معرض فرانكفورت للكتاب يقدم «جائزة السلام» اليوم للمرأة الاستثنائية

TT

كان المكتبيون الألمان جد محقين هذا العام في منح جائزة «السلام» المرموقة للكاتبة الأمريكية سوزان سونتاغ ذلك انها امرأة استثنائية بالمعنى الحقيقي للكلمة. فهي تمتلك الحساسية المرهفة لفيرجينيا وولف، وقوة شخصية هالنا اراندت وعمق تفكيرها، وانسانية سيمون فايل، وشجاعة نساء نادرات عرفهن التاريخ البشري في مختلف العصور. على مدى الأربعين سنة الماضية، كانت تناضل على جبهات مختلفة. فمرة هي تهب لمناصرة كتاب ومبدعين رفضوا الانصياع لارهاب الانظمة الشمولية. ومرة تشن معارك حامية ضد اجهزة الرقابة السياسية والاخلاقية والدينية. ومرة تهرع الى الاماكن الساخنة في العالم لتقف الى جانب المضطهدين والمعذبين والمقهورين. وهذا ما فعلته خلال الحرب المدمرة في ما كان يسمى يوغسلافيا.

فقد سارعت بالسفر الى سراييفو لتعيش مع أهلها فواجع الحصار الطويل وآلامه. والآن هي فخورة بأن تكون مواطنة شرفية لتلك المدينة «الشهيدة». ومتحدثة عن التزامها السياسي، هي تقول: «ان كاتبا مثل البولوني فيتولد غومبرفيتش الذي يعجبني كثيرا كان فردانيا الى حد مخيف. أما أنا فاستطيع ان اقول انني اقل فردانية منه ربما لانني امتلك وعيا مدنيا واخلاقيا، الى جانب وعيي ككاتبة. وعياً لا بد ان اتيح له التعبير عن وجوده، لكني احاول ان افصل هذا عن الكتابة، ويعني ذلك الا استعمل المكتوب بغرض تمرير آرائي، ومواقفي. افضل ان افعل هذا في حياتي». وعن تجربتها في سراييفو تقول: «لقد امضيت بالفعل كثيرا من الوقت في سراييفو، لكن ليس ككاتبة، وليس بهدف البحث عن موضوع. انا لم اذهب الى هناك، الى «الميدان» كما يقولون لكي اكتب مشاعري وآرائي في ما بعد وانما انا ذهبت كإنسانة لأتضامن مع سكان مدينة كانوا يعانون من الحصار ومن الحرب».

ولدت سوزان سونتاغ في نيويورك في السادس عشر من يناير (كانون الثاني) 1933. وفي البداية عاشت هي واختها بعيدتين عن والديهما اللذين كانا مقيمين آنذاك في الصين، حيث كانا يمارسان تجارة الفرو. وكانت في السادسة من عمرها حين توفي والدها بمرض السل. وفي ما بعد سوف تستحضر هذا الغياب المبكر للأب الذي يبدو انه ترك جرحا عميقا في نفسها وذلك في واحدة من اجمل قصصها حيث تقول على لسان احدى الشخصيات: «انني أبكي دائما في السينما كلما كان هناك مشهد يعود فيه الأب بعد غيبة طويلة ومأساوية ليقبل ابنه أو ابناءه».

عقب وفاة زوجها، عادت والدة سوزان سونتاغ الى الولايات المتحدة الامريكية لتستقر مع ابنتيها في اريزونا. وبعد ان تزوجت ثانية، انتقلت لتعيش معهما في احدى ضواحي لوس انجليس، وفي هذه الفترة بدأت سوزان سونتاغ تظهر ميلا كبيراً لقراءة كل ما كان يقع تحت يديها. ومن خلال مجلة Partisan Review تعرفت على الكتاب الامريكيين الطلائعيين الذين سوف يؤثرون فيها ادبيا وفكريا في وقت لاحق. وفي جامعة شيكاغو حيث كانت تدرس الفلسفة، التقت فيليب ريف، وهو عالم اجتماع مرموق وتزوجته عام 1950 غير انها سرعان ما انفصلت عنه بعد ان انجبت منه ابنا.

