روائي مغربي يخلط بين الإنس والجن والذاكرة والنسيان بحثاً عن الكتابة

رواية «حارث النسيان» لكمال الخمليشي تحتشد بعوالم متباينة ومتناقضة ومواقف وأحداث في تلازم ماهر بين اللغة والحكي

TT

تزخر رواية «حارث النسيان» لكمال الخمليشي، الصادرة عن مطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء، برؤى وعوالم خارقة، وشخوص متعددة رئيسية، ولقاءات وتنقلات في أمكنة وأزمنة، يتناغم فيها الواقع والخيال لدرجة الانصهار، بشكل يضفي على فضاء الرواية الخصب نوعا من الانزياح عن الحياة العادية. فعلى مدى 261 صفحة و33 قطعة مرقمة من 1 إلى 33 لأخذ النفس والاستراحة لصعوبة قراءة العمل في جلسة واحدة، تواجهنا عوالم مثيرة، وشخوص رئيسية وأخرى ثانوية في صفات الآدميين وعفاريت الجن بأسماء أخيار وأشرار. في مقدمة الآدميين السارد «سامي» وأفراد الأسرة اليهودية التي كانت تعيش في تاركيست قبل الانتقال إلى الدار البيضاء، والمكونة من الأبوين والابن جوزي والبنت إيلينا، ثم بالدار البيضاء السيدة سيمون المرأة اليهودية المسنة التي أنقذت سامي من اعتداء كان على وشك أن يتعرض له، وكان هذا الحادث سببا في علاقته بها والتردد على بيتها. ثم السيد روبير اليهودي المسن أيضا، الذي يشتغل على استخراج الكنوز، وكان بصدد التنقيب عن كنز بضاحية العرائش عندما التقى به سامي في طنجة، وبفضله سيلتقي في جنيف بالتاجر دفيد وابنته فادونيا. أما الشخوص في صفات عفاريت الجن فيأتي على رأسهم الجني مسرور (صاحب الطلسم) الذي يمثل الخير ويظهر لسامي في لباس أبيض، وهو خادم صاحب السر الأعظم، والجنية (العجوز الشمطاء) التي تمثل الشر، وظهرت بلباس أسود مرة واحدة في مشهد مخيف وعجيب بالصفحتين 104 و105... إلخ.

* دائرة المكان والزمان

* لا شك أن أحداث أي رواية تحدث في مكان وزمان، ليس بالضرورة أن يكونا محددين، خاصة إذا كان الكاتب ينطلق من الحلم ويعتمد الخيال. ينطلق الراوي في هذه الرواية من بلدة تاركيست، عن طريق الاستدعاء والتذكر أي بنقل وعاء الماضي وربطه بالحاضر، واستحضار عوالم الطفولة والشباب والنبش في الذاكرة: «كانت حياتي في تاركيست كئيبة مثل شتاء دائم...» (ص 11)، وهي الجملة التي تستهل بها الرواية، وكذلك بالنسبة للدار البيضاء التي انتقل إليها السارد بعد حصوله على الشهادة الابتدائية: «كان حلولي بهذه المدينة العملاقة مخيفا بكل المقاييس... وجدتني فيها وسط الضجيج والدخان ونزق الوقت والناس والسيارات». (ص 26) وهذا الانتقال في المكان والزمان يجعل الرواية كلها عبارة عن محطات لقطار يسير على الدوام نحو محطته النهائية، مثل العمر تماما، ينتقل خلاله المرء انتقالا جسديا وروحيا أو خياليا في الأمكنة والأزمنة، يقول السارد: «سافرت في الأزمنة والأمكنة، وأخذتني أحوال وأهوال، سنين وسنين، وارتاحت روحي لمدينة الرباط...»، (ص58).

هكذا يحاول السارد وصل حبل حياة الماضي المرة و/أو اللذيذة والأيام الشقية و/أو السعيدة، ويسعى إلى تحويلها إلى مشاهد زمنية باستخدام أفعال التذكر وصيغ الماضي، لتصبح الكتابة عنها شكلا من أشكال البحث عن الذات، وعن الزمن المفقود، كما يحاول تقديم شهادة على أنه عاش تلك الحياة بالفعل، سواء بالوعي أواللاوعي، كأنه يقول مع القائل: «أشهد أني عشت»، أو يتساءل مع السائل: «من أنا اليوم؟!» كل ذلك في فضاء روائي جذاب يمتازبتقنية لغوية وتعبيرية رائعة تغوص في مكنونات الذات الكاتبة والزوايا الخفية التي تحيط بها في الزمان والمكان اللذين يسعفان الكاتب أثناء عملية التذكر والاستحضار، بعد أن طوى النسيان ما شاء أن يطوي من الصفحات المنطوية بين دفتي الذاكرة، بفعل مرور الأيام والأعوام، فيقوم بعملية حرث لهذا النسيان، ثم جمع المحصول الكامن في عصارة ما يتذكره عن حياته المادية والروحية والنفسية.

