فلسطينيو الخط الأخضر وشبح العودة

بحث فلسطيني عن «الترانسفير الثالث» إرتباطاً بلفسفة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»

TT

يرى الباحث المتخصص في الشأن الفلسطيني غازي السعدي في مقدمته لكتاب «الترنسفير الثالث» لجهاد الرنتيسي ان محاولات الصهيونية لتهجير الشعب الفلسطيني بدأت منذ الثلاثينات، ففي عام 1944 التقى قادة الصهاينة مع سفير الاتحاد السوفيتي في لندن وطالبوه بتهجير الفلسطينيين الى العراق والذي استغرب هذا الطلب رغم تعاطف السوفييت في حينه مع المشروع الصهيوني. وبعد تأسيس اسرائيل 1948 شكلت الحكومة الاسرائيلية لجنة خاصة لطرد اكبر عدد ممكن من الفلسطينيين الى الخارج وقد نجحت في ذلك الى حد كبير، وتكرر المشهد عام 1967.

* عقدة الترانسفير

* يختلف السياسيون والمؤرخون حول نشوء فكرة «الترانسفير»، وان اتفقوا على دلالاتها وأغراضها والصعوبات التي قد تواجه تنفيذها على نطاق واسع.

ففي مقالة نشرتها صحيفة هآرتس يقول رحبعام زئيفي: صحيح انني اؤيد الترانسفير لعرب الضفة الغربية وقطاع غزة الى الدول العربية لكنني لا املك حق ابتكار هذه الفكرة، لانني اخذتها من اساتذة الحركة الصهيونية وقادتها، مثل دافيد بن غوريون الذي قال من جملة أمور اخرى «ان أي تشكيك من جانبنا في ضرورة ترحيل كهذا، وأي شك عندنا في امكانات تحقيقه، واي تردد من قبلنا في صوابه، قد يجعلنا نخسر فرصة تاريخية»، كما تعلمت هذا ـ والقول لزئيفي ـ من بيرل كتسنلسون وارنور روبين ويوسف فايتس وموشيه شاريت وآخرين.

ولكن المؤرخ الاسرائيلي بيني موريس الذي قدم مساهمات في نقد الطرق المتبعة في ترحيل الفلسطينيين خلال سنوات نكبتهم الاولى يعيد فكرة الترانسفير الى زمن أبعد مما أشار اليه زائيفي في مقالته. فالفكرة «قديمة قدم الصهيونية، وهي تستند الى المعاينة المنطقية الآتية: لا يمكن ان تتأسس دولة يهويدة قابلة للاستمرار على كامل فلسطين او على جزء منها دون تهجير اعداد كبيرة من السكان العرب». ويشير موريس الى تصريح أدلى به وزير الشؤون الخارجية البريطاني ارنست بيفن عام 1948 يرى فيه الاخير ان «فرار عدد كبير من العرب الى خارج الاراضي الواقعة تحت الادارة اليهودية سهل نوعا ما عملية البحث عن تسوية نهائية في فلسطين لان ترانسفير السكان يبدو شرطا اساسيا لتسوية كهذه».

ويصل موريس في ثاني مقالاته التي اعتبرت ارتدادا عما توصل اليه من قراءات علمية الى ان النتيجة غير الحاسمة لحرب 1948 ـ سواء كان ذلك على صعيد الاراضي او الديموغرافيا ـ وضعت اسس مأساة لا نهاية لها».

ويجد الباحث عبد الوهاب المسيري لفكرة الترانسفير جذرا في جوهر الاسطورة والعنف الادراكي الصهيوني. ويقسم المسيري في الجزء السابع من «الموسوعة الصهيونية» آليات عملية افراغ فلسطين الى «نشر الذعر» و«الارهاب الفعلي» اللذين مورسا ضد الشعب الفلسطيني قبل عام 1948. وبذلك تنتمي فكرة الترانسفير الى فلسفة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» التي استندت اليها الحركة الصهيونية في تبرير اقتلاع الشعب الفلسطيني من جذوره وجلب المستوطنين اليهود من مختلف انحاء العالم لاحلالهم في فلسطين. ولتحويل هذه الفلسفة الى واقع لا بد من تلازم عملية احلال اليهود في فلسطين واحاطتهم باجواء من الرفاهية والامن مع تفريغ المكان من سكانه الاصليين. واذا تعثر احد عنصري المعادلة يختل توازن فلسفة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» لتأخذ منحى الافكار غير القابلة للتحقق.