انطلاقا من اوائل الخمسينات، شرعت سوزان سونتاغ تعمل مدرسة في العديد من الجامعات الامريكية الشهيرة مثل هارفارد وكولومبيا. في الآن نفسه، راحت تنشر مقالات ودراسات نقدية وفكرية في المجلات الطلائعية حول الرواية الفرنسية الجديدة مجسدة في اعمال ناتالي ساروت وفي الموجة النسائية التي برزت من خلال افلام مخرجين فرنسيين من امثال غودارو ريسنيه وبريسون. وفي مجمل تلك الدراسات وتلك المقالات التي لفتت اليها انظار النقاد والقراء على حد سواء، دافعت عن فكرة تقول بأنه يوجد ذوق فاسد وذوق سليم وان عملا ادبيا سيئا يمكن بل يجب ان يقدر ذلك لأنه بشع تحديداً ولأنه تافه وبلا معنى. وفي «العمل الفني يتكلم» الصادر عام 1966 كتبت تقول: «ان دور النقد ليس تحليل مضمون العمل الأدبي أو الفني وانما السعي الى بلورة «ايروسية» الفن أو تفسير كيف ولماذا يتوصل عمل فني الى احداث صدى حواسي». ومنذ ذلك الحين، سوف تعرف سوزان سونتاغ شهرة عالمية واسعة، وسوف تصبح واحدة من ألمع وجوه الأدب الطلائعي لا في الولايات المتحدة الامريكية وحدها وانما في العالم بأسره. ومتسلحة بشهرتها تلك انطلقت الى فيتنام لتدين بقوة من خلال كتابها: «رحلة الى هانوي» الحرب التي كانت تشنها بلادها ضد الوطنيين الفيتناميين. وبعد ان سافرت الى العديد من البلدان مثل فرنسا وايطاليا والسويد، عادت مطلع السبعينات الى الولايات المتحدة الامريكية لتنشر دراسة عن فن الصورة الفوتوغرافية كان لها وقع عالمي كبير. ورغم ان الاطباء اكدوا لها انها لن تعيش ازيد من عامين وذلك عقب اصابتها بسرطان الثدي عام 1976، فإن سوزان سونتاغ تمكنت من الانتصار على المرض الخبيث. ومن وحي تجربتها المريرة معه اصدرت كتابا رائعا حمل عنوان: «المرض كاستعارة».

الى جانب الدراسات النقدية، كتبت سوزان سونتاغ العديد من الروايات، اشهرها رواية «عاشق البركان» التي تدور احداثها في جزيرة صقلية خلال القرن التاسع عشر. بطل الرواية اللورد هاميلتون، الذي كان آنذاك سفيرا لبريطانيا لدى المملكة الايطالية. وكان يعيش في نابولي، ويمضي اغلب اوقاته في جمع الآثار الفنية في حين كانت زوجته الليدي هاميلتون منصرفة الى عشيقها الاميرال نيلسون، الرجل الوسيم، القوي الشخصية. وعن هذه الرواية، تقول سوزان سونتاغ: «حتى ولو انني تطرقت الى العديد من الاحداث التاريخية في تلك الفترة مثل تأثيرات الثورة الفرنسية على المجتمع الايطالي، ودور العرش البريطاني في عمليات القمع الدموي التي شهدتها مدينة نابولي، غير انني استطيع ان اقول بأنني لم اكتب رواية تاريخية بالمعنى الحقيقي والدقيق للكلمة، وانما استعملت ذلك لكي ارسم صورة لما نعيشه راهنا ذلك ان نهاية القرن التاسع عشر كانت حلقة الوصل مع حداثة القرن العشرين».

وعن الشخصيات النسائية في الرواية المذكورة تقول سوزان سونتاغ: «ان صمت النساء في «عاشق البركان» هو الذي كان يهمني اكثر من اي شيء آخر، فالرواية تبدأ بمشهد فيه يفعل رجل ما يريد لأنه رجل، ولأنه ينتسب الى طبقة راقية، ثم لأنه يمتلك وظيفة مرموقة. حوله نساء يمكن ان يؤثرن على سلوكه وعلى تفكيره. غير انه واضح منذ البداية ان دوره هو ان يتحرك بكل حرية في العالم، اما دور النساء هو ان يكن حاضرات، لكن ليس بالقوة المرغوبة من قبلهن. لذا اردت ان تقطع هاتيك النساء صمتهن وان يتكلمن حتى ولو كان ذلك من وراء القبر. فعندما نموت، بامكاننا ان نتكلم بكل صراحة إذ لا شيء يمكن ان نفقده او نخسره. لذا جعلتهن يتلفظن بكلام ما كان بوسعهن ان يتلفظن به لو كنَّ على قيد الحياة».

وراسمة لنفسها صورة من خلال نساء رواية «عاشق البركان» تقول: «ان اصوات النساء الأربع في آخر الرواية هي صوتي أنا. فأنا كاثرين المرأة المازوخية والطهرانية ذات الافكار الشجاعة، لكن غير الواثقة بنفسها. وانا مدام كادو غان، الام الغبية والساذجة التي تقارب كل ما هو مضحك. وانا اليونورا ايضا المرأة المثالية المستعدة للتضحية بكل شيء، والثورية المحكومة بالاعدام، وانا ايسا، النجمة التي لم تفهم حقا لماذا اصبحت نجمة، وهذه هي حالتي، فهم يرفعون من شأني دون ان تكون لي موهبة معينة. فكما انتم تعلمون، الصورة البراقة التي تصنعها وسائل الاعلام لا علاقة لها مطلقاً بالغاية الحقيقية للكاتب».