سجناء الطابق الثالث من فندق فلسطين

كتاب فرنسي عن الحصار الذي فرضه رجال المخابرات العراقية على الصحافيين الأجانب أثناء الحرب

TT

في كتابه «فندق فلسطين.. الوقائع غير المنتظرة لحرب بغداد» الصادر عن دار غراسيه بباريس، يرى الصحافي باتريك فورستييه كبير المحققين في مجلة «ماتش» الواسعة الانتشار ان فندق فلسطين تحول الى ما اسماه بـ«مصدر حرب اخرى». ولعل الصورة التي نشرت على الغلاف الامامي للكتاب ـ جندي اميركي يغطي وجه صدام بالعلم الاميركي على تمثاله قبل اسقاطه ـ من افضل الصور التي التقطتها عدسات المصورين الذين نزلوا في فندق فلسطين المطل على التمثال المنهار ومنهم رمزي حيدر صاحب الصورة التذكارية.

ويقص فورستييه في كتابه ما حدث في كواليس الفندق وحيثيات خروج صحافيي اشهر الصحف والقنوات التلفزيونية الاميركية قبل انطلاق الحرب ولعبة التضليل بين الصحافيين وموظفي وزارة الاعلام ودور رجال المخابرات العراقية والمخبرين السريين: «انها حكاية هزيمة معلنة على الرغم من الدعاية العبثية لنظام منهار بقي يؤمن بأكاذيبه الخاصة، كما انها حكاية الفيلم الكبير لما حدث بعيدا عن ميدان الحرب العسكرية».

في «فصل الحرب» كتب فورستييه واصفا حال الهلع الذي اصاب الصحافيين لحظة اهتزاز الفندق بفعل دوي القنابل التي بدأت تنهار على قصور صدام والوزارات في الوقت الذي دخل بعضهم في صراع مع رجال المخابرات العراقية الذين راحوا يمنعون الصحافيين والمصورين من الصعود الى سطح الفندق. الهلع الذي دفع ببعض الصحافيين الى اللجوء الى المخبأ السفلي شأنهم شأن جيران الفندق الذين يعرفون احد الموظفين العاملين فيه، وهو الهلع نفسه الذي استولى على رجال المخابرات العراقية المكلفين مطاردة الصحافيين وعرقلة عملهم حتى لا يتمكنوا من التصوير والاتصال الهاتفي في السطح أو الشرفات: «للأسف.. لم يتمكن رجال المخابرات من القيام بمهمتهم وتمكن العالم من متابعة انطلاق الحرب مباشرة وقناة مثل «الجزيرة» كانت قد ثبتت كاميراتها الاتوماتيكية على سطح مركز الصحافة صوب قصر صدام ومقر التلفزيون قبل انطلاق الحرب».

وتوقف الصحافي الفرنسي عند ظاهرة الصحاف «وزير الحقيقة» العراقي على حد تعبيره في فصل «قلق تحت القنابل» وكتب يقول: «انه في الوقت الذي كانت فيه القوات الاميركية تكتسح بغداد، استمر الصحاف في كذبه على الرغم من صور قناتي «سي.إن.إن» و«الجزيرة». ومما جاء في تصريحاته الشهيرة التي اضحت نموذجا للمهازل التراجيكوميدية في كافة القنوات التلفزيونية الغربية قوله ان القوات العراقية تمكنت من سحق الجنود الاميركيين في الجنوب وأسر عدد كبير منهم وعلى الرغم من جرائمهم البشعة، سنطبق عليهم اتفاقية جنيف كما امر الرئيس صدام حسين. اننا الحقنا بهم خسائر ثقيلة. قادة التحالف الاميركي والبريطاني يكذبون ويحاولون القيام بالمستحيل للتغطية على هزيمتهم. لقد خطفوا مدنيين في الفاو وقدموهم لوسائل الاعلام على اساس انهم جنود. انهم يخدعون مسؤوليهم الكبار وسنسحقهم اكثر، الامر الذي سيدفعهم الى الكذب من جديد».

زعيم الدعاية الاعلامية العراقية الكاذبة ومسؤول وزارة «الحقيقة» محمد سعيد الصحاف وصف في تصريحه بفندق فلسطين ليلة السبت الثاني والعشرين من شهر مارس ان «الكلب المجرم» دونالد رامسفيلد هو المسؤول الاول عن الجرائم الاميركية ومنها قنبلة قصر السلام القريب من المطار وقصر الزهور الذي كان قصرا ملكيا قائلاً: «سنقطع رؤوس كل الاميركيين الذين يقودون الاعتداء ضد العراق».