لكن عملية التذكر ليست بالسهلة، بل هي سير في دهاليز النسيان، ومغامرة في كهوفه المظلمة، المحفوفة بالمخاطر والمفاجآت السارة والسيئة، وهل يتذكر الإنسان الأشياء كما حدثت بالفعل وبالذات أم يتذكرها بطريقة مختلفة ممزوجة بأشياء أخرى لم يكن يعرفها ويعيها في الماضي، لكنه أصبح يدركها في الحاضر تمام الإدراك، نظرا لاختلاف الظروف الزمكانية، وكذلك النظرات والرؤى، وتلك هي القضية؟ ولم لا تكون عملية الكتابة الإبداعية حرث بالقلم لحياة الكاتب أولا، ومحيطه ثانيا، من أجل استخراج مسارات تلك الحياة، بما تمثله من وجود فيزيقي وميتافيزيقي.

يعتبر ميلان كونديرا الرواية الوسيلة الأنجع لمقاومة النسيان. لكن هل للإنسان قدرة على نسيان كل ما يريد نسيانه، وتذكر كل ما يريد تذكره. في إحدى لقاءاتهما عن طريق الاستحضار جرى بين «سامي» وصديقه «مسرور»، حول إشكالية النسيان، الحوار التالي:

(الكلام في البداية لسامي):

ـ لقد رأيت أمورا مفرحة وأخرى محزنة! فكيف سأعيش سعيدا وأنا أعرف ما ينتظرني من معاناة؟

ـ حين سنفترق سوف تنسى معظم ما عشته هذه الليلة، ومن حين لآخر ستتذكر بعض الأشياء كمجرد حلم.

ـ لا أظنني سأنسى ما رأيته! ـ كن متؤكدا من أنك ستنسى! ـ ...

اختفى مسرور، واستفقت منشرح الصدر، كأني خرجت لتوي من حلم جميل، لكنني لم أتذكر ما حصل لي، ليلتئذ، باعتباره قد حصل بالفعل، بل تذكرته مثلما تستذكر سائر الأحلام التي يطويها النسيان»، (ص 77 وص 78).

ولما تراءى له مرة أخرى قال له سامي: « ـ كنت أعتقد أنك نسيتني.

ـ كيف لي أن أنساك بعد العهد الذي تم بيننا؟! ـ ظننت أنك لن تتذكر وجهي بين باقي الوجوه التي تصادفها بالآلاف وربما بالملايين.

ـ نحن لا نملك ذاكرة محدودة مثلكم، تنسى أكثر مما تتذكر، بل نملك ذاكرة أبدية لا تعرف النسيان»، (ص 100).

إن الصورة العامة للسرد في رواية «حارث النسيان» مؤسسة على هالات وصور يسترجعها الراوي في علاقته مع باقي الشخوص في أحلامهم ورؤاهم ورغباتهم بالاستناد على اللغة التي هي بمثابة العربة والمحرك الحقيقي للانطلاق نحو تفصيلات السرد لعوالم متباينة ومتناقضة، واتخاذ المواقف وشرح الأحداث في تلازم ثنائي بين اللغة والحكي اللذبن يسحران القارئ ويشدانه برفق وحميمية، حيث تتداخل اللغة الشاعرية مع السرد، ولا غرابة في ذلك ما دام كاتبنا شاعرا وروائيا في نفس الوقت، أو بالأحرى كان شاعرا قبل أن يصبح روائيا.

يتذكر السارد ماضيه ويتخيله، ويريد أن يعرف مستقبله، يقول لمسرور: «أريد أن أعرف مستقبلي! «فيستوضحه: «أي مستقبل تقصد؟ فهناك المستقبل الأرضي والمستقبل العلوي؟ وهناك المستقبل المادي والمستقبل الروحي!»،(ص55)، يطرح أسئلة وجودية يصعب إيجاد جواب واضح لها، لأنها تروم معرفة الغيب ورؤية اللامرئي وإدراك الخفي، لكن ذلك ليس ببعيد عن إنسان غير عادي مثل «سامي»، في أناه وشخصه. فقد أخبرته مولدته، والدة صديقيه إيلينا وجوزي، في تاركيست، أنه ولد محاطا بهالة من نور! ويقول هو عن نفسه مخاطبا جوزيفا بعد أن دار كلام بينهما: «لا يمكنك أن تفهمي كلامي! لأن حياتي ليست كحياة باقي الناس، فقد أظهر وأختفي في أي وقت دون إرادتي»، (ص 106).

