مكامن الداء في الإسلام السياسي

عبد الوهاب المؤدب مستندا إلى التاريخ يتناول آراء المفكرين الإسلاميين ابتداء من الأفغاني ومحمد عبده مرورا بحسن البنا وسيد قطب وصولا إلى مواقف أسامة بن لادن

TT

* خلال السنتين اللتين مرتا على أحداث الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) 2001، وما تمخض عنها من كوارث وحروب، ظهر العديد من الكتابات والمؤلفات العربية في محاولة لتحليل وتفسير ظاهرة الإرهاب الدولي والتطرف الديني، ومنابع التعصب الفكري، ورصد طبيعة المواقف تاريخياً وحضارياً. من بين ما كتب في هذا المجال كتاب أوهام الإسلام السياسي لمؤلفه التونسي عبد الوهاب المؤدب الذي يعد نموذجاً ذا نكهة خاصة لفهم الخلفية الاستراتيجية الدولية فكرياً وسياسياً في ضوء الواقع العربي الإسلامي.

* لا شك أن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن أمام أي عمل نقدي في ما يخص الإسلام السياسي والوضع العربي والإسلامي وبالأخص بعد اعتداءات 11 سبتمبر، نجده ينحصر في نوعية الإضافة العلمية التي يمكن أن يقدمها، إذ كما يلاحظ أن العديد من الأقلام سارعت إلى تحليل الأحداث الرهيبة التي هزت العالم، وأحدثت انعطافاً هائلاً في الاستراتيجية الدولية، وشروخاً في طبيعة الفكر السياسي إقليمياً وعربياً ودولياً، وتحولت نتائج ما حدث يوم 11 سبتمبر إلى ذرائع لممارسة ما كان يفكر فيه في الخفاء، مما أصبح يدعو مجدداً التفكير في الذات بالنسبة لكل دول العالم، وفي مقدمتها العالم الإسلامي، من هذا المنطلق جاء كتاب الأستاذ عبد الوهاب المؤدب تحت عنوان أوهام الإسلام السياسي الذي نشرته في البداية دار النشر الفرنسية سوى Seuil 2002? وأعاد ترجمته المؤلف بالاشتراك مع د. محمد بنيس إلى اللغة العربية، الصادر عن دار توبقال للنشر.

ينحو هذا الكتاب إلى رصد كنه المعوقات التي كبلت واقع العالم العربي والإسلامي، ويعتبر وضعيته الأسوأ في تاريخه، ويسعى من خلال منهج نقدي على الرغم مما فيه من خطورة لكونه ينصب على الذات وتعريتها، متجاوزاً المقولة التي دأب على ترديدها، أن الآخر، أي الأجنبي مسؤول عن تدهور أوضاعنا، وأن ما آلت إليه أمور الشعوب العربية والإسلامية لدرجة فقدانها كل مناعة يعود إلى تكالب القوى الاستعمارية، منذ القرن الثاني عشر، أي من الصليبيين إلى المغول، مروراً بالأتراك، وصولا إلى الاستعمار الأوروبي، ثم إسرائيل وانتهاء بالإمبرالية الأميركية.

يقود هذا الموقف إلى البحث عن مكامن الداء، حيث يرفض المؤلف تغييب المسؤولية الذاتية، مؤكداً أن العرب جاءوا بالإسلام إلى العالم وبقوتهم المتضافرة مع مجهودات أخرى، ورفعوا الحضارة إلى أوج لم يبلغه قط أحد قبلهم. وإذا كان الإسلام ديناً وحضارة واجتماعاً وسلوكاً، فإن المسلمين تخلفوا عن إدراك كنه مبادئه وفضائله، ولقد حرص المؤلف على توضيح هذا التوجه في المقدمة التي وضعها للترجمة العربية مؤكداً بقوله:

«فليس الإسلام هو أصل المصيبة، بل المصيبة هي ما فعله المسلمون أنفسهم بالإسلام»، معتمداً في ذلك على تشريح الذات، وممارسة حرية التفكير والتعبير، لكي يتعامل عما يراه من طغيان وبؤس وجهل، ومؤكداً في آن واحد أن ما سيقترحه في ثنايا كتابه من آراء وحقائق قابلة للدحض، إلا أنه يرفض البقاء في دائرة الاقتناعات والأفكار الجاهزة.