كذب الصحاف المفضوح لم يكن الوسيلة الدعائية والسيكولوجية الهابطة النوعية الوحيدة التي عرفها فندق فلسطين في ظل موازين قوى سياسية وعسكرية واعلامية غير متكافئة بالمرة، فالمطاردة الامنية للصحافيين لم تقل غباء وانهزامية عن اسلوب الصحاف في تقدير الكاتب الفرنسي الذي استشهد بمثال الصحافي البريطاني نايت تاير. لقد خطف رجال المخابرات العراقية صديقته الاميركية في الفندق قبل ان يضربوه بشكل مبرح حتى الساعة الخامسة صباحا. هذا الصحافي الذي يراسل عدة صحف بريطانية ـ بعد ان عمل مراسلا في بانكوك لمجلة اقتصادية تصدر في هونغ كونغ ـ فوجئ بزيارة اربعة رجال فتشوا غرفته رقم 1002، وحقيبته وخزانات الغرفة وضربوه قبل مغادرتهم الغرفة رفقة صديقته الاميركية: «لقد قلت لهم انها زوجتي طمعا في تفهمهم ورحمتهم وحتى عدي الذي قابلته طالبا المساعدة لم يحرك ساكنا لمساعدتي وقال لي لا استطيع ان افعل شيئا وهذا الامر ليس من شأن وزارة الاعلام».

موازاة للحرب العسكرية التي كانت تدور قريبا من فندق فلسطين، كانت الحرب الاعلامية والنفسية ضد الصحافيين الانجلوساكسونيين تزداد ضراوة بدورها.

ولم تتوقف عند ضرب الصحافي تاير واعتقال صديقته او «زوجته الوهمية». رجال المخابرات العراقية زاروا ايضا الصحافي جون برنس مراسل «نيويورك تايمز» في جنح الليل وبعد ان نجا من الضرب والاعتقال اضطر الى تغيير الغرفة: «لقد تقاسمت غرفتي مع زميل آخر حتى يكون شاهدا في حال اعتقالي او اختفائي».

ملاحقة المخابرات العراقية للصحافيين لم تتوقف عند زيارة بعضهم في غرفهم، وطالتهم في مواقعهم المهنية بعد ان اضطروا الى العمل في السرية التامة اثر اصرار عدي على عملهم في مركز الصحافة وليس في فندق فلسطين كما تمنوا وطلبوا حتى يتمكنوا من العمل اثناء الليل، وعملوا المستحيل للتغلب على المخابرات والشرطة السياسية العراقية المنتشرين في فندق فلسطين: «لم يكن امامهم الا خيار العمل في الظلام في غرف مغلقة والتحدث بهدوء شديد لحظة الاتصال بمسؤوليهم ولولا الهواتف المرئية لما تمكنوا من ارسال تغطياتهم وصورهم السيئة النوعية».

في الوقت الذي استمر فيه «الاسطورة» الصحاف المسؤول الاول في وزارة «الحقيقة» في أكاذيبه: «اننا نسيطر على الوضع.. ولقد طغت حال الهستيريا على الجنود البريطانيين بعد ان الحقنا بهم خسائر فادحة في ميدان المعركة وسوف لن يخرجوا سالمين من مستنقع الموت الذي رميناهم فيه» ضاعف عدي من ايقاع مطاردته للصحافيين على الطريقة العراقية. وفي ندوة صحافية نظمها في فندق فلسطين، اعلن ان قواعد اللعبة قد تغيرت مؤكدا انها ستكون صارمة اكثر من اي وقت مضى. وقبل كل شيء راح يتحدث متوجها للصحافيين «من اليوم فصاعدا ممنوع التنقل فرادى من دون مرشد مرخص من الوزارة. والصحافيون الموجودون في بغداد يجب ان يعنوا بتغطية ما يحدث استنادا للمصدر العراقي وليس لشيء آخر وسيطرد الصحافي الذي سيخالف هذه التعليمة. من جهة اخرى، على الصحافيين الذين لم يدفعوا بعد مستحقات وزارة الاعلام الاسراع بالدفع والا كان مصيرهم الطرد، لا ينقصنا رجال الاعلام هنا في بغداد والكثير ينتظرون التأشيرة في عمان وباستطاعتنا تعويض المطرودين وغير المرغوبين ببساطة وسهولة. بالمناسبة اعلمكم بأن لون البطاقة الصحافية التي جددت قبل اسبوع ستتغير من جديد وستصبح صفراء اللون».

عند حديثه عنمن اسماهم «بمساجين الطابق الثالث عشر» استطاع الكاتب فورستييه ان يرسم لنا صوراً مؤثرة عن وقائع الحصار الاعلامي الذي ضربته السلطة الامنية والاعلامية العراقية خوفا من نقل الحقيقة التي ادعى وزير الاعلام العراقي السابق انه يملكها.

* فندق فلسطين.. الوقائع غير المنتظرة لحرب بغداد

* المؤلف: باتريك فورستييهم

* الناشر: دار غراسيه - باريس