وبين تذكر الماضي والتشوف لمعرفة المستقبل، يرتاد السارد أفق المغامرة إزاء سطوة الوجود ويقتحم الحياة والوقائع جاعلا المعيش ينصهر في المتخيل، ويردم الهوة بين الواقعي والخيالي، يعيش الخيال المتصل، والخيال المنفصل حسب مفهوم ابن عربي. يعيش الأول بالمعنى السيكولوجي باعتباره أداة إنسانية للادراك والمعرفة، ويعيش الثاني بالمعنى الوجودي بجانبه الفيزيقي والميتافيزيقي. ويصل إلى مرتبة من البراعة في خلق لحظات الترقب والانتظار والمفاجآت خارج إطارها الزمني العادي والمرتب، ويكسر المتتاليات الزمنية العادية، إما باستباق الحدث أو التنبؤ به قبل حدوثه، أو بالانتقال من مكان لآخر عبر الرؤيا أو التخيل والاسترجاع. فنجده مثلا وهو في ضيافة صديقته إيلينا بالدار البيضاء، ينتقل عبر الرؤيا إلى مدينة الحسيمة: «رأيتني في الحسيمة محاطا بالأهل والخدم والحشم… وأقبلت علي الدنيا بسخاء، حتى ظننتها لن تدبر أبدا… إلى أن صادفت غولا من الوزن الثقيل، كاد يأتي على كل شيء، فانفض «الأعدقاء» من حولي، ظنا منهم أنني انتهيت، وازور عني المقربون، وانزويت في عزلتي مثخنا بالرزايا» (ص 70 وص 71). ويرى كابوسا تتم فيه محاولة خنقه وهو بالدار البيضاء وكذلك خنق صديقته إيلينا وهي بالصويرة، في نفس الليلة، ودلت عليه آثار بدت على نحريهما معا. (ص 138 وص 139).

يشاء القدر أن يفرق بينه وبين الأسرة اليهودية التي عاش معها جزءاً من طفولته في تاركيست، بعد أن توطدت علاقته بجوزي وأخته إيلينا، ثم يشاء القدر أن يلتقي بهما مرة أخرى في الدار البيضاء وتستمر علاقته بهما مدة طويلة، وسيضطر لفراقهما، مرة أخرى، بعد أن تعلق بإلينا وتعلقت به تعلقا شديدا، فينضاف هذا الفراق للفراق الأول بتاركيست، وكان الفراق الثاني أصعب من الفراق الأول، رغم أنهما جاءا مفاجئين. فالأول جاء إثر قرار والد جوزي، في سرية تامة، مغادرة تاركيست رفقة أفراد أسرته، أما الثاني فأخبره به زوج أخته، إثرقرار تنقيله المفاجئ من الدار البيضاء إلى الحسيمة.

توسل سامي إلى صديقه مسرور (صاحب الطلسم) كي يحول دون انتقال زوج أخته، بأي وسيلة، فكان رده مخيبا للأمل: «لقد قلت لك، في السابق إننا لا نتدخل في حياتكم المادية».

يدخل السارد، بعد فراق الدارالبيضاء، عالم الجن والعفاريت من بابه الواسع، حين سافر بالحافلة رفقة أخته من الدار البيضاء إلى الحسيمة، حيث ظل مسرور يظهر له بشكل جعل أخته توجه له تنبيها، كرد فعل لها على ما كان يقوم به من حركات مثيرة لمن حوله من الركاب، (ص 116 وص 117). ويحدث أمر غريب عندما طلب منه، صاحب طلسم، في مقهى بمدينة الخميسات، تمثل له في صفة آدمي، أن يملأ له جدولا، وفجأة انطفأ النور(أطفأه صديقه مسرور!)، وبدأ الصراع والمواجهة بين الطاقات الخارقة وقواتها (ص 120)، قال له الجني (الذي يمثل القوة المضادة لقوة مسرور):

« ـ أكتب وخلصنا! فالفجر أوشك على الطلوع.

