حين يبيع العلماء أرواحهم للشيطان

بلغ عدد الفيزيائيين الألمان الذين انضموا للحزب النازي ما نسبته 44.8%، وهو أعلى تمثيل لأية نخبة محترفة

TT

من المعروف أن العلماء الألمان قادوا العالم في حقول متعددة من العلوم والمعارف عند نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين: روبرت كوخ اكتشف اسباب مرض الجمرة الخبيثة (انثراكس) والكوليرا، البرت اينشتاين اكتشف النظرية النسبية، ماكس بلانكس طور نظرية الكم الفيزيائي، فرتس هابر ركب ماء النشادر، وهكذا يمكن لقائمة مساهمات العلماء الألمان الذين عملوا في المختبرات العلمية ان تمتد الى ما لا نهاية. هذا اضافة الى ان نصف حاملي جوائز نوبل في العلوم الطبيعية والطب خلال العقدين الأولين من القرن العشرين كانوا من الألمان.

عام 1933، حينما استولت النازية على السلطة في المانيا واجه هؤلاء العلماء فجأة مشكلات اخلاقية ذات حدين، لم يسبق ان واجهوا مثلها من قبل. فبعض هؤلاء العلماء الحاملين لهذا الإرث العلمي الكبير عمل للدولة حيث طوروا كل العلم الزائف للتطهير العرقي، معتمدين على الجهود الصناعية والعلمية للعمل العبودي، مبدين حماساً وتنافساً للاعتمادات المالية والاعتبارات الشخصية. وبلغ عدد الذين انضموا الى الحزب النازي من الفيزيائيين الألمان ما نسبته (44.8) في المائة وهو اعلى تمثيل لأية نخبة محترفة حيث يأتي المحامون بعدهم بنسبة (25) في المائة. اما البعض الآخر من العلماء فقد تعامل مع النازية من منظور ايجابي لهذه العلوم سعياً وراء تحقيق انجازات لخدمة قضية الانسان.

فعلى امتداد 34 فصلاً يسوح كورنويل عبر كل اطياف العلم الحديث مفرزاً العلماء الابطال عن الخانعين، المقاومين عن المتعاونين. فعلماء مثل اينشتاين وهابر كانوا امثلة بارزة لضحايا النازية التي اجبرتهم على التخلي عن وظائفهم عام 1933 وبالتالي تركهم لوطنهم الأم، ألمانيا. ومن العلماء المتعاونين ترد في الكتاب اسماء علماء حاولوا في مجالات عدة تطوير «علم الماني» ذي سمة محلية.

وفيما أدانت «الفيزياء الألمانية» النظرية النسبية باعتبارها اختراعا غير الماني، خصص هملر وجهاز أمن الدولة اعتمادات مالية لصالح حقول مهمة مثل علم الوراثة وانتقال الجينات الوراثية وارسلوا بعثة الى التبت لمحاولة الكشف عن اصول الجنس الشمالي الذي تربطه علاقة بسكان شمال اوروبا حيث تتميز اجسام هذه الشعوب بطول القامة والرأس والشقرة والعيون الزرق. غير ان هذه المبادرات لم يكن لها ذلك الاثر الكبير في المسير الطويل على الطريق الرئيسي للعلم وعلاقته مع النظام النازي، وهو احد المحاور التي يركز عليها كورنويل في كتابه.

وكما هو معروف فإن العلم، خلال جميع الحقب التاريخية، دائماً ما تم الالتجاء اليه حينما كانت هناك حرب مشتعلة، وضمن هذا الاطار فإن المانيا لم تكن استثناءً. والنقطة المركزية في كتاب كورنويل يحتلها الفيزياوي فيرنر هايسنبرغ الذي ارتبط اسمه بتطوير قنبلة ذرية للرايخ الثالث.

وكانت التكهنات قد كثرت حول نشاطات هايسنبرغ حول ذلك، حيث ادعى البعض بأنه كان يتباطأ في بحثه عن عمد حتى يحرم هتلر من فرصة تدمير لندن أو موسكو.

يعرض كورنويل، وبقناعة، بأنه لم تكن هناك اية امكانية لنجاح النازي في سباقه لتطوير قنبلة نووية اذا انه لا سبيل هناك للمقارنة مع ما وضعته اميركا من تمويلات وموارد هائلة في هذا الخصوص. غير ان النازيين، عوضاً عن ذلك، بددوا توظيفاتهم العلمية على نطاق هائل من البرامج ولم يكونوا قادرين على تطوير خطة عقلانية للتركيز على اهم صناعة في الرايخ الثالث.

