رحلتي مع الكتاب

الكتب كلها استئناف للطفولة بطرق أخرى

TT

إذا كان لي أن أعدد بعض أعمق ما قيل عن الكتاب وفيه فما أنا بناس ثقة لويس بورخيس في الكتاب. يرى المبصر الأعمى الهائل أن الكتاب ما فتئ يخيب ظن أولئك الذين يتربصون به الدوائر منتظرين زواله. كما أنني لست بناس القولة المضيئة للكاتب الأمريكي روزنباخ: «بعد الحب ما من عمل آخر أهم من معانقة الكتاب». ثم كيف لي أن أنسى كتاب ستيفان مالارميه الكوني الذي نسير، في ذهول، صوبه. إننا، جميعا، قراء وكتابا، إنما نسير نحو ذلك الكتاب الجليل المرعب والذي ليس شيئا آخر غير الموت. الموت ذلك الوريث الأكبر. ثم كيف لي أن أنسى جليس أبي الطيب المتنبي، سيد الأنام وخير من يمشي على قدم.

* الكتب التي لا تحصى عددا.

* الكتب التي أضرب إليها أكباد الإبل.

* الكتب التي أتلبسها، وتتلبسني، كمن يوزع جسمه في جسوم كثيرة.

* الكتب التي لم أشف غليلها والكتب التي لم تشف غليلي.

* الكتب التي ما أكثرها، حين أعدها، ولكن في النائبات قليل.

* الكتب الحمقاء التي كتبها عقلاء.

* الكتب العاقلة التي كتبها حمقى مجانين.

* الكتب التي يعوي في داخلها ذئب الفرزدق.

* الكتب التي تكاد تمطر من ثقل الديم فيها.

* الكتب التي ألقي حولها دروسا ومواعظ ولما أقرأها بعد.

* الكتب التي تستعصي على الفهم، وأتظاهر بفهمها.

* الكتب التي تسخر من ادعاءاتي البلقاء.

* الكتب التي أجد لذة في تمزيقها والاحتفاظ بمزقها.

* الكتب الأنيقة المصقولة التي أمرر عليها يدي بين الفينة والأخرى.

* الكتب التي أرميها، ليلا، من نوافذ البيت، فأتلذذ بصوت ارتطامها بالأرض.

* الكتب التي أدركت أنها قدري البهيج.

* الكتب العصبية سريعة الهياج.

* الكتب التي أتظاهر بقراءتها حتى يمر من لا أود مبادلته التحية والكلام.

* الكتب التي أفاخر بها الآخرين.

* الكتب التي أخفيها عن الآخرين لأسباب شتى.

* الكتب التي اكتفيت منها بالخواتم.

* الكتب التي اكتفيت منها بالمقدمات.

* الكتب التي أنسى امتلاكها، لسنوات طوال، وبعد اكتشافها أضعها على مقربة، ثم أنساها لسنوات طوال.

* الكتب التي أهرقت عليها، سهوا، مشروبا ما، وكلما عاودت فتحها، تذكرت السهو الجميل.

* الكتب التي قرأتها من المكتبات، متنقلا بين المكتبات.

* الكتب التي أندم لأنني أنهيت قراءتها بسرعة.

* الكتب التي لا تستحق أن تقرأ، لكنني أكمل قراءتها رأفة بها ليس إلا.

* الكتب التي أعيرها أصدقائي، فيكفون أنفسهم عناء إرجاعها، ثم أتظاهر أني نسيت.

* الكتب التي أستعيرها للقراءة، فتقاسمني البيت مدة فأعيدها من غير قراءة.

* الكتب التي أعيرها أصدقائي فيكفون أنفسهم عناء إرجاعها، ثم لا أتظاهر أني نسيت، فيحصل شجار.

* مؤلفاتي التي أهديها أصدقائي ثم أشتريها ثانية في سوق الخردة.

* الكتب التي أتلوها بصوت مرتفع في ليل متأخر.

* الكتب التي أقرأها منبطحا أرضا.

* الكتب التي أقرأها سائرا.

* الكتب التي أبكتني.

* الكتب التي أشعرتني بدنو الأجل.

* الكتب التي جعلتني أندم.

* الكتب التي أصيح كلما فرغت من قراءتها: الحياة جميلة يا صاحبي!.

* الكتب التي تسلمني قراءتها الى ذهول ذاهل.

* الكتب التي آخذها الى المشارب، فقط حتى أشعر أني أخذتها الى المشارب.

* الكتب القوية الغامضة المركونة، بالتباس، كيفما اتفق، في زاوية شبه مظلمة من غرفة الضيوف.

* الكتب المغبرة التي أنحني لأمسح عنها الغبار.

* الكتب التي أقرأها لأفك سرها، فتزداد، بعد القراءة، أسرارا، فأضمها الى صدري والعين مغمضة والقلب حيران.

* الكتب التي أتأبطها، طوال النهار، دون تفحصها حتى، فأعيدها الى حيث ترقد أخواتها، وأتعمد شمها قبل وضعها، ثم قبل أن أصرف النظر عنها، أدفعها، قليلا، بطرف القدم.

* الكتب التي تقاسمني السرير.

* الكتب التي أقتنيها لرائحتها ليس إلا.

* الكتب التي تحدث جلبة لغير ما سبب، ثم تنفي التهمة عنها.

* الكتب التي أفكر في بيعها، يوم فاقة، ثم لا أفعل.

* الكتب التي أتأملها، مصفوفة، لوقت طويل لأسأل نفسي، بعد ذلك، لم تأملتها كل هذا الوقت.

* الكتب التي كلما تقدمت في قراءتها إلا ورأيت نفسي كمن يحفر بئرا في سماء.

الكتب تلك، كلها، استئناف للطفولة بطرق أخرى.

* محمد الصالحي شاعر وكاتب من المغرب صدر له ضمن منشرات وزارة الثقافة وفي اطار سلسلة «الكتاب الأول» ديوان شعري بعنوان «أحفر بئرا في سمائي»، كما صدرت له أخيرا صمن منشورات اتحاد كتاب المغرب دراسة بعنوان «شيخوخة الخليل: بحثا عن شكل لقصيدة النثر العربية».