العالم لم يتحضر في كل مكان ولغة القوة لا تزال ضرورية

السلام الأبدي بين الأمم كان في طريقه إلى التحقق حتى حصل الحدث الصاعق الذي هز الأرض هزا: 11 سبتمبر

TT

أمامي عدة كتب تتحدث عن الوضع العالمي الراهن، وتحاول تشخيصه. أولها كتاب هوبير فيدرين، وزير الخارجية الفرنسية السابق. وهو لا يخلو من اضاءات مهمة عن الوضع الدولي، والعربي، والإسلامي.

وثانيها كتاب الفيلسوف اندري غلوكسمان «غرب ضد غرب»، أو الغرب ضد نفسه، وهو لا يخلو من اضاءات مهمة ايضا، لكنه يبدو منحازاً أكثر من اللزوم لصقور واشنطن وقائدهم: بول وولفويتز.

وثالثها هذا الكتاب الذي بين يدي الآن، والذي يبدو لي أكثر عمقاً، وإحاطة، وتوازناً. ومؤلفه هو البروفيسور بيير هاسنير، مدير مركز الدراسات والبحوث الدولية سابقاً، أو أحد فروعه. ويبدو أن هاسنير قد حلّ محل ريمون آرون بصفته أهم محلل استراتيجي فرنسي للعلاقات الدولية.

الكتاب ضخم من حيث الحجم والمستوى، ويشمل في تحليله مصير العالم منذ سقوط جدار برلين والعالم الشيوعي عام 1991، وحتى 11 سبتمبر 2001. والشيء الذي يهمنا فيه، هو تحليلاته (التي لم أجد أنضج منها حتى الآن)، لشيئين أساسيين: أولهما استراتيجية أميركا وإدارة بوش وصقور واشنطن من جهة، ثم مغزى 11 سبتمبر من الناحية الفلسفية، وليس فقط السياسية المباشرة. يضاف الى ذلك بالطبع، تركيزه على شؤون الشرق الأوسط والعالم العربي والإسلامي.

في ما يخص أميركا، يلخص البروفيسور هاسنير وضعها الحالي بالعبارة البسيطة التالية: هل امبراطوريتها قائمة على مبادئ الفيلسوف الانجليزي هوبز، او حتى ماكيافيلي، ام على مبادئ الفيلسوف الانجليزي الآخر جون لوك ومن بعده كانط؟.

ماذا يعني هذا الكلام؟، انه يعني بكل بساطة ما يلي: هل تخضع أميركا للمبادئ الاستراتيجية (والأخلاقية)، التي تنص عليها وتطبقها على جميع دول العالم؟ أم أنها تعتبر نفسها فوق هذه المبادئ؟.

لندخل في التفاصيل أكثر، من المعلوم ان هوبز، الذي عاش في القرن السابع عشر، اي في عصر مليء بالاضطرابات والحروب الأهلية المذهبية بين البروتستانتيين والكاثوليكيين، والمليء بالمجازر الوحشية ايضا، كان يعتبر ان العالم غابة من الذئاب، والغلبة للأقوى، فإذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب. لكنه لم يكن يكتفي بهذا التحليل، ولم يكن لاأخلاقياً بالمرة، على عكس ماكيافيلي. فقد كان يضيف قائلا: لكي نضع حداً لحالة الوحشية والهمجية التي تجعل القوي يأكل الضعيف، فإنه يلزمنا حاكم مستبد، قوي جداً، ويستطيع أن يفرض هيبته على الجميع ويرعب الجميع. وبعدئذ، يستتبّ الأمان والسلام في المجتمع. وهذا الحاكم، أو هذه الدولة القوية المستبدة، تفرض القوانين على الناس لكي تنظّم امورهم، لكنها لا تخضع هي لهذه القوانين، انها فوق القوانين.

وهذه هي حالة اميركا الآن، فهي تفرض قوانين محاربة الإرهاب على العالم كله، لكنها هي ذاتها لا تخضع لهذه القوانين!، انها تحتفظ لنفسها بحرية التصرف والتحرك ولا تريد ان تقيد ذاتها بأي معاهدة أو منظمة دولية حتى ولو كانت الأمم المتحدة، ولهذا السبب مثلا رفضت تشكيل محكمة الجزاء الدولية لأنها تخشى أن يُحاكم مستقبلاً أي قائد عسكري أو سياسي أميركي من قبلها، لكنها أجبرت يوغوسلافيا (أو صربيا) على تسليم ميلوشوفيتش الى محكمة العدل الدولية في لاهاي لكي يُحاكم. كما انها رفضت التوقيع على معاهدة الحد من التلوث وحماية البيئة، التي وقعت عليها معظم دول العالم، بما فيها دول أوروبا الكبرى، في كيوتو باليابان، لكنها لا تنزعج إذا ما التزمت جميع دول العالم بهذه المعاهدة، بشرط أن تُستثنى هي منها!، وهذا هو معنى الهيمنة الامبراطورية على العالم.