لقد اعتمد الباحث من أجل فهم تشكل العقيدة الإسلامية آلية الغوص في عمق الماضي للتحقق من الكيفية التي تهيأت بها القراءة الأصولية لكل من القرآن والسنة، وفي هذا الصدد يدعو إلى استعادة الطريقة المتبعة في علوم التفسير والفقه، لكي يتم تبيان أين يفسح هذا النص المجال للتعصب، أو لتشجيع أولئك الذين لا يحتفظون من روحية الإسلام إلا بالدعوة إلى الحرب، حيث البحث والكشف أين ينغلق هذا النص على تحديث المعنى؟ وأين يمكن تطويعه بما يسمح لفهم جديد للموقع الذي نما فيه انغلاق التفسير والفقه؟ وكيف يمكن قراءة النص بمنهج فكري معاصر؟

ينتقل المؤلف إلى تحديد أسباب التخلف والتقهقر والبؤس في عوامل داخلية وخارجية، ويركز على ما هو داخلي، دون إغفال أو إهمال ما هو خارجي، إذ يرى أن تدني المعرفة بالعربية وعلوم القرآن أدى إلى تنامي عدد الجاهلين بطرق استنباط الأحكام والفتاوى، وتزايد عدد من سمحوا لأنفسهم بالمساس بالنص. وللخروج من وضعية التردي، من اللازم بداية أن يستعيد الإسلام الجدل والحوار، ويكتشف مجدداً تعددية الآراء، ويفسح للاختلاف والتباين، ويتقبل حرية الآخر في التفكير بشكل مختلف، أي الحق في حوار فكري يتكيف مع الظروف التي تولدها تعددية الأصوات.

أما ما يمس العوامل الخارجية، فالكتاب واضح في حدود التعامل معها، إذ يستبعد تأثيرها، ولا يعدها أساس الداء الذي يفتك بجسد الإسلام، إلا أنه يعتبرها عنصراً محفزاً، وبسببها تضاعفت حدة الداء، ويحصرها في عدم اعتراف الغرب بالإسلام وتطويقه له، وجعله في حالة الملغى والمطرود كممثل لغيرية داخلية، بالإضافة إلى تنكر الغرب لمبادئه الخاصة عندما تتطلب مصلحته ذلك.

لقد قاد هذا التحليل إلى الوقوف عند مجمل العوامل التي أدت إلى انحسار العالم الإسلامي، واعتبار أن بعض بلدانه التي خضعت للاستعمار باتت قابلة لذلك، لأن المسلم الذي كان يدعي التفوق على الغربي أو التساوي معه على الأقل لم يتفهم المسار الذي أوصله إلى ما هو عليه في مواجهة الأوروبي، فتولد لديه الإحساس بالحقد تجاه الغرب، بدل الشعور بضرورة البناء الذاتي والابتكار، يخلص المؤلف إلى نتيجة أن الهيمنة الإمبريالية التي خضعت لها معظم البلدان الإسلامية ليست سبباً لانحطاط المسلمين، بقدر ما هي نتيجة له، ولأن المسلم لم يعد منذ قرون خلاقاً في المجال العلمي، كما أنه لم يعد يسيطر على التطور التقني، وقد أصبح مجرد مستهلك، بعيداً عن الإنتاج والاختراع.

ما يميز هذا الكتاب يتجلى في العديد من الإطلالات التاريخية والفلسفية والكتابات العربية فيما يخص الحضارة الإسلامية وفلسفتها، وما يرتبط بأفكار الإصلاح السياسي، ليبرز الفكرة المحورية للقسم الأول التي تتجلى في غروب شمس الحضارة الإسلامية، وفقدان غلبتها، الأمر الذي أدى الى ازدهار الأصولية الإسلامية، وبروزها على السطح الدولي، وأن ما حدث في 11 سبتمبر عام 2001 ما كان ليقع لولا الإبدال الذي لحق نموذج الغرب، الذي كان أوروبياً ثم أصبح أميركياً، وقد استعرض المؤلف في هذا السياق التأرجح الذي عرفته قضايا التحرر من الاستعمار، وتحرر المرأة، ومشاريع النهضة والحداثة في ضوء أفكار ابن رشد وعبد القادر الجزائري، وحمدان خوجة وقاسم أمين ومحمد عبده وطه حسين.

بعد هذا التشريح ينتقل المؤلف إلى الحديث عن أصل جذور الأصولية وفصلها، وتطور الأفكار الدينية من ابن حنبل إلى ابن تيمية مع إجراء مقارنات مع مفكرين غربيين مثل كانط مثلا الذي كان ينظر إلى القانون من خارج هذا العالم، وخارج أي اعتبارات تجريبية أو مشاعر إنسانية، حيث يعتبر الإنسان غاية وليس وسيلة، على عكس ابن تيمية الذي لا يبرح دائرة المركزية الدينية التي تخضع الإنسان للأمر الإلهي، مع العلم أن المؤلف يتساءل هل من الضروري التركيز على أن ثمة عالماً شاسعاً يفصل كانط عن ابن تيمية.