حينما وضعت الحرب اوزارها لم يشك الحلفاء في امكانية الاستفادة من العلماء الالمان وخبراتهم وفي ما اذا كانت منجزاتهم يمكن تسخيرها في خدمة النشاطات الحربية. وفي هذا المجال تبرز قضية عالم الصواريخ فيرنر فون براون مخترع صواريخ V-2 التي انهالت على لندن في آخر مراحل الحرب العالمية الثانية. وحينما تم نقله الى الولايات المتحدة الاميركية اصبح فون براون المفتاح الاساسي في التفكير بإرسال انسان الى القمر.

يطرح المؤلف جون كورنويل اسئلة تحريضية مثل: هل نستطيع من خلال دراسة تاريخ العلوم في المانيا ان نتوصل الى خلاصة ذات دلالة مهمة حول العلاقة بين العلم والمجتمع الفاضل؟ وهل من وظائف العلم ان يجعل الجنس البشري اكثر منطقية وعالمية وموضوعية؟ اما الجواب الجزئي فإنه يأتي من تسجيلات «فارم هول» التي يضعها كورنويل في مركز كتابه. فارم هول هو بيت كبير قديم يقع على بعد حوالي عشرة اميال من مدينة كمبرج. وخلال الحرب العالمية الثانية كان هذا البيت مقراً لجهاز المخابرات البريطانية MI6. وفي ايام استسلام الالمان أصبح منزلاً لعشرة علماء المان من ضمنهم هايسنبرغ. اغلب هؤلاء العلماء عمل في مشروع تطوير القنبلة الذرية، وامضوا ستة اشهر محجوزين في هذا البيت المزود نسبياً بأسباب الترف والراحة وتحت رقابة واشراف ضباط بريطانيين. وكان الهدف من وراء وجودهم في هذا البيت هو التحقق من مواقفهم ازاء التعاون مع روسيا في مشروعها النووي. والآن تتوفر هذه الاشرطة للعامة ايضاً، وهي تلقي نظرة فريدة على مواقف هؤلاء العلماء في اعقاب ما حدث في هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين، وتظهر هذه التسجيلات ايضاً ان هايسنبرغ وزملاءه كانوا يفكرون بالتأكيد لتطوير القنبلة الذرية لكنهم لم يفهموا كيف يطورونها. وتكشف هذه التسجيلات ان اهتمامهم لفترة ما بعد الحرب كان ينصب مبدئياً على تبرئة انفسهم وتفادي عار ما وقعوا فيه من خطأ. وهنا تكتب ليزا متز، وهي عاملة هربت من المانيا النازية عام 1938 الى زميل لها تقول «انكم جميعاً عملتم لالمانيا النازية ولم تبذلوا ما يستحق من جهد فعال لتنقذوا ضمائركم في مساعدة الناس المضطهدين. ان هناك ملايين البشر تم قتلهم دون ان تطلق صرخة من صرخات الاحتجاج».

كذلك يرصد كورنويل كيف ان مواقف الالمان والنازيين كانت مختلفة في ما يخص تشجيع او احباط العمل في مشاريع وخطط مختلفة مثل الصواريخ، الغاز، الشفرات، التجارب الطبيعية، العمل العبودي والسرطان. ويذكر ان العلماء الالمان في القرن التاسع عشر كانوا اول من اسس العلاقة بين السرطان والعوامل البيئية مثل الطعام، لكن النازيين ذهبوا ابعد من ذلك واضافوا ايضاً التدخين والاسبستوس الكحول، المبيدات، الاصباغ وغير ذلك، وكانوا الاوائل الذين اكتشفوا سرطان الرئة الذي يسببه التدخين. غير ان هتلر لم يستطع السيطرة على كل شيء. ورغم ان التدخين كان ممنوعاً في الاماكن العامة وفي الاعلانات الا ان عدد المدخنين تضاعف خلال فترة حكمه. بعد الحرب تسابق الحلفاء لكسب العلماء، فحصل الأميركان على فون براون مع طاقم عمال صواريخه وعاد الى العمل في تكساس بعد بضعة اسابيع من موت هتلر. اما هايسنبرغ فقد أصبح زميل الجمعية الملكية البريطانية.

* علماء هتلر: العلم، الحرب ومعاهدة الشيطان

* المؤلف: جون كورنويل

* الناشر: فايكنغ، لندن، 2003