هل يعني ذلك بحسب تصور هوبز ان اميركا تحولت الى الذئب الأكبر الذي ينبغي ان تخضع له كل الذئاب الصغيرة لكي يستتبّ الأمان والسلام في العالم؟، نقول ذلك بخاصة اذا كانت الذئاب الأخرى شرسة من نوعية صدام، وبن لادن، وميلوشوفيتش، وأشكالهم.

على هذا السؤال يجيب بيير هاسنير قائلا: بمعنى من المعاني، نعم، لكن أميركا لم تكن دائماً هكذا، بل كانت العكس تماماً، فالرئيس ويلسون هو صاحب المبادئ الأربعة عشر الشهيرة، التي نصت على حق الشعوب في تقرير مصيرها، وإنهاء فترة الاستعمار. ومعلوم انه كان كانطيّ الهوى، أي معجباً جداً بالفيلسوف الألماني الذي يجسد ذروة التنوير والعقلانية في الغرب: ايمانويل كانط. والرئيس ويلسون هو الذي أسس عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة، وأميركا هي التي أسست الأمم المتحدة من أجل تنظيم العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة أيضا. ومعلوم ان الرئيس كارتر كان يستلهم سياسته من المبادئ الأخلاقية، بل وحتى الانجيلية. ولم يكن واقعياً وقحاً على طريقة نيكسون او كسينغر او ريغان.. الخ، وبالتالي فأميركا كانت مثالية وتحترم القانون الدولي الى حد كبير، فما الذي حصل حتى تغيرت وانقلبت رأساً على عقب؟.

الجواب يتلخص بكلمة واحدة: 11 سبتمبر. عندئذ فهمت اميركا ان عقلانية جون لوك، او مثالية ايمانويل كانط، لا تكفي للرد على التحديات. وعندئذ اصبحت تلميذة نجيبة لفلسفة توماس هوبز، بل وحتى ماكيافيلي. فأمام شخصيات الشر والإرهاب، لا تنفع المثاليات ولا الأخلاقيات، إنما ينبغي ان نكافح الإرهابيين بأسلحتهم ذاتها، ينبغي ان نرهب الإرهابيين، بل وان نستبق عليهم فنضربهم قبل ان يضربوا.

لكن بيير هاسنير، يحذر من خطورة المبالغة في هذا الاتجاه، صحيح ان الصراع بين البورجوازي/ والارهابي، او بين الحضاري/ والهمجي، يخترق التاريخ الحديث كله، لكن يخشى ان يتحول الحضاري إلى همجي بدوره اذا ما زاد عن حده في الضرب والقمع، واذا ما تخلى كلياً عن لغة القانون والأساليب الحضارية في معالجة الوضع.

لكن في الوقت ذاته، يحذر المؤلف الأوروبيين أنفسهم، من خطورة الاستسلام للنزعات الملائكية، او الاستسلامية لا السلمية، وهو بذلك يقصد المظاهرات التي نزلت بالملايين الى شوارع روما، ومدريد، ولندن، وباريس، وحتى واشنطن ونيويورك، قبيل الحرب على النظام العراقي.

فالعالم لم يتحضر بعد بما فيه الكفاية، أو قل لم يتحضر في كل مكان كما حصل في دول الغرب الناعمة والمترفة. وبالتالي، فلغة القوة لا تزال واردة وضرورية. وأميركا كانت على صواب في ردها الحازم على قوى الإرهاب الأصولي الأعمى، وكانط نفسه لم يكن ضد الحرب اذا ما استهدفت قوى الشر والطغيان في العالم، وإذا ما كانت وسيلة للتوصل يوماً ما الى عالم حضاري، خال من الحروب، وخاضع للقانون الدولي الذي ينطبق على الجميع من دون استثناء. وعندئذ تتحقق الجنة على الارض، لكن متى؟..

