوروبا الى الضغط على القادة السياسيين، اي على شيراك، وبلير، وشرودر، وسواهم لكي يفعلوا شيئا ما في هذا الاتجاه. وهو يدعوهم الى فعل ذلك ليس فقط من اجل شعوب الشرق الاوسط من عرب واسرائيليين وانما من اجل فرنسا واوروبا ذاتها. فمن الواضح ان جيل كيبيل يخشى ان تدفع اوروبا ثمن الصراع العربي ـ الاسرائيلي عاجلا او آجلا.

فالجاليات العربية او الاسلامية لن تندمج فعلا في اوروبا قبل ان يهدأ هذا الصراع المزمن والمدمر. فقد اصبح يشكل خطرا على السلام المدني في المجتمع الفرنسي، او الانجليزي، او الالماني، الخ. وليس فقط على المجتمع اللبناني او السوري او المصري، ولم يعد الاوروبيون يستطيعون القول: هذا صراع بعيد جدا، لا علاقة لنا به ولن تصلنا شظاياه، فالواقع ان الشظايا اصبحت على الابواب وربما ما هو اكثر من الشظايا.

واما الاقتراح الثاني الذي يقدمه كيبيل فيتمثل في تحجيم العناصر المتطرفة داخل الجاليات الاسلامية العائشة في فرنسا وعموم اوروبا. فعلى الرغم من ان هذه العناصر تشكل اقلية بالنسبة للاغلبية المسالمة من المسلمين العقلانيين الذين يعيشون دينهم بهدوء ويربون ابناءهم وبناتهم من اجل مستقبل افضل، الا انهم ـ اي المتطرفين ـ كثيرو الحركة والشغب، وبالتالي فهم يسيئون الى الاغلبية والى صورة الاسلام في الغرب، واعمال العنف الاجرامي التي يرتكبونها تنعكس على اغلبية الجالية التي تدفع ثمنها بدون حق! لقد اصبح كل عربي او مسلم مشبوها في بلدان اوروبا واميركا بسبب حفنة من المتطرفين الغلاة الذين يعيثون فسادا في الارض.

الباحث المغربي عبد الرحيم لمشيشي يمشي في نفس اتجاه جيل كيبيل وان بشكل آخر. فهو ايضا يميز بين تيارين اساسيين داخل الجالية العربية او الاسلامية العائشة في اوروبا وفرنسا تحديدا. فهناك اولا تيار الاغلبية الصامتة التي تعيش بسلام ووئام داخل المجتمع الاوروبي وتحترم قوانينه دون ان تتخلى عن خصوصيتها او هويتها المشرقة. وهناك تيار الاقلية المتطرفة المنتشر اساسا في الضواحي الفقيرة التي تحيط بباريس وسواها من المدن الكبرى، فهؤلاء عاطلون عن العمل ومهمشون ولا يوجد اي افق أمل بالنسبة لهم. وبالتالي فقسم منهم يتحول الى جانح او مجرم يسرق السيارات، او يعتدي على المارة، وقسم آخر يعود بشكل متزمت الى هويته الدينية ويصبح حاقدا على المجتمع الذي يعيش فيه، وهكذا يصبحون فريسة سهلة لقادة الاصوليين الذين يجندونهم لتنفيذ العمليات الارهابية بعد ان استلمهم قادة الاسلام السياسي وحسنوا وضعهم المالي وغسلوا عقولهم في معسكرات افغانستان او سواها.