ـ ياسيدي! إن يدي مشلولة، ولا أقدر على تحريكها».

وفي هذه اللحظة، يقول سامي: «تقدم نحوي أحد زبانيته، بصلف، حاول الإمساك بأصابعي، فانبعثت منها شرارات حارقة، أبعدته عني، بعدما صعقت كفه وأثارت عويله، ثم فرهاربا، نحو صاحب التخت، وهو ينتحب ويصرخ شاكيا بصوت متألم:

ـ إنه ممسوس يا سيدي! وطاقته أكبر من طاقتنا.

ـ يجب أن ننسحب، فالشمس لن تنتظرنا. (قال صاحب التخت بقلق).

واختفى كل شيء، وبدأت أصرخ بصوت مرتفع:

ـ إيلينا! إيلينا! إيلينا...

استفقت فوجدتني في الحافلة، جنب أختي، كانت تهزني هزا مفرطا كي أنهض من نومتي العميقة، وكان جسدي يتفصد عرقا»، (ص 120).

يقضي السارد (سامي) سبع سنوات بالحسيمة، ينقطع فيها الاتصال نهائيا بينه وبين أصدقائه بالدار البيضاء بسبب تغيير محلات سكنى وعناوين الطرفين، ثم ينتقل بعد حصوله على شهادة الباكالوريا إلى الرباط لمتابعة دراساته الجامعية، ويكتشف خلال زياراته لمدينة الدار البيضاء في نهاية كل أسبوع أن السيدة سيمون قد توفيت منذ أربع سنوات، ويلتقي ذات مرة بإيلينا صدفة بكورنيش عين الذئاب رفقة ابنها الصغير وصديقتها جوزيفا التي سبق له أن حدثها عنها، بفراسته المعهودة، منذ فترة طويلة قبل أن يراها، كما تحدث عن هذا اللقاء قبل أن يتم كذلك. وتخبره أن زوجها مات منذ ثلاث سنوات، عندما لاحظت برودة تعامله معها، وكأنها تدعوه ليتجرأ عليها أكثر، ويتعامل معها ليس كامرأة متزجة أو ملتزمة.

* رمزية الكنوز

* تنقلنا الرواية إلى عوالم غريبة، وفي نفس الآن تسجل ظاهرة اجتماعية معيشة من طرف كثير من الأفراد، ومنتشرة منذ القديم ببلدان كثيرة في شتى أنحاء المعمور، منها المغرب، وهي ظاهرة التنقيب عن الكنوز، وما يحيط بها من معتقدات وخوارق. والاشتغال على استخراج الكنوز عمل في منتهى الخطورة لما يضمره من مجازفة قد تقود كل من يقدم عليها من دون معرفة عميقة بعلوم «الجداول والتعزيم»، الى حد الاختفاء عن الوجود عند أي خطأ يقوم به! ومن أغرب المعتقدات والوصفات الكثيرة للكشف عن الكنز أو الخبيئة بيضة الديك الذهبية، (التي لا وجود لها الا في خيال المشتغلين في هذا الميدان)، حيث توضع البيضة العجيبة في المكان المشكوك في وجود الكنز فيه، فاذا كان الكنز موجوداً بالفعل، فإنه بمجرد وضع البيضة فيه، ستنفتح الأرض (مثل كنز علي بابا) ليأخذ المنقب من محتويات الكنز ما يشاء! ومن جملة من بحث الظاهرة بالمغرب عالم الاجتماع بول باسكون. أما ابن خلدون فاعتبرها في مقدمته عملا ومعاشا غير طبيعيين، حيث خصص لها فصلا كاملا تحت عنوان: «الفصل الرابع في أن ابتغاء الأموال من الدفائن والكنوز ليس بمعاش طبيعي».

وهناك معتقدات مغربية في الموضوع لها مراجع خاصة بها يعتقد معها المرء أن المغرب مستودع عجائبي للكنوز.