أنتقل الآن الى الفصل الأخير من الكتاب، وهو يبدو لي أكثر عمقاً من الناحية الفلسفية، وربما كان يشكل عصارة فكر المؤلف. انه يطرح فيه السؤال التالي: ما هي المغازي الفلسفية لـ 11 سبتمبر، ولكل الصراع الجاري حالياً بين أميركا وأعدائها؟ كيف نفهمه ونفسره؟. هنا ايضا يلجأ بيير هاسنير، إلى أسماء الفلاسفة الكبار ذاتهم: اي هوبز، جون لوك، وكانط، لكنه يضيف إليهم هذه المرة: نيتشه وماركس، لكي يستطيع ان يفهم الوضع او يشخصه كما ينبغي. فالأمور أصبحت خطيرة جداً، و11 سبتمبر ليس حدثاً عادياً، وبالتالي فينبغي استخدام كل الترسانة الفلسفية، اذا جاز التعبير، لكي نستطيع استيعاب مدلولاته القريبة والبعيدة. يقول المؤلف هذه العبارة المركزية التي تلخص الوضع الدولي بمجمله: قبل 11 سبتمبر كنا في عالم تسيطر عليه تصورات جون لوك مع انفتاحات على كانط. واما بعد 11 سبتمبر، فقد انتقلنا الى عالم تسيطر عليه تصورات توماس هوبز مع انفتاحات على نيتشه وماركس، لكن ما معنى هذا الكلام؟، كل الفصل مكرس لشرحه، وربما كل الكتاب.

لنحاول إذن ان نتفلسف قليلاً ونتجاوز التحليلات الصحافية السريعة للحدث. لنحاول ان نتعود على لغة الفلسفة، خاصة فلسفة التاريخ، وإلا فلن نفهم شيئاً من شيء، لن نغوص إلى أعماق الأشياء.

يقول بيير هاسنير في أطروحته العامة ما يلي:

قبل 11 سبتمبر، كانت مجتمعاتنا تعيش في حالة من الطمأنينة والرفاهية، وعندما أقول «مجتمعاتنا»، فإني اقصد مجتمعات العالم المتطور، الليبرالي، الرأسمالي، اي مجتمعات أوروبا الغربية وأميركا الشمالية أساساً، وهي التي ندعوها بالمجتمعات الغربية مقابل الشرقية، او مجتمعات الشمال مقابل الجنوب، أو المجتمعات المركزية مقابل المجتمعات الهامشية.. وهي مجتمعات تهيمن عليها النزعة الفردية الاستملاكية، الراغبة بالاستهلاك والاستمتاع برغد العيش الى اقصى حد ممكن. وبدت هذه المجتمعات التي بلغت ذروة الحضارة، محسودة من قبل جميع سكان الارض، فالحرية فيها مضمونة، كذلك الأمن والأمان، انها متوفرة بشكل لم يسبق له مثيل في أي فترة سابقة من فترات التاريخ، أو في أي مجتمع آخر على وجه الأرض.

وهذه الرفاهية المترفة، فُسرت على طريقة الفيلسوف جون لوك، بمعنى انها كانت حصيلة حق الملكية والعمل والجهد المتواصل للبشر. وكانت مضمونة من قبل القواعد القانونية، والسياسية، والاقتصادية، نقصد بها قواعد دولة الحق والقانون التي تضمن التعايش السلمي بين جميع افراد المجتمع بشرط أن يتقيدوا بها ويحترموها. وهنا يكمن تفوق الغرب على كل الحضارات الأخرى، فحكم القانون فيه مضمون وينطبق على الكبير والصغير. بالطبع هناك تجاوزات، لكنها تشكل الاستثناء الذي لا يلغي القاعدة، ثم انها لا تقارن بالتجاوزات التي تحصل في بلدان العالم الثالث، أو في البلدان التي لا قانون فيها على الإطلاق!.

هذا المجتمع الذي نظَّر له لوك وحلم به، راح كانط يواصل بلورة المشروع العام الخاص به. ومعلوم ان مشروع كانط يتمثل في ثلاثة اشياء: حكومة دستورية، تنظيم فيدرالي، وقانون كوني أو كوسموبوليتي. وهذا المشروع كان في طور التحقق بعد سقوط الشيوعية وانتشار الديمقراطية في شتى أنحاء العالم، وهذا ما نظّر له فوكوياما عندما قال بأن الازدهار الاقتصادي يحبّذ الديمقراطية، والديمقراطية تحبّذ السلام بين جميع بلدان العالم. واستنتج من ذلك ان التاريخ انتهى او وصل إلى مصبّه الأخير بعد انتصار النظام الليبرالي، الذي سيعمّ العالم كله تدريجياً. وبالتالي فالسلام الأبدي، بين الأمم، كان في طريقه الى التحقق، حتى حصل ذلك الحدث الصاعق الذي هزّ الأرض هزاً: 11 سبتمبر.

بعدئذ تغيرت كل المعطيات والأولويات، واستيقظ الغرب من غفلته، أو غفوته، وعرف ان العالم لا يزال خطراً، وكانت ضربة قوية على الرأس، عندئذ عاد الغرب الى ما قبل عصر كانط الديمقراطي، عاد الى عالم هوبز المليء بصراع الذئاب والغابات، وانعدام الأمان والاطمئنان.