وبعد ذلك يتناول المؤلف الأحداث التاريخية التي رافقت حركة محمد بن عبد الوهاب على عهد محمد علي، وكيف عادت إلى إحياء مشروعها على يد آل سعود الذين تمكنوا من إخماد الفتن بين جميع القبائل والسعي إلى وحدتها لإنشاء الدولة السعودية في عام 1932 تحت راية العقيدة الوهابية.

ويلاحظ في أغلب صفحات كتاب أوهام الإسلام السياسي أن المؤلف عبد الوهاب المؤدب مشدود دوما إلى المقارنة بين الفلاسفة العرب والفلاسفة الغربيين، إذ يعتبر مثلا في القسم الثالث الذي عنونه بالأصولية في مواجهة الغرب أنه لو وجد مفكرون مثل الشاعر دانتي الذي يتجلى بالجرأة الفكرية عند مواكبته للواقع السياسي والتاريخي فيما كتبه، لكان بالإمكان أن يغيروا من الواقع، أو على الأقل أن يشكلوا قطباً مضاداً لبعض التيارات الأصولية، كما هو الشأن بالنسبة لشخصية فريديريك الثاني الذي لم يجد حرجاً في تبني الثقافة الإسلامية السائدة التي كانت تنور عصره، وقد اقتبس من أرض الإسلام، الغريبة عنه، أشكالاً سياسية وأفكاراً كان يعتبرها ملائمة للطبيعة، وقد كيفها مع شكل دولته، وتأتي هذه المقارنة في سياق التمني بأن توجد شخصية إسلامية لتنهض بالواقع الإسلامي، وتكيف في عصرنا هذا الديمقراطية مع أرض الإسلام، ثم تعممها على مجمل حضارته كما فعل فريديريك الثاني.

ويعود المؤلف بعد استطرادات تاريخية ليسلط الضوء على مسار وأفكار العديد من المفكرين السلفيين بدءاً من الأفغاني ومحمد عبده ومروراً برشيد رضا، وحسن البنا، ووصولا إلى سيد قطب، وأبي علي المودودي وانتهاء بحكم طالبان ومواقف أسامة بن لادن ليقف مجدداً عند قضية الانحطاط في محاولة لفهم الفروقات التي تميز الإسلام القديم عن الإسلام الراهن، ورصد الأسباب التي أدت إلى البؤس بعد الإشراق على يد مؤسس القاعدة، والدلالة اللغوية التي تحملها كلمة قاعدة سواء في ارتباطها بالمؤسسات العسكرية، أو بمفهوم القاعدة الشعبية، أو بمفهومها التقني في مجال المعلوماتية.

ينتهي الكتاب بقسم رابع يعد شبه محوري لمجمل أفكار المؤلف، أي ما يتعلق بمقولة إقصاء الغرب للإسلام، وينطلق مجدداً من حدث الحادي عشر لإلغاء مفهومي التضحية والسرية، محذراً عدم تفسيرهما بالعودة حصراً إلى تاريخ الإسلام وحضارتها، على عكس ما يذهب إليه بعض المستشرقين، أمثال برنار لويس، وجوزف فون هامر في كتابيهما عن الحشاشين، لترسيخ الربط بين ظاهرتي الإسماعيلية والقاعدية باعتبرهما النموذج العالمي للتآمر، وأعضاء جمعيات سرية «تسخر» الدين خدمة لطموحاتها.

يعد الربط بين الظاهرة الإسماعيلية والإرهاب الدولي نقطة الانطلاق لأي تحليل أو تفسير عند بعض المستشرقين كما هو الشأن عند برنارلويس، وبمجرد صدور الإرهاب عن أي موقع إسلامي، ويلتقي هذا الربط موضوعيا مع أطروحة هنتنغتون القائمة على صراع الحضارات، وينتهي المؤلف بتأكيده أن بعض الأسباب الداخلية تقتضي ضرورة الأخذ بمعرفة عميقة بأسس الجدل والنقاش والحوار، وفي ضوء النظر في السياسة التربوية للدول العربية والإسلامية لعلاج ظاهرة التطرف الديني والتعصب.

* كاتب من المغرب.