تترى أحداث الرواية، مرة في الحلم وأخرى في الواقع، وتمرلحظات القراءة يتخيل معها القارئ أنهما شيء واحد أو وجهان لعملة واحدة، ويعيش مع الراوي عوالمه الروحانية وخوارقها. يروي عن الأوقات الممتعة مع إيلينا دون أي حواجز، حيث أصبح يمارس معها الجنس بشكل كامل، وقد عاد رجلا فحلا، وليس بالطريقة الناقصة، عندما كانت تخلو به قبل بلوغه، أيام الطفولة. أوقات كان يقضي معظمها رفقة إلينا وأخيها جوزي وزوجته كريستينا في «السباحة والاستجمام بشواطئ عين الذئاب وبوزنيقة والتمارة...»، (ص 134). أما في طنجة، فكان يتردد على ( فندقي سولازيور والموحدين ومرقص «أهلا»). وفي إقامة بالجبل الكبير يتعرف، عن طريق إيلينا واخيها، بالسيد روبيرالذي يكتشف بسرعة ما يحمله من مزايا روحانية. يتفاجأ «سامي» فيسأله كيف عرف ذلك؟ ويجيبه: « ـ التجربة والعمر الطويل يمكنان المرء من سبر سائر الأعماق»، ( ص 154). كان السيد روبير على معرفة باستخراج الكنوز ويبحث عن استكمال الشروط للحصول على مفتاحها، فسأله سامي باندهاش:

« ـ أية كنوز؟

ـ الكنوز المخفية تحت الأرض.

ـومن أخفاها تحت الأرض؟

ـ الجن والإنس»، (ص 157).

ويطلب منه أن يتوسط له عند صاحب السر الأعظم كي يحظى بالنظرة النورانية منه، باعتبار أن سامي قد حظي بها (ص 160). وبالفعل تمكن روبير من الحضور إلى مقام صاحب السر الأعظم والحظوة بالنظرة النورانية، عندئذ سأله سامي عن علاقة هذه النظرة بالكنوز فأجابه: «تحمي صاحبها من شر العفاريت، وتمهد له الطريق للوصول إلى الكنوز المخفية في باطن الأرض، إن هو احترم الطقوس اللازمة للتنقيب عنها»، (ص 172). وهكذا يشارك سامي السيد روبير في عملية استخراج كنز العرائش في مغامرة غريبة، ووجدا فيه صندوقين يحوي احدهما على الألماس الخام بقيمة خيالية وقطع نقدية تعود لعهد الرومان، ويحوي الثاني، الذي كان من نصيب سامي، عن طريق القرعة، مخطوطا عتيقا تتحول كتابته من العبرية إلى العربية بمجرد محاولة قراءته. (من ص 179 إلى ص 186)، لكن روبيركان كريما وذا أريحية فأخبره بأن يقتسم معه نصيبه من الكنز بعد السفر لقبض قيمته في جنيف. وفعلا قرر روبير أن يسافرا معا فاستقلا الطائرة ونزلا في فندق «أبريستول» قرب البحيرة الساحرة «لمان»، (ص 190). وقضى سامي أوقاتا سعيدة وممتعة هناك بمجرد تعرفه على فادونيا ابنة التاجر دفيد صديق السيد روبير، وعبر عن ذلك بقوله: «لم أكن أتخيل أن الحياة في جنيف ستكون سخية معي بهذا الشكل المدهش»، (ص207). وكان محقا، فها هو قد فاز بفتاة جميلة، كاملة الأوصاف، لم يتردد في وصفها وصفا رائعا، تكاد فيه الحياة تدب. لكن سرعان ما تنقضي اللحظات الجميلة، إذ لم يمكث في جنيف سوى ثلاثة أيام، كانت كافية ليتعلق بفادونيا وتتعلق به بشكل جنوني، ولما رآه روبير في تلك الحالة، قال له ناصحا ومصبرا: «يا بني! كل شيء في الحياة محكوم عليه بالنهاية، والنسيان هو الحل الوحيد الذي يساعدنا على الاستمرار، وإلا كنا سنموت غما منذ أول غياب يلم بنا.

ـلكنني تعلقت بتلك الشقية (يقصد فادونيا) بشكل عصي على النسيان.

ـوهل نسيت إيلينا بهذه السرعة؟! ـالمسألة أقوى مني! ولا علاقة لها بإيلينا»، (ص 222 وص 223).

بعد مغادرة حلم جنيف السعيد واللذيذ، قفل راجعا إلى طنجة، ليتوجه بعد يوم واحد نحو الحسيمة صحبة إيلينا وأخيها وزوجته كريستين، واستقر الجميع بفندق «كيمادو» الذي: «كان السياح الأجانب يتقاطرون عليه من كل أنحاء المعمور...»، (ص 232). توجه هو وجوزي، ليلا، للتنقيب عن كنز تاركيست، الذي كان والد جوزي قد اهتدى إلى موقعه: «بواسطة الخريطة التي رسمها سيدي العربي الغريب»، (ص46)، لكن إسحاق الإسلامي الجد الأكبر لجوزي كان: «أخذ الكنز من مكانه الأول ...»، (ص 47).

