رحلتي مع الكتاب: قبلة للخبز وأخرى للحروف

محمود عبد الغني*

TT

كنت عندما أشترى كتابا وأجلبه معي إلى البيت، وأضعه في المكتبة الصغيرة الخاصة بوالدي، أو على مكتبي الصغير الذي يتحول الى سبورة صغيرة، أو على أي منضدة، كان الكتاب يصبح بعد برهة جزءا من أسرتي، ومن جوي العائلي الحميم. كنت أجده عارضا نفسه وكاشفا عنها، إن هذا العرض هو المثير في الكتاب. وبذلك لم يكن المشهد هو الشاب الذي يقف مذهولا، مسرورا بشيء هو الكتاب، بل فكراً ناشئاً متعطشاً الى معرفة أسرار الحياة.

لم يكن الكتاب، وهو أمامي في البيت أو في المكتبات، شيئا آخر غير ذلك الكون الصغير الذي يدعوني لأن أقبع فيه. والمدهش فيه أيضا أنه كان بلا انقطاع، وما يزال، يمحو الحدود والمسافات القائمة بيني وبينه. وبسرعة يصبح في داخلي، مثلما أصبح في داخله. بل إنه يمكن القول بانعدام الداخل والخارج في حالة الكتاب.

كنت أشتري الكتاب وأشرع في قراءته، والظاهرة الأولية هي أن الكم الهائل من الدلالات والأفكار تبدأ في مهاجمتي، فأعي أنني أمام ذهن، أمام وعي يختلف كليا وتلقائيا عن ذلك الوعي الذي أفترضه في الكائن الانساني. فوعي الكتاب يتكشف لي، يرحب بي، ويساعدني على النظر في أعماق ذاته الداخلية. بل إنه حسب تعبير «جورج بولي»، يتيح لي، عبر ترخيصات لم يسمع بها من قبل، أن أفكر فيما يفكر فيه، وأن أشعر بما يشعر به. وبذلك كانت الكتب، في صباي، تبدو لي وكأنها تتجرد من واقعها المادي وتصبح سلسلة من الكلمات والصور. الشيء الذي تعجز عنه أشياء وموجودات مصنوعة من حديد. إن الشيء المصنوع من الورق أكثر تأثيرا من المصنوع من حديد أو خشب أو مطاط.

كنت أدخل غرفتي الصغيرة، وأجد الكتاب على الطاولة، فكان مثلما وصفه الشاعر «ملارمي» فوق منضدة وسط غرفة فارغة، كتاب مفتوح ينتظر مجيء شخص ما ليشرع في قراءته. فكل الكتب موضوعات تنتظر على منضدة ما، على الرفوف أو في واجهات المكتبات، تنتظر شخصا ما يأتي ليحررها من ماديتها ومن جمودها.

والظاهرة الثانية، هي أن من بين كل الموجودات في البيت، الكتاب هو الوحيد الذي يحتاج الى تأمل فكري، كما أنه هو الذي جعل من الانسان طابعا وموزعا وكاتبا وقارئا. أما الموجودات الأخرى في البيت فتستغني كليا عن أي تدخل مع الذهن والفكر والخيال. في حين أن الكتاب يعتمد على تدخل الذهن والفكر والخيال، ولا يستطيع إدارة نفسه بنفسه، فكان يغضب مني إن تركته وحده، لأنه كان يلح على تدخل العقل الذي يحرره من ماديته الجامدة.

كان الكتاب يلج ذهني، فتبدو علي علامات المرح والخفة، خلافا لزملائي الذين كانت بيوتهم فارغة من روحانية الكتاب وسحره. وكان والدي يعلمني شيئا واحدا: تقبيل الخبز والكتب، وما زلت أفعل.

* شاعر وصحفي من المغرب، صدر له ديوان شعري عن دار توبقال بعنوان «حجرة وراء الأرض»، وسيصدر له قريبا ديوان ثان عن نفس الدار بعنوان «عودة صانع الكمان». كما صدرت له عن «منشورات الموجة» ترجمة لكتاب طوماس كليرك بعنوان «الكتابة الشخصية: المفهوم والتاريخ».