وحتى لا تصل الامور الى هذا الحد حرصت الحركة الصهيونية والسياسات الاسرائيلية على اعادة انتاج ظروف «التفريغ» و«الاحلال» بين الحين والآخر. ويشير المسيري في الموسوعة الصهيونية الى استخدام الصهاينة مصطلح الهابطين أو المرتدين في وصفهم لليهود الذين يرحلون عن فلسطين مما يعني ان اصحاب المشروع الصهيوني يعتبرون نزوح اليهود عن فلسطين «جريمة أخلاقية» و«خيانة للمبادئ». وبعد عامين من اعلان دولة اسرائيل اصدر الكنيست قانون العودة الذي يمنح اي يهودي في العالم حق الهجرة الى فلسطين، ويعطيه حق المواطنة فور وصوله. وفي العام 1970 ادخل الكنيست تعديلا على القانون بتعريف اليهودي بـ«المولود لام يهودية او المهتدي الى الدين اليهودي ولا يدين بدين آخر» كما نص التعديل على منح الجنسية الاسرائيلية بصورة آلية لجميع افراد الاسرة المهاجرة من غير اليهود. ولمزيد من التسهيل جرى تعديل القانون مرة اخرى بحيث لم يعد يشترط الاقامة في اسرائيل او اتقان اللغة العبرية أو حتى التنازل عن الجنسية الاخرى لاستفادة اليهود من حق العودة.

وشكل قانون العودة الذي اصدره اول كنيست اسرائيلي اطارا قانونيا للبعد الاسطوري في علاقة اليهود بالارض الفلسطينية، الا انه لم يخل من ثغرات، فعلى ضوء تعديل القانون اصبح نزوج اليهودي عن فلسطين أمرا «مقبولا اجتماعيا حيث يظهر بعض النازحين على التلفزيون الاسرائيلي ليتحدثوا عن قصص نجاحهم في الولايات المتحدة، كما تظهر في الصحف اعلانات عن شقق يرغب الاسرائيليون ببيعها استعدادا للهجرة». وهناك عوامل اكثر اثرا من تعديل قانون العودة ـ على ارتباط المهاجرين اليهود بدولة اسرائيل، فقد جرت العادة ان تتراجع نسب المهاجرين اليهود الى اراضي فلسطين التاريخية، وترتفع معدلات الهجرة المعاكسة للاسرائيليين اليهود مع تأثر مستويات المعيشة والامن في اسرائيل. والتقطت الحركة الوطنية الفلسطينية هذه المسألة منذ وقت مبكر، بتعاملها مع المرافق الامنية والاقتصادية الاسرائيلية باعتبارها اهدافا نموذجية للعمليات الفدائية. ورغم الانتكاسات التي منيت بها هذه الحركة منذ ثورة عام 1936، مرورا بالثورة التي اطلقت رصاصتها الاولى عام 1965، وصولا الى انتفاضة الاقصى التي تعد واحدا من منعطفات النضال الوطني الفلسطيني، واخفاقها في حسم المواجهة ـ نتيجة تعقيدات القضية الفلسطينية، واختلال موازين القوى، وحالة العجز العربي ـ استطاعت ابقاء فلسفة «أرض بلا شعب» على المحك.

واظهر تقرير المكتب المركزي للاحصاء في اسرائيل تراجع الهجرة بنسبة 27% خلال النصف الاول من العام الثاني لانتفاضة الأقصى. وترافق تراجع هذه النسبة مع مخاوف من ارتفاع معدلات الهجرة المعاكسة، إذ جاء في استطلاع نشرت صحيفة معاريف نتائجه في حزيران 2002 ان نصف العلمانيين في اسرائيل يفكرون بشكل أو بآخر في الهجرة. وابلغ الخبير الديموغرافي الاسرائيلي سيرجي دولافرجولا مؤتمر المجلس الصهيوني ان «نسبة هجرة اليهود من اسرائيل هذا العام ستكون اكبر من نسبة الآتين اليها، مشيرا الى ان تقديره يستند الى معطيات الهجرة التي سجلت في الثلث الاول من عام 2002.

ويتوقف فورجولا عند اسباب اخرى تساهم في تقليص هجرة اليهود الى اسرائيل مثل الزواج المختلط ليهود الولايات المتحدة ـ حزان الهجرة الاساسي ـ ووجود مشكلة في استيعاب المهاجرين، مما يدفعهم الى العودة لمسقط رأسهم.

وكثيرا ما ينتقل الجدل الاسرائيلي الى طبيعة المهاجيرن للتعبير عن جوانب قلق اخرى من المستقبل الديموغرافي للدولة. ويندرج في هذا السياق تحذير وزير الداخلية ايلي يشاي من فقدان اسرائيل لغالبيتها اليهودية وتحولها الى دولة مأوى لجميع اللاجئين وخصوصا الذين يأتون من العالم الثالث.