عند وصولهما إلى المكان المحدد للتنقيب، تحدث أمور غريبة بين أجساد الإنس وأرواحها، من جهة، وعفاريت الجن، من جهة ثانية، حيث انطفأت الشموع بفعل الريح «الهفافة»، وتم دخول العالم اللانهائي، أعقبه السؤال عن الوجود على الأرض، وعن الظاهر والباطن، وتلدغ سامي أفعى تجعله بين الحياة والموت، فينقل إلى مستشفى الحسيمة للعلاج من اللدغة. ويعانى آلاما ويعيش أحلاما ورؤى كثيرة، قبل أن يمتثل للشفاء. إلى هذا الحد لا بد لأسئلة أن تطرح حول ما هو حقيقي في الرواية وما هو خيالي أو رمزي، وما هي الخيوط الرابطة بين هذه العوالم كلها؟ فيحق لنا القول في النهاية إن عملية التنقيب عن الكنوز في الرواية، بما تعكسه كظاهرة اجتماعية وما تحمله من حقائق معيشة، هي مجرد حقل تجريبي خصب، أو مختبر للتجارب الشخصية لسامي في الحياة ـ مثلما فعل سرفانتيس وجرب بإبداعه الخيالي، في «دون كيخوته»، حيث وجد في الطواحين الهوائية خصما وميدانا للمبارزة وإظهار براعة فارسه، وفي نفس الوقت السخرية من ظاهرة الفروسية في عصره، حتى أن إحدى الطواحين، لما اشتدت الرياح، طيرت الفارس وجواده في الهواء.

هكذا تصبح كل مكونات هذا العمل الروائي المتفرد وفسيفسائه شكلا من أشكال التأمل في الوجود، المحاط بالأحداث والفضاءات الأخرى، وعبارة عن اختبارات ورؤى صادقة، وصفحات من حياة الكاتب المادية والنفسية والروحانية، فيغدو مسرور رمزا للإلهام ومجرد مصدر من مصادرالإبداع والخيال الجامح والموهبة، يستشف ذلك من كلامه مخاطبا سامي ـ الراوي ـ الكاتب:

« ـ يمكنك أن تدخل عالم الكتابة من الآن! وأرجو ألا تنساني في كتابتك. ـ لن يصدقني أحد إن كتبت عن علاقتنا.

ـ سوف تجد دائما من يصدقك! لأن أهل السر، مثلك، كثيرون حتى وإن كانوا لا يتعارفون فيما بينهم».

ـ قد يحالفني الحظ وألتقي بالبعض منهم.

ـ أرجو ذلك، وأرجو ألا تندم على اختيارك الكتابة، فهي الأبقى، وهي الوحيدة التي تحيي الماضي وتخلده أبد الآبدين»، (ص 260).

إذن فالكتابة الإبداعية هي التي ستبقى، وقد اعتنقها الكاتب وحصل على رخصتها بامتياز، وما الصندوق المحتوي على المخطوط العتيق إلا رمزا لها (الكتابة) في الزمان والمكان، بعد أن أذكتها وشحذتها آلام ومحن تجسدت في لدغة الأفعى الروحانية ـ الرمز، التي لم يصدق سامي أنه شفي منها، وأنه يستطيع أن ينتقل إلى عالم الكتابة ويدخله من بابه الواسع، لذلك سأل مسرورا عما إذا كانت لدغة الأفعى تلك ستختفي فأجابه:

«أجل! هي أيضا ستختفي، وستبقى ندبتها فقط، لأنها لم تكن لدغة أفعى حقيقية بل لدغة روحانية»، (ص 243). وهكذا تتحول الأفعى ولدغتها إلى مجرد رمز للمحن والمعاناة والتألم كمعين لا ينضب للكتابة التي اختارها سامي ـ الكاتب ـ واعتنقها في النهاية، أما الكنوز التي ترمز للمال بصفة عامة، (الكنز لغة هو المال المذخور تحت الأرض) فلم يكن من نصيبه منها سوى المخطوط العتيق الذي تتحول كتابته من العبرية إلى العربية بمجرد محاولة قراءته، كتأشير على الكتابة والتعبير باللغة العربية.

* الكتاب: حارث النسيان

* المؤلف: كمال الخمليشي

* الناشر: مطبعة النجاح الجديدة ـ الدار البيضاء 2003