لكن هوبز لا يكفي وحده هنا لتفسير الوضع، إنما ينبغي ان نضيف اليه نيتشه وماركس. لماذا نيتشه؟، لأنه أول من تنبأ بأن القرن العشرين سوف يكون قرن الحروب التي ستخاض من اجل الهيمنة على الارض، وذلك باسم المبادئ الميتافيزيقية!. لنحاول ان نوضح الأمور أكثر، نيتشه يقصد بذلك ان هذه الحروب ستخاض باسم مبادئ فلسفية متناقضة او متضادة، فعلى هذا النحو خاضت المانيا الحرب العالمية الأولى باسم القيم البروتستانتية والنزعة البطولية الألمانية ضد القيم النفعية الانغلوساكسونية والقيم الديكارتية الفرنسية.

كذلك خاضت الحرب العالمية الثانية باسم قيم الرجولة الوثنية والاساطير الجرمانية والنازية، ضد الحضارة الديمقراطية للانجليز والفرنسيين.

والآن يخوض العالم الإسلامي الحرب ضد الغرب باسم قيم متشابهة ومختلفة في آن معاً، وعندما نقول العالم الإسلامي، فإننا نقصد الأصولية المتطرفة فقط وليس المسلمين ككل، فهذه الأصولية تحقد ايضا على الحضارة المادية والالحادية، بل وحتى الإباحية للغرب. وتكره حرياته كرهاً شديداً، خاصة الحريات الجنسية. ولا ترى في الغرب الا ذلك، وهي تخشى ان تصل عدواها إلى عالم المسلمين.

ثم يركز بيير هاسنير على نقطة مركزية هي التالية: العالم الإسلامي، على عكس العالم الغربي، لم يشهد حتى الآن ظاهرتين اساسيتين هما: ظاهرة الاصلاح الديني، التي حصلت في القرن السادس عشر، وظاهرة التنوير التي تلتها في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وبالتالي فالصدام بين العالم الإسلامي والغرب كان أمراً محتوماً بحسب منظور نيتشه، لماذا؟، لأن هناك تضاداً كاملاً في القيم الميتافيزيقية: اي في القيم العليا التي تحكم كلا الطرفين. اقصد القيم العليا التي تعلو ولا يعلى عليها، سواء أكانت ذات طبيعة دينية أم فلسفية، ثم يردف بيير هاسنير قائلا: يضاف الى ذلك ان المسلمين، خاصة العرب، يشعرون بمرارة هائلة بسبب الفجوة السحيقة التي تفصل بين عظمتهم الماضية أيام العباسيين والاندلسيين وبين انحطاطهم الراهن، فهم كانوا أساتذة للغرب يوماً، ثم اصبحوا الآن تلامذة، بل وحتى تلامذة التلامذة. وفاتهم قطار الحضارة بسنوات ضوئية.. يضاف الى ذلك ان وجود اسرائيل بحد ذاته يعتبر اهانة ما بعدها اهانة، هذا ناهيك عن احتلال الاراضي الفلسطينية والعربية. وكل ذلك يعيشه العرب، وكأنه استمرارية لعصر الاستعمار، ثم لما هو أقدم منه: عصر الحروب الصليبية. يضاف الى ذلك، هذا التساؤل الذي لا يحتمل ولا يطاق: كيف يمكن «للكفار»، اي للغربيين، أن يتفوقوا على المؤمنين الحقيقيين، أي المسلمين، بل ويصبحوا أسياداً عليهم او اساتذة لهم في مجالات العلم والمعرفة كافة؟، هذه فضيحة لا يمكن «بلعها» بأي شكل من الأشكال.. ضمن هذا السياق يمكن ان نفهم سبب ظهور الإرهاب وبن لادن وشبكة «القاعدة».. الخ.

لكن ما علاقة ماركس بالموضوع؟ علاقته هو أن العولمة الرأسمالية الأميركية تغني الأغنياء وتفقر الفقراء، وبالتالي فالكثير من شعوب العالم، وليس فقط المسلمون، حاقدين على اميركا المليئة بالثروات والمكتظة بالنعيم والبطر. ولهذا السبب، فإن حركة بن لادن وجدت لها صدى حتى لدى شعوب أميركا اللاتينية. صحيح ان هذه الشعوب لم تكن راضية عن قتل اكثر من ثلاثة الاف شخص في عشر دقائق، لكنها كانت تشعر في أعماقها بالتشفّي، وان اميركا تستحق العقاب. نقول ذلك، على الرغم من ان بن لادن بعيد كل البعد عن القضايا الاجتماعية او الانسانية، فهو لا يفكر الا من خلال منظور القرون الوسطى: اي الحرب على الكفار والصليبيين.