المدح أعذبه الكذوب!

فاضل السلطاني

TT

يسجل لنا المستعرب الياباني نوبواكي نوتوهارا في كتابه المعروض هنا، شيوع ظواهر في الوطن العربي، الذي أحبه وخبره جيدا وتعلم لغته حتى بات يكتب فيها افضل من بعض ابنائها، يرى انها تنخر جسد هذا الوطن الجميل.

وهو يستغرب، ضمن ما يستغرب، من شيوع ظاهرة الشعراء المداحين، اذا استثنينا العراق القديم وشعراء الرئيس الهارب، وهي ربما اكبر ظاهرة مدح في التاريخ المعاصر، يتغنون بحكام متعارضين في توجهاتهم واتجاهاتهم وشخصياتهم الى درجة التناقض، ولا يملك لذلك سوى تفسير واحد: النقود.

وهو لا يتحدث عن العصر الاموي او العباسي، بل عن عصرنا نحن، فالرجل ما زال حيا يرزق، والانطباعات التي سجلها في كتابه، انطباعات حديثة.

وهو يقول ان شعراء عربا كبارا ما زالوا يمارسون ذلك في اكثر من وطن عربي.

ولا شك ان في ذهن الرجل مثالا واحدا أو مثالين، فظاهرة الشعراء المداحين اختفت، كظاهرة، من المشهد الثقافي العربي منذ بداية الشعر العربي الحديث، والتحولات الكبرى التي عرفها هذا الشعر مع الثورة المعرفية التي نقلته من فضائه السابق، بمفاهيمه ورؤيته للحياة والعالم والآخرين الى قلب المشكلات الانسانية والوجودية الكبرى.

لم تعد مقولة «الشعر أعذبه الكذوب» صالحة لهذا النوع من الشعر الذي خرج من ثقافة الاذن الى ثقافة العين. ولهذا السبب نجد انه اذا أراد احدهم ان يمدح حاكما، خرج من التفعيلة من دون ان يقصد ربما، وعاد الى العمود الخليلي، ليحقق الغرض من قصيدته: اكبر قدر من التأثير في الممدوح عن طريق أذنيه، عبر الايقاع والقافية الرنانة.

لم يعد ذلك ممكنا للاسف، ولم يعد الحاكم العربي متفرغا لحضور الامسيات الشعرية في القاعات الكبرى، ولذلك حصل تحوير في ادوات الاتصال، حلت المقالة محل القصيدة. حاكمنا المعاصر شغوف بالصحف، فهي الوسيلة الاكثر تأثيرا الآن في الرأي العام.

لم يعد الشاعر كما كان في العصر الجاهلي والعصور المتأخرة، البوق الاعلامي الاول، حل الصحافي مكانه، كما ان شاعر المديح المعاصر يحتاج الى موهبة كبرى لينافس تأثير وسائل الاعلام المرئية وغير المرئية. ومثل هذه الموهبة اختفت مع رحيل الجواهري الكبير الذي اعتاد دائما ان يقول انه لا يمدح الا اذا أحب، كما حصل مع الملك العراقي الراحل فيصل الاول، وكما حصل مع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد.

واذا عدنا الى كتاب المستعرب الياباني، ثانية، سنجد ان المديح، القديم والمعاصر، سمة خاصة بثقافتنا العربية. ولا نعرف كيف نشأت، وربما يعرف الآخرون.

فالتراث الياباني او الانجليزي او الفرنسي لم يعرف فناً اسمه فن المديح، او فن مديح الحاكم بشكل أدق، ليس حبا به، كما يقول لنا التاريخ الادبي، وان تلبس هذا اللبوس، وانما طمعا في عطاياه، من المتنبي حتى آخر شاعر مداح أو ناثر مداح.

لقد احتل الحاكم فردا وسلطة منزلة كبيرة في الادب العربي، ربما تفوق المنزلة التي احتلها الحب والحرب، والصراع مع الطبيعة والوجود، في الآداب الاخرى. كانت السلطة وما تزال، كما يبدو، هي القيمة العليا. وحين يكون الامر كذلك، يتقدم الخنوع وكأنه حب، ويرتدي النفاق جناح الملائكة، ويتحكم الانشطار في شخصياتنا بدل التوحد، فترانا اثنين مختلفين بدل واحد سوي هو هو سواء في النهار او الليل، في البيت او الدائرة.

يعزو نوبواكي نوتوهارا كل ذلك الى القمع المستشري في مجتمعاتنا، فالبديل الوحيد للحرية هو العبودية، والبديل الوحيد للكلمة الصدوق هو الكلمة الكذوب. ولكن هل القمع وحده المسؤول حقا؟