لغز العقل في علاقته بالجسد

أحد الكتب القليلة التي تقدم مراجعة لمختلف الاتجاهات والتصورات المباشرة

TT

يقدم كتاب «لغز العقل» لسرجيو مورافيا مسحا نقديا وتاريخيا عريضا وواضحا لأحد السجلات الاساسية في فلسفة العقل، علاقة العقل ـ الجسد، هذه المشكلة التي تستمر في اثارة الاسئلة العميقة المتعلقة بطبيعة الانسان، إنه احد الكتب القليلة التي تقدم رؤية تاريخية ـ نظرية، حول مشكلة العقل ـ الجسد، يهدف المؤلف من خلالها الى تقديم مراجعة انتقائية لمختلف الاتجاهات ازاء مشكلة العقل ـ الجسد، واظهار المنطق الذي انتج من منظور المؤلف الفلسفي اتجاها معينا للجدال حول العلاقة بين العقل والجسد، انه كتاب ينتقد التصورات المبتسرة للعقل، المصوغة بشكل مختلف، ويتقدم بأطروحة ليست جسدانية بالمعنى العريض، لكنها في الوقت ذاته ليست عقلانية ايضا.

اخضع الكاتب بوحي من المكون النيتشوي لخلفيته الفكرية قضية العلاقة بين العقل والجسد لعدد من الاسئلة التقليدية الى حد ما..

ـ هل نحن متأكدون من ان مشكلة العقل والجسد تنصب فعلا وحصرا على مشكلة نفسية جسدية؟

ـ أوليس الحال بالأحرى هو ان العقل ـ الجسد يفيد اساسا في طرح مسائل ليس فيها الكثير من الطبيعة النفسية ـ الجسدية، بقدر ما فيها من طبيعة انتروبولجية وابستمولوجية، تلك المشاكل التي تعنى بالصورة التي نمتلكها للكائن البشري، وبالصورة التي نمتلكها (أو نود امتلاكها) للعلم الاكثر انسجاما مع هذا الكائن؟

إن الاسئلة من هذا النوع هي التي تشكل الاساس لتوجه وطبيعة البحث المطور في هذا الكتاب، فقد افرد المؤلف حيزا وفيرا للمواقف النظرية الاكثر صلة بموضوع العقل ـ الجسد، المقدمة من قبل النظريات الفلسفية المعاصرة، واختار التركيز على القضايا التجريبية الحاسمة فعلا، صفة العقل و(الانسان) وصفة العلم الذي يدرسهما.

يكثر المؤلف من الاستشهادات، ليلبي حاجتين مختلفتين: الأولى هي امداد القارئ بالبرهان المباشر على الوجود العقلي للطروحات التي ينتقدها او (يؤيدها)، والثانية هي الخروج بمواقف معينة من الكلمات المستخدمة للتعبير عنها.

إن الاستشهادات تمثل اشارات الطريق التي صادفها الكاتب في رحلة طويلة وصبورة، انطلقت من الفرضية التبسيطية والمضللة بشكل مطلق وهي ان (العقل يساوي الجسد) الى الموقف الذي يؤمن بأن (العقل) هو بناء مجازي، يحمل معاني تنتجها الذات التي تقوم بالتعبير عنها، وتكون مستقلة الى حد كبير عن الادوات الجسدية المستخدمة لنقلها.

ان العلاقة بين العقلي والجسدي كانت الموضوعة (التيمة) التي تخللت مجمل تاريخ الفكر العربي، فقد لعبت دورا مركزيا في المعرفة القديمة، لا سيما بين الارسطوريين، وفي حقل الطب القديم، ثم عادت الى البروز بأكثر الاشكال تنوعا في ثقافة العصور الوسطى والحركة الانسانية لعصر النهضة، اننا نعثر عليها في لب فلسفة القرن السابع عشر، من ديكارت الى سبينوزا ولايبنيتز، وعاودت الظهور كموضوع للسجل الحماسي في عصر التنوير، واستمرت تحتل قسما كبيرا في فكر القرن التاسع عشر، الفلسفي والعلمي، كما هو واضح في دورها المركزي في مؤلفات ما بين دوبيران، الكساندر باين، بيرغسون، جيمس، والكثير من علماء النفس والفلاسفة الالمان، وفي القرن العشرين. استمرت هذه المسألة في اثارة الاهتمام النظري الشديد، حتى بين اتباع تيارات متباعدة، كالوضعية الجديدة وعلم الظاهرات (الفينومينولوجيا).

وإذا كان التفلسف يصل بالمرء الى اعادة التفكير بعصره ومشاكله من خلال مفاهيمه، فيبدو ان التفكير بالعقل ـ الجسد يشمل، فوق ذلك، التفكير بكيفية تشكل هذه المشكلة تاريخيا، ان المشكلة في الواقع، لا تقوم الى هذا الحد بذاتها، بل بالأحرى، كنتاج لتطور اجتماعي وثقافي محدد، ان التفكير حول العقلي والجسدي، تتضمن امتلاك معنى النظريات الاساسية التي تعنى بالعقلي وعلمه كما ظهرت في مسار تشكله، ان الادراك التام لما كانت تعنيه العقلي والجسدي، وما تعنيه الآن، يمكن ان تحققه على افضل وجه بمقارنة المرء لذاته مع فرضيات اولئك الذين خلقوا وطوروا المشكلة ذاتها، ونظرية المؤلف تنبع من العقل ـ الجسد، مع انها تنتج «قصة» تعطي معنى للعقل والجسد والجوانب الاكثر اهمية من السجال (الدائر) حولها.

إن الفصول الاربعة من الكتاب ترسم الخطوط العامة لما يمكن تعريفه بأنه التكوين والاتجاه الراديكاليين اللذين اتخذتهما المقاربة الجسدانية للعقل ـ الجسد، وهي تبدأ بدراسة فلسفة هدبرت فايغل، لأنها تستحق اهتماما ملحوظا نظرا للدور الاساسي الذي لعبه في التطرق الى المشكلة، وتعالج الرموز القيادية لما يدعى بالمدرسة الاسترالية (بليس، سمارت، آرمسترونغ)، التي استنطبت فرضيات احادية ومادية بشكل لافت، وفي الوقت ذاته تحمل مضامين فلسفية وانتروبولجية ابعد مجالا، وينتهي هذا الجزء بدراسة ما يدعى نظرية الزوال التي تقدم بها فلاسفة من مرتبة فايرا بند ورورتي، وقد ادت الى الاستنتاجات الضد ـ عقلانية الاكثر تطرفا، ومناقشة هذه المواقف والآراء تقدم سلسلة من الاسئلة النظرية التي وجدت في نظرية الزوال احد مراجعها التاريخية الاكثر ملاءمة.

* المؤلف: سرجيو مورافيا

* المترجم: عدنان حسن

* الناشر: وزارة الثقافة السورية