ويستند التحذير الى جملة معطيات وردت في احصائيات وزارة الداخلية الاسرائيلية من بينها:

ـ واحد من كل اربعة اسرائيليين ليس يهوديا.

ـ في اوساط ما يزيد على 33000 من الازواج ـ غالبيتهم من القادمين الجدد ـ كلا الزوجين غير يهودي.

ـ في اوساط ما يزيد عن 8600 من الازواج الآخرين، واحد من الزوجين غير يهودي.

واخذ الجدل حول هذه المسألة شكلا آخر خلال المؤتمر الصهيوني العالمي الذي عقد في 17 حزيران 2002.

فقد غرق المؤتمرون ـ الذين قدموا الى اسرائيل لدعم الحرب التي تشنها قوات الاحتلال ضد الفلسطينيين ـ في خلافات حول تحديد من هو اليهودي، وأسباب «تشويه طابع دولة اسرائيل» الذي حدد ملامحه ثيودور هرتسل قبل اكثر من قرن.

وتركز الخلاف حول الموقف الرسمي الاسرائيلي من القادمين الجدد الذين يعتبرون انفسهم يهودا، ولا تقبلهم المؤسسة الدينية المدعومة من المؤسسة الرسمية. فالمعروف عن المؤسسة الدينية التي يسيطر عليها التيار الارثوذكسي انها لا تقبل ابناء العائلات المختلطة أو الذين اعتنقوا اليهودية حسب شروط التيار الاصلاحي، وتصر على ان اليهودي هو المولود من ام يهودية، وان يمر معتنق اليهودية بامتحانات قاسية يفشل الكثيرون في عبورها بنجاح. وعندما يتعلق الامر بفلسطيني الخط الاخضر يأخذ القلق اليهودي طابعا هستيريا، لا سيما وان نواب الكنيست العرب يلتقون عند شعار «دولة لكل مواطنيها» لدى مطالبتهم بالمساواة.

وعبر منظر الانفصال احادي الجانب ارنون سوفير عن هذا القلق في دراسة مستفيضة بعنوان «اسرائيل: ديموغرافيا 2000/2020 ـ مخاطر وامكانيات» التي تشير الى ان 42% من اليهود مقابل 58% من العرب سيعيشـون في المنطقة الواقعة بين الاردن والبحر في سنة 2020. وتفيد دراسة بعنوان «التحول الديموغرافي القسري في فلسطين» اعدها رئيس قسم الجغرافيا في جامعة الاقصى بمدينة غزة يوسف كامل ابراهيم بان الشعب الفلسطيني سيصل الى حالة من التوازن الديموغرافي مع اليهود في فلسطين بحلول عام 2006 على الرغم من موجات الهجرة اليهودية. وتتوقع الدراسة وصول عدد السكان الفلسطينيين الى 4.467.472 نسمة مقابل ارتفاع عدد اليهود الى 5.453.100 نسمة. ونتيجة لاختلاف زوايا النظر الى المعضلة الديموغرافية الاسرائيلية ومسبباتها وتشعباتها تباينت وصفات علاجها. وتدلل هذه الوصفات على حالة اللاتوازن التي تثيرها احتمالات تحول اليهود الى اقلية في اسرائيل. ويستند هؤلاء العلمانيون في موقفهم من هذه المسألة الى ان نسبة التكاثر الطبيعي لليهود في اسرائيل والعالم لا تزيد عن 1.2%، وهي نسبة منخفضة للغاية. وفي حزيران 2002 تقدم رئيس مجلس الامن القومي عوزي ديان بعدد من الاقتراحات للحفاظ على يهودية دولة اسرائيل من بينها الاستثمار في العمل من اجل دمج فلسطيني الخط الاخضر في المجتمع الاسرائيلي. والواضح من خلال المقترحات الاخرى تأثر عوزي دايان بدراسة ارنون سوفير.

ونتيجة المؤشرات نحو استمرار الجدل حول معضلة اسرائيل الديموغرافية حيث جرى في سبتمبر (ايلول) 2002 تجديد اقامة المجلس الديموغرافي الاسرائيلي للمحافظة على طابع اسرائيل اليهودي. وبذلك يتضح ان فلسفة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» التي تنتمي اليها فكرة الترانسفير تحولت بعد مرور 45 عاما على اقامة اسرائيل الى عقدة لدى الساسة وواضعي الاستراتيجيات الاسرائيليين. ومع بقاء هذه العقدة سيظل خيار تهجير الفلسطينيين من مناطق الخط الاخضر والضفة الغربية وقطاع غزة قائما في التفكير السياسي الاسرائيلي.